| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالستار نور علي

 

 

 

الثلاثاء 11/10/ 2011



الشاعر ترانسترومر ونوبل

عبد الستار نورعلي

وأخيراً وبعد سنين طويلة من الترشُّح لجائزة نوبل في الأدب فاز بها هذا العام 2011 الشاعر السويدي الكبير توماس ترانسترومر . وبهذه المناسبة أنشر ثانية دراستي عنه وعن شعره (توماس ترانسترومر شاعر الأرخبيل السويدي) التي نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية عام 2002 وضمها كتابي (شعراء سويديون ، دراسات ونصوص) الذي صدر في السويد عام 2003 .

توماس ترانسترومر
شاعر الأرخبيل السويدي
عبد الستار نورعلي

الشاعر السويدي توماس ترانسترومر
Tomas Tranströmer أحد أبرز شعراء الحداثة في السويد . ولد عام 1931 في العاصمة استوكهولم . تخصص في علم النفس وعمل فيه عدة سنوات . برز شاعراً عام 1954 في مجموعته البكر (سبع عشرة قصيدة) التي لفتت إليه الانتباه شاعراً مبتدئاً مجدداً في لغته وأخيلته . وقد أشار المحرر الثقافي لصحيفة (داغنس نيهيتر Dagens Nyheter) اشهر صحف السويد حينها إليه من خلال عرضه للمجموعة بالقول :" يكتب ترانسترومر قصيدة رقيقة من الشعر المرسل المتحرر من الايقاع ." (داغنس نيهيتر 4 نيسان 1954) . يقول في قصيدته الأولى في المجموعة (استهلال) :

اليقظة مظلة أمل من الحلم
حراً من الدوامة الخانقة يهبط
المسافر نحو طوق الصباح الأخضر
الأشياء تلتهب . إنه يعي ـ في حالة قُبرة مرتعشة ـ
أنظمة جذور الأشجار الجبَّارة
للمصابيح الدائرة تحت الأرض . لكن فوق الأرض
تقف الخضروات ـ في فيضان استوائي ـ
بأذرع مرفوعة ، مصغية
إلى إيقاعات مضخات خفية . وهو
ينحدر باتجاه الصيف إلى ألأسفل
في الفوهة المضيئة إلى الأسفل
خلال فتحة الأعمار الخضر الندية
مرتجفة تحت محرك الشمس . هكذا ترتفع
هذه الرحلة العمودية خلال اللحظة ، وتتوسع الأجنحة
إلى استراحة لطائر جارح فوق ماء هائج
دويُّ بوق العمر النحاسي
الطريد
معلَّق فوق القاع الخاوية


في ساعات الصباح الأولى يتمكن الوعي أن يحتوي العالم
مثلما تمسك اليد بحجارة دافئة من وهج الشمس
وقف المسافر تحت الشجرة . فهل
بعد السقوط في دوامة الموت
سينمو ضياء باهر فوق رأسه ؟


يقول الناقد تومي أولفسون :" ليس ترانسترومر بارعاً ومليئاً بالخيال فحسب فهو كذلك لديه شئ يريد أن يقوله . " وهذا ما نلحظه في القصيدة المذكورة من معان خلف الأخيلة والصور الباهرة التي تنشط المخيلة وتدفعها لمعاينة ما وراء اللوحة الشعرية الخصبة .

لقد أظهر ترانسترومر أنه من الممكن إخضاع شكل القصيدة القديمة لمتطلبات واستجابات الحداثة في مزيج بارع ليرفعه إلى مصاف أبرع وأشهر شعراء الحداثة السويدية ومستحقاً للترشيح لجائزة نوبل في الأدب . إنه مركب نادر من الصور والأخيلة والمعاني ، وامتلاك القدرة في السيطرة على أدواته الشعرية ولغته في بساطتها المعبرة الموحية من خلال إثارة الحس والمعايشة في أجواء القصيدة دون تعقيد . يقول في قصيدة (بريد
Airmail) :

في مطاردة صندوق الرسائل
حملت الرسالة عبر المدينة.
في الغابة الواسعة من الصخر والأسمنت
تخفق هذه الفراشة التائهة بأجنحتها .

سجادة الطابع البريدي الطائرة
أحرف العنوان المترنحة
إضافة إلى حقيقتي الصامتة
تحلق حالياً فوق البحر .

فضة الأطلنطيك الزاحفة .
ضفاف الغيوم . سفينة السمك
مثل نواة حبة الزيتون المبصوقة.
و ندية هي أعماق الماء الشاحبة .
هنا في الأسفل يستمر العمل ببطء .
غالباً ماأختلس النظر إلى الساعة .
ظلال الأشجار أرقام سوداء
في هذا الصمت الجشع .

الحقيقة موجودة على الأرض
لكن لاأحد يجرؤ على ألتقاطها .
الحقيقة ملقاة فوق الشارع.
لا أحد ينسبها لنفسه .

لترانسترومر ثقة عميقة بالدواخل الأنسانية واحترام للحياة الفردية الخاصة للإنسان ، كما يمتاز شعره بالبساطة مع تكثيف الصورة الخارجية إضافة إلى بعد ديني ساحر. ففي قصيدته (أقواس رومانية) يصور زيارة لكاتدرائية في أحد البلدان الجنوبية حيث يقابل ملاكاً يحادثه وسط العتمة ليحملنا نتجول عبر كشف بواطن النفس الأنسانية :

في داخل الكنيسة الرومانية الأصيلة انحشر السواح في العتمة .
قبو مفتوح خلف قبو بلا نظرة شاملة .
حزمة من أشعة النور حلَّقت .
ملاك دون وجه احتضنني
وهمس خلال جسدي كله :
"لا تخجل لكونك إنساناً ، كنْ فخوراً !
في داخلك ينفتح قبو خلف قبو بلا نهاية .
لن تكون كاملاً مطلقاً ، وهذا الذي سيكون ."
أصبت بالعمى من الدموع
اقتادوني أمامهم خارجاً فوق باحة تغلي في الشمس
سوية مع السيد والسيدة جونز والسيد تاناكا وسنيورا ساباتيني
وعميقاً في داخلهم انفتح قبو خلف قبو بلا نهاية .

كان لطفولة ترانسترومر أثر في حياته الشعرية الموغلة في النفس والباسطة شراعها عبر الأخيلة الدفاقة المثيرة للدهشة والتأمل العميقين . انفصل والداها وهو صغير فعاش في كنف أمه المعلمة ، كما نشأ على شواطئ أرخبيل استوكهولم والريف السويدي لفترات طويلة تركت آثاراً واضحة فيما كتب . كان صديقاً حميماً لجده من أمه ذلك القبطان الذي خاض عباب البحار ، وكانت لتلك الصداقة أهمية خاصة في حياته خطت آثارها في شعره الذي نلمس فيه صور البحر والساحل والصخور والأشجار وصخب الأمواج والطيور ونستقرئ الأحاسيس الإنسانية والأخيلة الخلاقة فيها. منها قصيدته (أرخبيل خريفي) المؤلفة من ثلاثة مقاطع وهي :

* عاصفة

فجأة يلتقي المتجول هنا شجرة البلوط القديمة
الهائلة ، شاخصة مثل أيل متحجر
بقرون ضخمة أمام قلعة بحر أيلول
الخضراء الداكنة
عاصفة شمالية . ذلك في الزمن الذي تنضج
فيه عناقيد التوت . يقظاً في الظلمة يسمع المرء
وقع خطوات النجوم
في الأعلى فوق الشجرة .

* مساء ـ صباح :

إنحلت صارية القمر وتهرأ الشراع .
يحلِّق السمان ثملاً مبتعداً فوق الماء .
وحافات المراسي الضيقة باردة . الأيكة
تتأوه في الظلام .

في الخارج فوق درجات السلم . الفجر يطرق ويطرق
بوابات البحر الحجرية الرمادية فتشع الشمس
قريباً من العالم . آلهة الصيف نصف المخنوقة
تنسلُّ في دخان البحيرة .

* إيقاع منفرد

تحت سكون نقطة الصقر الحوَّام الدوَّارة
يتدحرج البحر هادراً إلى الأمام في النور
يمضغ عشوائياً لجامه من الطحالب ويصهل
مزبداً فوق الساحل .
الأرض تتغطى بالظلام مثل الخفاش
ينحدر في طريقه . الصقر الحوَّام يتوقف ويتحول إلى نجمة .
البحر يتدحرج هادراً إلى الأمام ويصهل
مزبداً فوق الساحل .

يظل توماس ترانسترومر من أبرز الشعراء السويديين الذين نحتوا بصماتهم على الأدب السويدي المعاصر بجدارة مشهودة . وقد أصيب الشاعر بالشلل الذي لم يقعده عن مواصلة مسيرته الشعرية الخصبة .

قصائد مختارة من شعره

* عميقاً في أوربا :

أنا الهيكل الشاحب الطائر بين بوابتين نهريتين
أستريح في السرير في الفندق بينما المدينة حولي تستيقظ
المنبه الصامت والضياء الرمادي يتدفقان إلى الداخل
ويرفعاني ببطء إلى المستوى اللاحق : الصباح .

الأفق يتنصت . إنهم يريدون قول شئ ، أولئك الموتى .
إنهم يدخنون ولكن لا يأكلون ،
وهم لا يتنفسون لكن يحتفظون بأصواتهم .
سأسرع عبر الشوارع مثل واحد منهم .
الكاتدرائية السوداء ، ثقيلة مثل قمر ، تخلق مداً وجزراً .


* إعلان

الهيجان الصامت يخربش على الحائط من الداخل .
شجرة الفاكهة مزدهرة ، طائر الوقواق يصرخ .
إنه خدر الربيع . لكن الهيجان الصامت
يلوِّن كلماته المؤثرة في الاتجاه المعاكس في المرآب .

نرى كل شيء ولا شيء . لكن باستقامة مثل بيرسكوب
مستخدم من طاقم منعزل تحت الأرض .
هي حرب الدقائق . الشمس الملتهبة
تنتصب فوق المستشفى ، موقف المعاناة .

نحن الأحياء مطروقون مسامير إلى الأسفل في المجتمع !
سننفكُّ يوماً من كلِّ شيء .
سنشعر برائحة الموت تحت الأجنحة
ونصبح أخفَّ وأشرس من جيش محارب .


* إلى أصدقائي خلف الحدود

لقد كنتُ شحيحاً في الكتابة إليكم . لكن ما لم يجز لي أن أكتبه
انتفخ وانتفخ مثل سفينة هواء عتيقة
وانزلق أخيراً بعيداً عبر سماء الليل .

الآن الرسالة عند الرقيب . إنه يضيئ مصباحه .
في الضوء تطير كلماتي إلى الأعلى مثل قردة على حاجز حديدي
تنتفض ، تتصلب ، و تبرز أسنانها .

إقرأوا ما بين السطور . سوف نلتقي بعد 200 عام
حيث الميكروفونات في جدران الفندق منسية
وفي النهاية يجوز لنا أن ننام ، أن نغدو كائنات متحجرة .
 

 

 

free web counter