| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. بهجت عباس
http://dr-bahjat.com

 

 

 

الأربعاء 10/12/ 2008

 

قصة وقصيدة (من الماضي البعيد)

خطرات من وحي نيتشه

د. بهجت عباس

في عام 1953 تخرجت من الدراسة الإعدادية (البكالوريا) بمعدل 78%. كانت هذه الدرجة تؤهلني للحصول على البعثة العلمية لوزارة النفط للدراسة في بريطانيا ، حيث أنّ كلَّ من كان يحصل على معدل 75% أو أكثر في البكالوريا يرشح للبعثة إذا شاء . لم يحدث في السّنين التي سبقت تلك السنة (1953) أنْ أخفق طالب في المقابلة (الروتينية) التي تجريها وزارة النفط ، إلا إذا كان تسلسل الطالب يتجاوز الرقم (50) ، وهو العدد الذي تخصصه وزارة النفط لبعثتها كل عام . ولما كان تسلسلي رقم (37) في القائمة التي تضم 59 طالباً (الأوائل في العراق) ، كان قبولي مؤكداً . هكذا ظننتُ ورقصت فرحاً ، فالحلم قد تحقق ! لأنّ حالتنا المالية وظروف بيتنا لا تساعد على إكمال دراستي الجامعية في العراق إلا بصعوبة بالغة. 

لذا كان الحصول على هذه البعثة هو الإنقاذ. كان موعد المقابلة في صيف تلك السّنة في مديرية شؤون النفط العامة الواقعة في شارع أبي نؤاس ، وكانت لجنة المقابلة متكوّنة من الدكتور أحمد حقي الحلّي (مدير الكتب والمناهج والإمتحانات في وزارة المعارف حينذاك) والسيّد إبراهيم الآلوسي (مدير المعادن في وزارة النفط) والمستر هوفـر ( ممثل شركة النفط البريطانية في كركوك) . كان يُنادى على الطلاب واحداً بعد واحد ،  فيدخل الطالب للمقابلة، وكنا نسأل كل طالب يخرج من المقابلة عما سئل وماذا أجاب .  مثلاً ، كان أحد الطلاب قصير القامة نحيف الجسم ، سُـئِل عن الفرع الذي يرغب بدراسته ، فأجاب : هندسة الطرق ، فقال له إبراهيم الآلوسي كيف تستطيع أنْ تحمل الأنابيب الحديد والموادَّ الثقيلةَ وأنت بهذا الجسم ؟ فأجاب الطالب: سأكون مهندساً وليس حمالاً ، فرسب في المقابلة . ولم يُقـبَلْ أيضاً الطالب النجفي السادس في التسلسل . لكنَّ طالباً (ابنَ وزير) سُئل بيش (بكم) تشتري كيلو الشاي وربع كيلو السكر (والعكس هو الصحيح،  حيث كان الشاي يباع بربع الكيلوغرام والسكر بالكيلوغرام ، لكنهم أرادوا أن يعرفوا فيما إذا انتبه إلى هذا التضليل) ، فقال لهم لا أدري ، لأني لا أذهب للتسوّق. وكان يجيب على كل سؤال يسأله مستر هوفـر بـ I don’t know  ، فقال له إبراهيم الآلوسي عندما تذهب إلى لندن فستتعلم ! وقُـبلَ.

جاء دوري مباشرة بعد هذا الطالب . سألني إبراهيم الآلوسي إذا ما كنت أدرس وحدي أو مع طلاب ، فأخبرته وحدي . فسألني لماذا وكيف ؟ أليس لك أصدقاء ؟ طبعاً لديّ أصدقاء ، أجبته ، ولكني أفضل الدراسة وحدي وخصوصاً في الأسابيع القريبة من الامتحانات خوفاً من ضياع أوقات في نكات وأحاديث لا علاقة لها بالدراسة . قلت ذلك وأنا لا أقصده ، لأن الحكم كان عسكرياً حينذاك على إثر انتفاضة تشرين عام 1952 واستلام الفريق نور الدين محمود السلطة ، ولأنَّ مدينة الكاظمية اشتهرت بسمعة الشيوعية ، بل كانت تُحسَب (قلعة الشيوعيين) ، فكلُّ كظماوي مشكوك به إلى أن يُـثبِتَ براءته ! فأيُّ اجتماع مع طلاب أو غيرهم يُحسَبُ تجمعاً سياسيّاً له عواقب غير محمودة . فقال لي : كيف إذاً تستطيع العيش في لندن وأنت تحب العزلة ؟ وعليك الاختلاط بالطلاب والناس لتتعلم اللغة . فقلت له الوضع هناك يختلف عما هو عليه هنا . سألني بعد هذا ، ولا أزال أتذكر سؤاله حرفياً إلى هذه اللحظة : سيد بهجت أنت قضيت الثانوية في الكاظمية ، فأين قضيت المتوسطة ؟ (الدراسة المتوسطة) ، أجبته على الفور وأنا أعرف ماذا سيكون: في الكاظمية أيضاً !

أما الدكتور أحمد حقي الحلّي ، فأعطاني ورقة فيها خطان متوازيان بسهمين متعاكسين في نهايتيهما  (خداع النظر) ، وسألني : أيّهما أطول ؟ قلت له ربما يكونان متساويين عند النظر ، ولكن القياس بالمسطرة أضبط . لم يسألني أيَّ سؤال بعد هذا . أما المستر هوفـر فسألني باللغة الإنكليزية لماذا اخترت الكيمياء الصناعية ، فأجبته بأنَّ بلادنا تحتاج إلى مشاريع صناعية أولاً ، ولأنَّ لي ولعاً وقدرة لدراسة الكيمياء ثانياً . طيب ، ومن تعرف من علماء الكيمياء ؟ أعرف همفري ديفي ، ذكرت له هذا الاسم بالذات لأنه إنكليزي ، وفي الواقع كان عالماً مكتشفاً . سألني : تكلم عن حياته . ولما كنت قرأت قبل هذا بأشهر كتاب الهلال (قصة العناصر في الطبيعة) ، وهي سلسلة شهرية في حجم صغير كان يصدرها الكاتب المصري جورجي زيدان مؤسس دار الهلال في مصر في الخمسينات من القرن الماضي ، ذكرت له بعض الأشياء عن حياته واكتشافه الصوديوم والبوتاسيوم عام 1807 (كان العرب يعرفون الصوديوم والبوتاسيوم قبله بقرون كثيرة، فكانوا يسمّون الصوديوم مثلاً ناترون Natrun ومن هنا جاء رمزه الكيميائي Na )، وقلت له بأنه قال حكمة عظيمة تدل على علمه وتواضعه . سألني ما هي ، فقلت أستطيع أن أذكرها بالعربية وليس بالإنكليزية ، فوافق بعد احتجاج ، فذكرتها بالعربية وترجمها الآلوسي له إلى الإنكليزية فأعجب بها ، والحكمة كما أتذكرها هي : "كلما توغلنا في الطبيعة وجدنا أنَّ أشياءً كثيرةً لم تكتشف بعد ، فما أقلَّ ما نعلم ، وما أكثرَ المجهولَ الذي لم نتوصل إلى اكتشافه بعد." لم أُقـبَلْ ، حيث حصلت على درجة 3 من 10 من كلٍّ من العراقييْن ، الحلّي والآلوسي ، وعلى 7 من 10 من مستر هوفـر ، فكان المجموع 13 من 30 . وكانت أقلُّ درجة ناجحة هي 14 من 30 ! أما سبب عدم قبولي فكان : (لا يستطيع العيش في لندن لأنه انعزالي ) !

كانت المقابلة غربلة حقاً ، فقد اختير 37 طالباً من مجموع 59 طالباً. هل كانت القضية طائفية ؟ أم سياسية ؟  أم كلتيهما ؟ ربما كانت الاثنتين معاً . لكنَّ الطلاب المجتمعين من جميع أنحاء العراق للمقابلة لم يكونوا طائفيين ، بل كان الواحد منهم يساعد الآخر دون أن يعرف من هو ومن أين أتى ، وإلى أي جهة ينتمي ، بل كانوا متحمسين للبعثة والدراسة في بريطانيا وكفى . على كل حال كان للسياسة والطائفية التي اتسم بها الحاكمون دورهما ، ولم يكن الشعب العراقي حينذاك وحتى الآن طائفياً ، عدا بعض الفئات المنتفعة والجهلاء . والواقع أنَّ معظمَ مَنْ قُبِلوا كانوا من أبناء الذوات والنخبة .

كان عدم قبولي صدمة قوية عليَّ ، فقد تناثرت الأحلام كعقد اللآلي في التراب ، وأصبح مستقبلي في مهبّ الرياح وأصبحت الكآبة تخيِّم عليّ ، فكان لفلسفة نيتشه تأثير كبير ، حيث كنت قرأت كتابه (هكذا تكلم زرادشت) من قبل وأخذت أفكر في أقواله مليّاً ، فكانت هذه القصيدة التي استوحيتها من قوله المذكور في أعلاها والحقيقة كانت ثورة نفسية عارمة مقهورة . كانت فترة الخمس سنين التي قضيتها في كلية الصيدلة عسيرة جداً ولكنّها كانت تحمل أملاً في نهاية النفق تحقق بعضه بجهد ويا له من جهد .

نُشرت في مجلة ( الصيدلي ) التي كان يصدرها اِتحاد الطلبة في كلية الصيدلة والكيمياء الملكية في كانون الأول 1953 باسم (ب. ع.) حيث كنت طالباً في السنة الأولى . صدر عدد واحد منها فقط وأ ُغلقت وفُصل من الكلية بعض كتابها ومحرريها . 

" أرسلتُ نظراتي إلى أعماق عينيك السّـاهدتين أيتها الحياة، فوقف نبضان قلبي، إذ رأيتُ الذّهبَ متوهِّـجاً فيهما، ورأيتُ مركباً ذهبياً يشـعّ ُعلى بحر الظّـلام يُـشَـدّ ُ بمهـد مُـذهبٍ مُـشرفٍ على الغرق. "  ( هكذا تكلم زرادشت – ترجمة فليكس فارس )
 

بسمَ الفجرُ، فرفَّ الـزَّهـر في خـُضـْر الرَّوابي

جـذِلاً يخـتال في بُـردِ الصِّـبا غـضَّ الإهـابِ

يمـزج العـطرَ كمـا شـاء بـأنـفـاسٍ عِـذابِ

وتـهادى السّـادرُ الجـبّـارُ يشـدو باصطخـابِ

قـطفَ الـزَّهـرَ وولـّى بين أغـصانٍ رطـابِ

أكـذا مـنْ يُـخـمدِ الأرواحَ يَسـعدْ بالرِّغـابِ ؟

والـذي ينشـرُ نَـفـْحَ الـروح في دنـيا العذابِ ؟

فرويـداً أيـّها المخـتـالُ فـي الروضِ الأغـنِّ

سوف تأتـيك الـرِّياح الهـوج تـلوي كلَّ غصنِ

حين تهوي صـارخاً مـن وطـأة الـدَّهر الغريرِ

*****************************

كم مـن الأرواح هامتْ تـَتـَنـاجى في الظَّـلام ِ

مـذ بـدا البـدر ُ كئيـباً شاحباً خلف الغَّـمـام ِ

إنّني أبصـرتُ روحيـن على بحـر الـرِّمـام ِ

قالت الأولى : أيطوي النورَ نسج ٌ مـن قَـتـام ِ؟

مـا لهذا الكوكبِ الهـائـلِ كالـزَّهرِ المُـضام ِ

فأجابتْ تلك : لا يسطيعُ يطـويه غمام ٌ مترامي

إنَـما يُـبـْصَرُ في غـيـر مكـانٍ ذا ضـرام ِ

غير أنَّ النَّفسَ قالـتْ وَهْـيَ في هـمّ ٍوحـزنِ

كمْ حِجـابٍ أسدل المـرء على فـكـر وعـينِ

في ظلامٍ دامسِ الأرجـاء كـالـرّعب المُطـيرِ؟

*******************************

ولولي ما شـئـتِ بالإعـصار يا ريحَ الشَّـمال ِ

واعصِفي بالـزَّهـر والأنـداء في مهد الظِّـلالِ

واسكـبي كـأسَ عذابٍ وانـثـُري عِقـدَ لآلـي

كم شراع ٍقـد سـرى يخـفق في بحـر الخَـيالِ

حـالم ٍ كالأفـق ِالمطـويِّ فـي صمتِ اللّـيالي

فطـواه المـوجُ فانـْهـارَ إلـى شـرِّ مـآلِ

أيّ ُ شـيءٍ صـيـَّر الزَّورق فـي تلك المجالي؟

غـيرُ أحـلام ٍتراءتْ وانـْثـنَتْ ومضاً كـفَـنِّ

أبصَـر النّـورَ وشـيكاً وانطـوى إثـْرَ التجنّي

يمـلأ ُ الأقـداحَ مَـنْ في روحه جـهلُ المصير ِ

*****************************      

ورميتُ البصرَ الشّـاردَ من خلف الحـجـابِ

فإذا الأيـّام تسـري مثـلَ أشـباح السّـراب ِ

وإذا كهلٌ تـولّـى في حضـيض الإكتـئـابِ

غـارقٌ في لجج البـؤس وأهـوال العـبـابِ

أوميضٌ من حـياة يـتـوارى في الضَّـبابِ ؟

يالكأسٍ رَقـْرقَـتْها النَّـفسُ في فجـر الشَّبابِ

وأمـانٍ مـزجتها الـروح بالـدَّمـع المُـذابِ

في خـريف العمـر أشباحٌ لأرواحٍ تُـغـنّـي

ذهبَ العـمرُ هـباءً وانـطوى فجـرُ التَّمـنّي

فَهـلُـمَّ الآنَ نـفـثا سـَوْرةَ الـدَّهـر ِالمريرِ

 

free web counter