| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالله حبه

 

 

 

                                                                                الأحد 30/9/ 2012


 

مأساة " الرفيق قسطنطين".... دون كيخوت الثورة البروليتارية

عبدالله حبه - موسكو 

فلاديمير ماياكوفسكي

من نافل القول وصف فلاديمير ماياكوفسكي ( 1894 – 1930) بأنه أبرز شاعر عرفه العهد السوفيتي في روسيا، وان الكتابة عن هذه الشخصية المعقدة المتعددة المواهب وأثرها في الأدب الروسي ليست بالمهمة السهلة. لقد تحدث اناتولي لوناتشارسكي مفوض الشعب لشؤون الثقافة في اول حكومة سوفيتية بعد قيام ثورة اكتوبر عام 1917 عن وجوب اخضاع الفن لمهام الثورة . ودعا لوناتشارسكي في مقالته " الثورة والفن"، التي نشرها في عام 1920 بمجلة " التنوير الشيوعي" إلى خروج الفنانين ورجال الثقافة الى الشوارع والى الجماهير لخدمة اهداف الثورة. وكان الشاعر الشاب فلاديمير ماياكوفسكي، أحد اعضاء حركة " المستقبليين" في روسيا، في طليعة من لبى نداء الثورة . وقال: " قبول الثورة أو عدم قبولها ؟ لم يكن هذا السؤال مطروحا لدي، أنها ثورتي"، وكذا الحال بالنسية  للمستقبليين الآخرين في موسكو. علما ان الهدف الذي حدده لوناتشارسكي هو"توحيد" الجماهير بواسطة الفن. بيد ان هذا الهدف لم يتحقق كلياً فيما بعد، لأن التوحيد المرحلي والمؤقت بين الجماهير والفن لا يقود الى خلق المجتمع الذي تحلم به هذه الجماهير ، وتكوين تنظيمات تصبو الى تغيير ظروف الانتاج والعمل.

وقد استجاب الكثيرون في حينه الى دعوة لوناتشارسكي برسم لافتات ضخمة واقامة العروض المسرحية في الميادين وتنظيم ندوات جماهيرية يلقي فيها الشعراء قصائدهم في دعم الثورة وفضح عيوب النظام الرأسمالي. لكن لم يدر في خلد المُنظّر الاول للمشروع الثقافي البلشفي ان الفن لا يمكن ان يخضع لضرورات مرحلة تأريخية ما ، وان الفنان يبقى كمرآة تعكس حقيقة الاوضاع الراهنة في مجتمعه. لقد قامت ثورة 17 اكتوبر لتحقيق مهام العدالة الاجتماعية كما صورها كارل ماركس وحاول لينين تطبيقها في الاعوام الاولى لقيام الثورة بإستحداث مؤسسة السوفيتات(المجالس الشعبية). وكان ماركس قد حذر من وجود الدولة – الهراوة المسلطة على رقاب الناس ، ودعا الى تصفيتها واستبدالها بمجالس شعبية منتخبة تمثل مصالحهم وأمانيهم. ولكن سرعان ما تحولت المجالس السوفيتية في خضم الصراع على السلطة بين ستالين وتروتسكي وزينوفييف وغيرهم الى كيانات تابعة الى الحزب، وفقدت أهم صفة لها أي كونها ممثلة لمختلف شرائح المجتمع. وصار اعضاء المجالس يُنتخبون بتوجيهات من المنظمات الحزبية. وتشكل جهاز بيروقراطي لإدارة شئون الدولة الجديدة سرعان ما انضم اليه الكثيرون من موظفي الدولة القيصرية الذين استبدلوا بسهولة هويتهم واعلنوا تأييدهم للنظام الجديد بغية الحصول على وظيفة ما. وهذا ما يحدث في اثناء جميع الثورات والانقلابات في البلدان الأخرى. علما ان هذا الجهاز البيروقراطي المؤلف من منظمات الحزب والمؤسسات الادارية مارس دورا رئيسيا  في انهيار الاتحاد السوفيتي لاحقا. وسقط ضحايا  له الملايين من الناس بينهم ممثلو النخبة من مفكرين وعلماء وكتاب وفنانين وقادة عسكريين ورجال دين. وكان فلاديمير بوتين الشاعر المتحمس للثورة الاشتراكية بين ضحاياه.

لقد إنهار الاتحاد السوفيتي منذ أكثر من عشرين عاما وأزيلت تماثيل رموزه من غالبية الميادين والاماكن العامة، وخلت المكتبات من نتاجاتهم. بينما بقي في ميدان النصر مقابل شارع تفيرسكايا ( غوركي سابقا) بموسكو تمثال ماياكوفسكي شامخا، حيث يبدو وكأنه يريد إلقاء قصيدة جديدة. كما بقي متحف ماياكوفسكي عند مبنى "كي.جي بي." السابق حيث توجد الغرفة التي لقي فيها الشاعر السوفيتي المتمرد حتفه منتحرا في ظروف غامضة. وترددت اشاعات بأن مصرعه تم بتدبير " الجهاز البيروقراطي" الحزبي الذي ضاق ذرعا بإنتقاد ماياكوفسكي له في اشعاره ومسرحياته. وعموما ان الفترة السوفيتية شهدت انتحار شعراء وكتاب آخرين منهم سيرغي يسينين ومارينا سفيتايفا والكسندر فادييف للأسباب ذاتها.

وماياكوفسكي يشغل حتى الآن مكانة بارزة في الأدب الروسي، وقد وضعه الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر، الذي ترجم بعض أعماله، ضمن ثلاثي أكبر شعراء في روسيا الى جانب الكسندر بوشكين والكسندر بلوك. كما مارس ماياكوفسكي تأثيا كبيرا على شعراء القرن العشرين مثل كيرسانوف ويفتوشينكو وفوزنيسينسكي  وروجدستفينسكي والشاعر المنشد فلاديمير فيسوتسكي وغيرهم . وحاول الكثيرون تقليد ماياكوفسكي في اقامة امسيات شعرية في صالة متحف البوليتكنيك بموسكو لكشف مواهبهم في النظم والالقاء على حد سواء .

ولد فلاديمير ماياكوفسكي في 7 تموز عام 1894 في بلدة بغدادي (بغداد بلهجة أهل المنطقة) بمحافظة كوتاييسي في جورجيا في أسرة حارس غابات . وذكر الشاعر في سيرة حياته بعنوان " هذا أنا نفسي"، انه عاش مع شقيقتيه لودميلا واولجا في بيت ريفي يقع في اطراف الغابة. وكان يحب في طفولته مطالعة مجلة " الوطن" الهزلية المليئة بالرسوك الكاريكاتورية و"يطق من الضحك" لدى رؤية " العم يقبل العمة". وظهرت لديه آنذاك موهبة نادرة في حفظ الاشعار. وكان والده يفتخر أمام الزائرين بموهبة إبنه ويرغمه على إلقاء القصائد أمامهم. وأحب في طفولته الغابات والجبال المحيطة بالمكان والتي كان والده يصطحبه معه الى هناك على ظهر حصان. ونظرا لعدم وجود مدرسة في المكان، حصل الصبي على معلوماته الاولية في الرياضيات حين كانت أمه تحسب معه التفاحات والكمثرات. وتعلم في البيت أيضا القراءة والكتابة، وكان أول كتاب طالعه في صباه دون أن يفقه الكثير مما ورد فيه مرات عديدة هو رواية" دون كيخوت" لسرفانتس. وصنع آنذاك سيفا ودرعا من الخشب وتوجه لمقارعة الطاحونة.

وعندما انتقلت العائلة في عام 1901 الى مدينة  كوتاييسي، إلتحق الصبي بمدرسة دينية. وقد كره في تلك المدرسة كل ما هو كنسي وسلافي بسبب جمود المقرر الدراسي وارغامه على حفظ النصوص الدينية والكلاسيكية. ولربما كان هذا سبب تقبله لافكار "المستقبليين" وانضمامه الى صفوفهم لاحقا. ولكنه أنكب حينئذ في كوتاييسي على المطالعة وأعجب بأعمال جول فيرن الخيالية وروايات سالتيكوف شيدرين الساخرة. وشهد ماياكوفسكي في تلك الأيام أولى المظاهرات ضد السلطة القيصرية التي نظمها في المدينة الفوضويون والاشتراكيون الثوريون والفيدراليون وغيرهم . واندلعت ثورة عام 1905 .

وفي عام 1906 وقعت كارثة في العائلة حيث توفي الأب في حادث مؤسف حين انغرزت ابرة في اصبعه لدى خياطة جلد واصيب بتسمم في الدم. وعانى افراد العائلة من العوز والفاقة، فباعت الأم ما بقي من أثاث وحاجيات البيت وانتقلت مع اطفالها الى موسكو . واستأجرت العائلة بيتا اصبح بمثابة فندق للطلاب (الفقراء)، وكانت الأم تقدم لهم وجبات الطعام لكي تكسب شيئا من المال من أجل الانفاق على اطفالها. كما ان الصبي فلاديمير صار يكسب بعض المال من بيع بيض عيد الفصح بعد زخرفته الى احد دكاكين الممنطقة. والتحق بالمدرسة المحلية في السنة الرابعة ولكنه كان متخلفا في الدراسة. وقد تأثر بأحاديث الطلاب المستأجرين في بيتهم، واغلبهم من ذوي الميول الاشتراكية. ولهذا بدأ في سن مبكرة بالجلوس في الصف وقراءة كتاب انجلس " ضد دوهرنك" من تحت الطاولة. واضطر لترك المدرسة بسبب التأخر في استيعاب المواد المقررة ، وإلتحق  باستديو لتعليم الفنون التشكيلية أملا في ان يصبح رساما، لاسيما بعد ان رفضت الصحف نشر قصائده الاولى. لكن الافكار الثورية واحلامه في تغيير المجتع حالت دون تحقيق هدفه في الفن. وكان فشل ثورة عام 1905 قد ترك  آثارا عميقة في المجتمع الروسي الذي كان ينتظر بالرغم من كل شئ حدوث انقلاب وتحطيم الاشكال التقليدية في حكم البلاد.  ونشطت الاحزاب والمنظمات الثورية ومنها حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي الذي انضم ماياكوفسكي إليه في عام 1908، وانخرط في العمل الثوري بالاسم الحركي " الرفيق قسطنطين". وكلف بمهام الدعاية للحزب في اوساط الخبازين وصانعي الاحذية ثم عمل في مطبعة سرية.

 ونظرا لعدم إلتزامه بقواعد العمل السري، ألقي القبض عليه ثلاث مرات. وبقي في السجن الانفرادي آخر مرة 11 شهرا. وذكر ماياكوفسكي ان فترة السجن هذه كانت خير مدرسة له حيث سنحت له الفرصة لمطالعة الكثير من الكتب التي كانت شقيقته تزوده بها مثل مؤلفات شكسبير وبايرون وهوجو وغيرهم. وقرأ اعمال الكتاب الروس وفي طليعتهم تولستوي، ولو انه لم يكمل مطالعة رواية " آنا كارينينا" بسبب الافراج عنه بوساطة صديق قديم لأبيه هو س. محمود بيكوف الذي كفله أمام السلطات. كما بدأ في السجن المحاولات لنظم الشعر. وحسب قوله انه كان سعيدا عندما صادر السجان الدفتر الذي دون فيها هذه الاشعار لأنها لم تكن محاولات ناجحة. وبعد خروجه من السجن قرر ان يواصل التعليم وترك العمل الحزبي، ولو انه حافظ على إيمانه بالشيوعية. والتحق في عام 1911 بمعهد التصوير والنحت والعمارة بموسكو حيث تعرف على دافيد برليوك الرجل الواسع الاطلاع الذي أحدث انقلابا في حياته كلها.

وروى ماياكوفسكي فيما بعد كيف انه كان يتنزه ليلا مع صديقه الجديد في بوليفار سترينسكي بوسط المدينة فحدثه هذا عن الحركة المستقبلية التي بدأت بالانتشار في الاوساط الفنية والادبية، بينما تحدث ماياكوفسكي عن وجوب التغيير وحتمية انهيار النظام القديم. وصار ماياكوفسكي يردد مقاطع من قصيدة لم تكتمل وزعم ان ناظمها احد معارفه. لكن برليوك قاطعه بقوله "بل انت نظمتها وانت شاعر عظيم". وفي صباح اليوم التالي عرّفه على احد اصدقائه بقوله:" هذا الشاعر الشهير ماياكوفسكي"، رغم معارضته له بلكزة من مرفقه. وعندما إنصرف الصديق قال برليوك لماياكوفسكي:" الآن أكتب ، وإلا ستضعني في موقف حرج". وهكذا اضطر ماياكوفسكي لنظم الشعر يوميا برقابة شديدة من برليوك الذي كان يعطيه يوميا 50 كوبيكا بغية الا يكون جائعا ولا يستطيع الكتابة. كما كان يزوده بالكتب للمطالعة. واعترف ماياكوفسكي لا حقا بأن برليوك هو صديقه الحميم واستاذه الذي صنع منه شاعرا. وتعرف عن طريقه على الشعراء والادباء من انصار " الحركة المستقبلية" (فوتوريزم)، ومنهم خليبنيكوف وكامينسكي الذين كتبوا مع الاخوين برليوك أول بيان لهم في عام 1913 بعنوان "صفعة الى الذوق العام" حيث رفضوا فيه كل منجزات الادب والفن الروسي والعالمي.

ومن المعلوم ان الحركة المستقبلية نشأت في ايطاليا، وأسسها مارينيتي في عام 1909 الذي زار روسيا في بداية العشرينيات وتأثر به العديد من الشعراء والادباء الروس. ودعا مارينيتي الى تشويه الكلمات واستعمال "لغة التلغراف"، ونبذ الاعراب واستخدام المصطلحات الرياضية والموسيقية، ورفض التقاليد الجمالية والادبية الكلاسيكية عموما. وقد تحولت الحركة "المستقبلية" الايطالية فيما بعد الى دعم موسوليني والنظام الفاشي. اما في روسيا فكان لها منحى آخر، اذ لم تستطع التحرر من النزعة الانسانية المميزة للادب الروسي ورجالها العظام مثل بوشكين وجوجول وسالتيكوف شيدرين وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وغوركي. ولهذا اكتفوا فقط بإستعارة الجانب الشكلي للحركة، كما رفضوا الثقافة البرجوزاية المبتذلة الأمر الذي جذب الشاب ماياكوفسكي بصورة خاصة لأنه كان قريبا من الحركة الثورية الداعية الى التغيير والتي نضجت غداة الحرب العالمية الاولى. وقد أشار الرسام الروسي الكبير ايليا ريبين الذي كان ينفر من الحركة المذكورة حين استمع مرة الى إلقاء قصيدة " غيمة في بنطلون" احدى خيرة قصائد ماياكوفسكي من قبل الشاعر نفسه، الى انها عمل رائع وليس هناك اي شئ " مستقبلي" فيها. لكن الحركة بدأت مع ذلك تجذب الانتباه وصارت الصحف تنشر اخبار " المستقبليين " وأعمالهم والنقد العنيف لهم. ولكنها اصبحت بمثابة " موضة" بالاخص بعد انحسار موجة الرمزية التي كان يتزعمها في روسيا الشاعر الكسندر بلوك.

ونظرا لسوء الاحوال المالية فقد لجأ ماياكوفسكي من أجل حذب الانظار اليه الى تغيير لباسه البائس بإرتداء ملابس تجذب اليه الانظار فحسب. فظهر أمام الناس بقيمصه الاصفر الشهير. وكتب ماياكوفسكي في السيرة الذاتية يقول:" لم تكن لدي بزات أنيقة ابدا. وكان لدي قميصان يثيران الاشمئزاز. والوسيلة المجربة لتعديل الوضع هو وضع ربطة عنق. لكن لم تتوفر لدي النقود لشرائها. فأخذت من شقيقتي شريطا أصفر. وجعلته كربطة عنق. فأثارت هذه الربطة ضجة. ومعنى ذلك ان اكثر ما يثير الانتباه في الانسان ، واجمل شئ فيه ، هو ربطة العنق. ويبدو أنه اذا ما أن توسعت ربطة العنق حتى أثارت الانتباه أكثر. وبما ان مقايسس ربطة العنق محدودة لجأت الى الحيلة فحولت ربطة العنق الى قميص والقميص الى ربطة عنق . فتولد أنطباع لا نظير له". وعندما رأى مدير معهد الفنون الأمير لفوف هيئته هذه، طلب منه نزع القميص وألا فمصيره الطرد. وقد آثر ماياكوفسكي ترك المعهد. وبدأت مرحلة جديدة من حياته قام مع رفاقه فيها بجولات في انحاء روسيا، وكان يلقي فيها الاشعار ويتحدث في الامسيات الادبية بالرغم من مطاردة السلطات التي كانت تطلب منه عدم المساس بالسلطة وبوشكين. لكن الناشرين رفضوا اصدار أي عمل له. ولدى عودته الى موسكو كان يقضي لياليه في البوليفارات. وانجز خلال هذه الفترة كتابة تراجيديا " فلاديمير ماياكوفسكي"، التي اخرجت في بطرسبورغ وقدمت وسط صفير الجمهور واستنكاره. كما بدأ بكتابة " غيمة في بنطلون" التي نضجت فكرتها حينئذ وتنبأ فيها بالثورة القادمة.

وعندما نشبت الحرب العالمية الاولى، أراد التطوع لكن رفض طلبه بسبب تأريخه الثوري ودخوله السجن. فهو شخص لا يؤتمن. وكتب الشاعر يقول:" ان الحرب كريهة . ومؤخرة الجبهة كريهة بقدر أكبر". وجاء في قصيدته عن الحرب:"آه ، أغلقوا عيون الصحف".

وحدث مرة ان انجذب ماياكوفسكي الى لعب القمار وكسب 65 روبلا فسافر الى فنلندا. وهناك إلتقى الكاتب والناقد كورني تشوكوفسكي الذي انجذب اليه كشاعر بالرغم من بغضه للمستقبليين عموما لكونهم  يمثلون التيارات النهيلستية في الشعر ويتصنعون في مظهرهم الخارجي، واعتمادهم طريقة التعامل مع الجمهور بالاساليب المبتذلة فقط من أجل جذب المشاهدين والسامعين اليهم . حقا انه كان معجبا بإشعار يلينا غورو وفاسيلي كامينسكي وخليبنيكوف ودافيد بورليوك وغيرهم من المستقبليين، لأن قصائدهم تجسد الاصالة في الرؤية والجدة في تطويع الكلمات للغة الشعر الايقاعية الغنائية. وباعتقاده انهم يواصلون تقاليد الادب الروسي الواقعي بالرغم من كل ما يعلنونه من الانتماء الى المستقبلية. وذكر تشوكوفسكي ان ماياكوفسكي فرض نفسه على الساحة الادبية حين قدم في شتاء عام 1913 في لونا بارك عرضا مسرحيا بعنوان " فلاديمير ماياكوفسكي " مثّل فيه الدور الرئيسي. وازدحمت القاعة بالجمهور الذي جاء بعضهم للصفير والصراخ والتلويح بالقبضات، بعد ان ذاع صيت الشاعر بأنه يستفز الجمهور في أمسياته .  لكنهم وجدوا هذه المرة انسانا ذا صوت شاعري يشكو من قسوة الحياة وخلوها من أي معنى . وأصيب الكثيرون بخيبة أمل ، لكن بدا جليا للعيان لدى النقاد ان شاعرا عملاقا يتمتع بقوة شاعرية عظيمة قد ظهر في روسيا. وكان الشاعر في تلك الايام يعاني من الفقر الشديد وربما كان الاثاث الوحيد في غرفته هو المسمار الذي كان يعلق عليه قميصه الاصفر. ولم توجد حتى طاولة يجلس عليها للكتابة. وعبثا حاول ماياكوفسكي طبع اشعاره اذ لم يرغب احد من الناشرين بالمجازفة بنشرها. علاوة على ذلك كان الرقيب يبدي تشددا في التعامل مع قصائد مايكوفسكي الخالية من الفوارز وحتى الكلمات كانت خالية من علامة التسكين الواجبة آنذاك ، بل توقف الرقيب عند كل عبارة خشية ان تتضمن تعريضا بالسلطة او احد المسئولين . ولذا كان المجال الوحيد امام ماياكوفسكي هو إلقاء اشعاره في المقاهي الشعبية او النوادي الصغيرة التي يرتادها الشباب. وهكذا ذاع صيته في كافة انحاء روسيا.

وفي بيت تشوكوفسكي الريفي على ساحل الخليج الفنلندي ذي الطبيعة العذراء، كان ماياكوفسكي يمضي جل وقته في النزهة والعمل في آن واحد . وهناك نظم قصيدته " الاحبار الثلاثة عشرة" (سميت فيما بعد " غيمة في بنطلون"). وكان قد بدأ بنظم المقاطع الاولي منها وتتضمن اربعة اقسام :" ليسقط حبكم" و"ليسقط فنكم" و"ليسقط نظامكم". وعمل بدأب واحيانا كان نظم البيت الواحد من القصيدة يتطلب منه عدة ساعات. وفي المساء يعيد النظر فيه . علما انه عمل بدون ورقة او دفتر .. وكتب كل ما دار في خاطره على علب السجاير. ان ذاكرة ماياكوفسكي القوية، ساعدته في استعادة كل ما نظمه او حفظه لغيره من الشعراء. وحدث مرة في اثناء اللقاء مع صديق له ان تلا جميع اشعار الديوان الثالث لبلوك صفحة بعد صفحة كما ترد في الديوان. وكتبت ليلي بريك عشيقته في مذكراتها ان ماياكوسكي كان معجبا جدا بأشعار اخماتوفا ويطالعها يوميا تقريبا ويرددها في احيان كثيرة. وحدث ان زارته بعد فترة قطيعة طويلة فاستقبلها ببيت من قصيدة لأخماتوفا جاء فيها :

                   جاءت الى الشاعر ضيفة

                  في منتصف النهار تماما. في يوم الأحد.

وهكذا شأنه فكان يردد اشعار غيره من الشعراء الكبار في مختلف المناسبات . فإستخدم لدى

استقباله  ليلي بريك في الايام الاولى لتعارفهما مقطعا من قصيدة لبوشكين:

                أنا أعلم ان قدري محسوب مقدما،

                لكن يجب علي بغية إطالة حياتي

                أن أكون واثقا في إطلالة الصباح،

                بأنني سأراك ساعة الظهر.  

ووصف احد النقاد شعره بأنه " صرخة مدوية حول العالم غير الموفق"، فقصائده تمثل نذيرا بوقوع هزات وكوارث اجتماعية، وتنبأ منذ عام 1915 بانهيار الامبراطورية الروسية.

وكان في ارتجاله الاشعار ظاهرة فريدة في تلك الايام. وبإعتراف ماياكوفسكي نفسه فإنه كان طوال النهار يبتكر الالفاظ التي يستخدمها في نظم الاشعار حتى عندما يتنزه في الشارع او يجلس في مقهى او يلعب القمار. وقال حول عمله كمؤلف :" ان العمل يجب ان يستمر بلا توقف. واذا أردت  ان تنظم الشعر فينبغي ان ترفد خزانتك  ومستودع  جمجمتك بإستمرار ، بالالفاظ اللازمة والمعبرة والفريدة  والمبتكرة والمتجددة وكافة الالفاظ الاخرى". وهكذا كان ديدنه في العمل على ان يملأ " المستودع " في جمجمته هذا من الصباح وحتى المساء.

ووصف مكسيم غوركي ابداع ماياكوفسكي قبل الثورة بقوله:" ان الشاعر يصبو الى الاندماج مع الجماهير وتأكيده على " الأنا " يفهم منها فقط كونها رمزا للجماهير التي انهضتها الحرب وأثارت هواجسها. انه مأساوي حتى النخاع ، وحين يطرح قضايا الضمير الاجتماعي والمسئولية الاجتماعية ، فهو يجسد باروع شكل الروح الوطنية الروسية ".

عندما قامت الثورة البرجوازية في 27 فبراير/شباط عام 1917 ، أدرك ماياكوفسكي بحدسه الداخلي انه ستعقبها ثورة أخرى هي الثورة الاشتراكية. وقد صدق حدسه حين قامت هذه الثورة في اكتوبر وكان يومئذ في بتروغراد ( سانكت- بطرسبورغ حاليا). ولم يتردد الشاعر في الانضمام الى الثورة وتوجه الى مقرها في قصر سمولني، وعرض نفسه للقيام بأي عمل. ثم سافر الى موسكو وصار يلقي اشعاره في " مقهى الشعراء" الذي عمل مع رفاقه في ترميم مبناه القديم وتزيينه بالرسوم الجدارية مستغلا موهبته كرسام أيضا. وكان اسلوبه في إلقاء الشعر يجذب الناس من الجيل القديم والجديد. ولم يكن احد يضاهيه في هذا المضمار حتى كبار الممثلين المحترفين. فله اسلوبه الخاص في الالقاء وانتقاء نبرة صوت لكل كلمة يلقيها. علما ان كل نشاطه ايامذاك ارتبط بالسياسة، بالرغم من انه لم يعد عضوا في حزب البلاشفة. لكنه اعتبر قضية انتصار الشيوعية قضيته مثل كثيرين من الشعراء والادباء الحالمين بمستقبل أفضل آنذاك.

وكان قد كتب في الأيام الاولى لثورة فبراير قصيدته " الثورة"، وألقى سلسلة محاضرات بعنوان " بولشفيو الثورة". وبدأ بكتابة ملحمته " مستيريا – بوف". وبعد ثورة أكتوبر بدأ نشاطا لا مثيل له في إلقاء القصائد الثورية في "مقهى الشعراء" وكتابة السيناريو لأفلام شارك فيها نفسه كممثل ورسم الملصقات الجدارية للأفلام. وسرعان ما أدرك ان روسيا السوفيتية انشغلت في الحرب الاهلية ، ففي عام 1918 حارب الشيوعيون في جبهات القتال بينما بقي في دائرة " البروليت كولت" المسئولة عن النشاط الثقافي عناصر مسايرة للوضع فارسلوه الى ارخانغلسك لصيد السمك.

المخرج المسرحي فسيفولود مييرهولد

في هذه الفترة تعرف ماياكوفسكي على المخرج المسرحي فسيفولود مييرهولد، وهو من عائلة المانية لوثرية استقرت في روسيا منذ القرن التاسع عشر، والذي كلفه لوناتشارسكي بالاشراف على النشاط المسرحي. وكان مييرهولد أيضا من دعاة بناء  مسرح جديد يطابق أهداف الثورة البلشفية. وسرعان ما أخرج مسرحية ماياكوفسكي " ميستيريا – بوف"، حول كفاح الشعب من اجل الحرية ، وكان العرض خليطاً من الفكاهة والدعاية للافكار الثورية. وصمم الديكور للعرض الرسام المجدد كازيمير ماليفيتش صاحب لوحة " المربع الأسود" الشهيرة. بيد ان الانتلجنسيا المنضوية تحت لواء الحزب عارضت تقديمها ولم تشهد النور على خشبة المسرح سوى ثلاث مرات. وأعيد أخراجها بصيغة جديدة في عام 1921 بمناسبة انعقاد المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية. وصار الشاعر يقدم المسرحية وقصائد أخرى في المصانع حيث يلقى الاستحسان في كل مكان. وحازت على الاعجاب بصورة خاصة قصيدته "مائة وخمسون مليونا"، التي نشرت في البداية بلا إسم. وبدأت صحيفة "ازفستيا" بنشر قصائده. ونشط في العمل في اعداد رسوم ونصوص النشرة الاعلامية " اوكنا روسيا "، التي تحولت فيما بعد الى وكالة انباء "تاس" السوفيتية. بينما أسس منظمة " الجبهة اليسارية" ( ليف) التي رفعت شعارات المستقبليين بطابع ثوري يتماشى مع الاوضاع في البلاد، ولو ان هذا لم يرق للمسئولين في اللجنة المركزية للحزب. وقام بجولات في انحاء البلاد زار خلالها عدة مدن ألقى فيها القصائد والمحاضرات. وانجز قصيدته " لينين"المكرسة الى زعيم الثورة، والقصيدة الدعائية " البروليتاري الطائر".

وسمحت السلطات له للقيام بجولة في اوروبا وامريكا نشر بعدها كتابه " إكتشافي لأمريكا" وقصائد " اسبانيا" و" المحيط الاطلسي" و" هافانا " و" المكسيك" و امريكا". ولدى عودته الى الوطن، انشغل بالعمل الصحفي بنشر تعليقات في "ازفستيا" و" ترود " و"رابوتشايا موسكفا" و" زاريا فوستوكا" وغيرها. وكانت مقالاته الساخرة حول الاوضاع الاجتماعية ونقده للبيروقراطية السوفيتية تثير حفيظة بعض العاملين في مفوضية الثقافة الذين نقلوا شكواهم الى القيادة الحزبية. وكتب قصيدته " حسنا " التي نشرت، ولكن لم تنشر قصيدته الأخرى " سيئا"، ولا يعرف مصيرها سوى بعض المقاطع منها التي ينتقد فيها عودة المجتمع  الى عادات البرجوازية الصغيرة المبتذلة. وقوبلت مسرحياته " ميستيريا- بوف " و " الحمامات " و" البقة" بالامتعاض من جانب الموظفين الحزبيين. وكان يسمح بعرضها مرة ثم يمنع العرض مرة أخرى. واضطر ماياكوفسكي الى تغيير اسم منظمته الجبهة اليسارية "ليف" الى "الجبهة الثورية للفنون"، وحتى أنه وافق على الانضمام الى " الاتحاد الروسي لكتاب البروليتاريين" الذي كان يناصبه العداء.، وبالاخص ليوبولد افيرباخ مؤسس الاتحاد القريب من جهاز الامن حيث كانت زوجته شقيقة رئيس الجهاز  ياهودا. وكان قد بدأ بالتقرب من ماياكوفسكي رجل الأمن اغرانوف نائب رئيس القسم السري في جهاز الأمن الذي كان غالبا ما يزوره في بيته ويشارك في  لقاءات الشاعر مع اصدقائه. ويعتقد انه المسؤول الاول عن انتحار ماياكوفسكي، حيث اهداه المسدس الذي اطلق منه الرصاص على صدره.

ان اعمال مايكوفسكي الرئيسية هي" غيمة في بنطلون" و" الحرب والسلم" و"150000000" و" فلاديمير ايليتش لينين" و" حسنا" و" بأعلي صوتي" و" فلاديمير ماياكوفسكي " و" النشيد العسكري اليساري" وغيرها من مئات القصائد، ومسرحية "ميستيريا – بوف " و" الحمامات" و" البقة "، والسيناريوهات السينمائية ومنها " الفتاة والشقي" التي تعكس مختلف مراحل تطور ابداع الشاعر. بيد انها جميعا تشبه الملصقات الاعلانية الصارخة التي تدعو الى اشاعة العدل والمساواة  بين الناس، ونبذ ابتذال الطبقة البرجوازية والنفاق الاجتماعي مهما كانت المسحة التي تتخفى وراءها سواء اخلاقية أو دينية. واعتبر ماياكوفسكي أن نزعة البرجوازية الصغيرة في اجهزة الحزب والدولة والامن بصورة خاصة كارثة، ونشكل الخطر الاكبر على المجتمع الجديد . وقد ارتكز ابداعه على ثلاثة عناصر: الشاعرية ونقد عيوب المجتمع والدعاية لبناء عالم جديد يجلب للسعادة للجميع اي الشيوعية المأمولة. لكنه آمن في الوقت نفسه بحرية الابداع ولم يقبل بأية تكليفات حزبية لنظم قصيدة في المناسبات. وقد حظيت غالبية أعماله بإعجاب الجمهور والقراء. وحتى لينين الذي كان لايحب " بدع المستقبليين"، أبدى اعجابه بقصيدة عنوانها " الغارقون في الاجتماعات " والتي نشرها ماياكوفسكي في عام 1922، وأدان فيها البيروقراطية الحزبية السوفيتية. وقال لينين في خطبة له:" بالأمس قرأت  بالصدفة في " ازفستيا" قصيدة لماياكوفسكي  ذات موضوع سياسي. إنني لست من المعجبين بموهبته الشعرية ، ولو إنني اعترف كليا بأنني لست ضليعا في هذه الأمور. لكنني لم أشعر منذ وقت بعيد بمثل هذا الارتياح من وجهة النظر السياسية والادارية. فهو  سخر في قصيدته من الاجتماعات، وهزأ بالشيوعيين  الذين يجتمعون ويجتمعون بإستمرار بلا فائدة. انا لا فهم فيما يخص الشعر، لكنني من الناحية السياسية أعتبر ذلك شيئا صائبا تماما" . وبرأيه ان ماياكوفسكي شاعر مبدع وضرب على الوتر الحساس، وعلى كل ما يعرقل تطور الدولة السوفيتية. ولهذا ما كان بوسع ستالين بعد رحيل ماياكوفسكي سوى تكرار قول لينين واصدار الأمر الى المسئولين بتخليد ذكرى "شاعر عظيم". فبدأت دور النشر بأصدار اعماله وادرجت قصيدته حول لينين في المقررات الدراسية. وفيما بعد اقيم نصب له بموسكو ومدن اخرى، واطلق اسمه على المكتبات والمسارح والمدارس في مختلف ارجاء الاتحاد السوفيتي.

قد أراد ماياكوفسكي في عام 1930، حين انتهت المعركة الحامية للصراع على السلطة بإنتصار ستالين على مجموعة تروتسكي وزينوفييف وكامينيف والتي استمرت حوالي خمسة أعوام ان يجنح الى السلم والتوافق مع السلطة والآخرين . لكنه وجد المضايقات المتزايدة من السلطة ونبذ الاصدقاء له. وفي آخر قصائده التي لم يتمها بعنوان " بأعلي صوتي" المكرسة الى الخطة الخمسية، بدا وكأنه يودع العالم  بجرأة وجسارة وبصوت عال ويخاطب الاجيال القادمة بثقة بأن شعره سيبقى ذا قوة لا تقهر بقوله :

                 ايها الرفاق المحترمون من الجيل القادم

                 انكم  حين تنبشون

                 في ...... المتحجر لهذا

                 اليوم

                 وتدرسون أيامنا هذه،

                 ربما ستسألون عني أيضا ،

                 إن شعري سيصلكم

                 عبر ذرى القرون

                 وفوق رؤوس

                 الشعراء والحكومات.

ليلي بريك عشيقة ماياكوفسكي

لقد كتب الكثير عن علاقة ماياكوفسكي بليلي بريك المرأة اللعوب التي افلحت في ربط الشاعر بأواصر حب غريبة تبدو احيانا غير صادقة . انها كانت زوجة اوسيب بريك الباحث اللغوي وفي الوقت نفسه اصبحت عشيقة لماياكوفسكي وعاشا الثلاثة سوية. وقد تعرف عليها عن طريق شقيقتها ايلزا التي اصبحت فيما بعد زوجة لوي اراغون. وكان الشاعر المحتاج الى حنان المرأة لا يستطيع فراقها، وفي الوقت نفسه لا يجد مانعا يحول دون مغازلة أخريات . وفي الواقع، غدت ليلي في نهاية المطاف بالنسبة له بمثابة" المربية" التي تعني به. ووقع في السنوات الاخيرة في حب تاتيانا ياكوفليفا ابنة احد المهاجرين الروس في باريس التي آثرت الزواج من احد النبلاء هناك مما جعل ماياكوفسكي يصاب بهزة نفسية. وارتبط في موسكو بعلاقة حب غريبة ايضا مع الممثلة بولونسكايا زوج احد الممثلين في مسرح موسكو الفني، والتي كانت أول من شاهده مضرجا بالدماء بعد انطلاق الرصاصة في غرفة مكتبه في لوبيانكا. ان اسلوب حياة ماياكوفسكي غير المستقر، حال دون تكوينه لعائلة وانجاب الاطفال كغيره من الناس. ولكن ماياكوفسكي كان يتعطش الى الحياة ، واختلفت النساء اللواتي عاشرهن واختلفت القصائد المكرسة لهن. والمرأة بالنسبة له ليست واقعية انها امرأة تعكس رغباته في ان تكون. انها كالمرأة التي وصفها بلوك في قصيدته" امرأة مجهولة"، والتي كان ما ياكوفسكي غالبا ما يرددها.

 لقد غادر افراد عائلة بريك غادروا الاتحاد السوفيتي منذ عام 1928 بطريقة مريبة، ربما بمعونة ماياكوفسكي المالية او بمعونة أجهزة الأمن، حيث عرف بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ومن ارشيف كي.جي.بي انهم من عملاء  جهاز الأمن ولديهم ارقام بأسمائهم. وكان ستالين قد أبعد لوناتشارسكي "اللبرالي" عن مفوضية الشعب للثقافة وحل محله بوبونوف المتشدد الذي دعا الى وضع الكتّاب والفنانين تحت رقابة صارمة، ولاسيما الكتاب الذين ينشرون أعمالهم خارج الاتحاد السوفيتي ومنهم ماياكوفسكي. وربما كان افراد عائلة بريك مكلفين بمهمة معرفة من ينشر واين ينشر اعماله من بين الكتاب السوفيت. وبعد رحيلهم بقي ماياكوفسكي وحيدا في شقته التي كانوا يشاركونه فيها. فيما جاء للسكن هناك رجل مخابرات محترف اسمه ليف ايلبرت، الذي عمل في مهام استخباراتية في خارج البلاد. وكان اغرانوف قد اقنع ماياكوفسكي بأن خبرة هذا الرجل الامنية في منفعته. ولربما ابعدت السلطات عائلة بريك عن الشقة وارسلتهم الى الخارج لكونهم لا ينفعون للقيام بهذه المهمة. وعلى كل حال، يحيط الغموض الشديد بهذه الوقائع، مثل اختفاء تقرير الطبيب الخاص بوفاة الشاعر، وتقرير المحقق عن الوفاة من ملف القضية في جهاز الأمن.

وكتبت لودميلا شقيقة الشاعر تقول :" في اواخر عام 1929 تفاقمت  ظروف حياة وعمل فولوديا جدا. فقد عاني من الآم الدراما الشخصية (فشل علاقة الحب مع فتاة من المهاجرين في باريس - ع .ح.) التي يمكن ان نجد اصداءها في قصيدته " رسالة الى تاتيانا ياكوفليفا". وكذك استمرار وحتى اشتداد هجمات " النقاد المختلين عقليا". وفي اول فبراير/شباط عام 1930 أقام ماياكوفسكي في نادي الكتاب بموسكو معرضا لأعماله خلال 20 عاما تضمنت كتبه ورسومه " اوكنا روستا" والملصقات الجدارية والصحف والمجلات التي نشر فيها اعماله ومواد عن عمله السري في الحزب البلشفي. علما انه وجد صعوبة كبيرة في الحصول على القاعة والموافقة على اقامة المعرض، لأن اوساط الكتاب والمجتمع لم ترد الاعتراف به وتثمينه كشاعر كبير. ولقي الدعم فقط لدى "فريق ماياكوفسكي " من العمال والطلاب والشباب الذين ساعدوه في اقامة المعرض. وخطب فيهم مشيرا الى ان فترة 20 عاما من عمله الابداعي كانت مترعة بالصراعات الادبية، وتوجب في كل لحظة الذود عن هذه او تلك من المواقف الادبية الثورية ومحاربة الركود في الجمهورية الفتية. ولكل عصر فنه وهذا ما يجب ان يكون عليه الفن في العهد السوفيتي.

 ويبدو ان ماياكوفسكي تنبأ منذ عام 1930 بوجود الاعراض الباعثة على القلق في بدء فترة الركود في  بناء الاشتراكية، والتي قادت الى المآسي وتصفية القيادات الحزبية والعسكرية والثقافية والعلمية في عام 1937 والهزائم الفظيعة في بداية الحرب العالمية الثانية. ومن ثم أدت الى انهيار أعظم تجربة اشتراكية في التأريخ. لكنه كان يقاتل الطواحين مثل دون كيخوت بطل رواية سرفانتس ، لأن طواحين " البيروقراطية " الحزبية السوفيتية كانت أقوى منه وألقت به قبل الاوان بعيدا عن مسيرة الثورة التي آمن بها.

 

30/9/2012  




 

free web counter