| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالله حبه

 

 

 

                                                                 االسبت 23/3/ 2013

 

رؤية روسية للوضع في العراق بعد الاحتلال وفي ظروف "الربيع العربي"

عبدالله حبه - موسكو

تبدي الاوساط السياسية ووسائل الاعلام الروسية اهتماما كبيرا بالشأن العراقي في هذه الايام ولاسيما بمناسبة الذكرى العاشرة للاحتلال الامريكي للبلاد. والحقيقة ان الكثير من العراقيين كانوا في الايام الاولى للاحتلال متفائلين بدرجة كبيرة آملين في ان يكون مصير العراق مثل مصير المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية وما جرى فيهما من تطور اقتصادي وتقني وحضاري أو ان يصبح العراق على الأقل كوريا جنوبية أخرى .لكن ما حدث في العراق هو انهيار مؤسسات الدولة وخراب اقتصادها وطغيان الفساد والارهاب واشتداد النزعة الانفصالية الكردية دون وجود سلطة مركزية قوية تعيد الى العراق كيانه الموحد. كما ازداد التدخل الخارجي في شئونه في ظروف تفتت المجتمع وغياب الفكرة الوطنية الواحدة ونزوح الملايين من ابناء وادي الرافدين واغلبهم من اصحاب الخبرات ومن المسيحيين والصابئة وغيرهم الى الخارج. ونحن نرى  اليوم على سبيل المثال ان المجتمعات في الدول المتحضرة المتعددة القوميات والطوائف متلاحمة وتضع الانتماء الوطني فوق الانتماء القومي أو الديني . فالسويسري يعتز بجنسيته الوطنية السويسرية رغم ان البلاد تتألف من اربع قوميات وفيها عدة طوائف دينية. والشعوب الاوروبية ذات الاصول اللاتينية والجرمانية والسلافية تتوحد وتؤسس الاتحاد الاوروبي وتصك العملة الموحدة. لكن تتوجه الشعوب في بلدان العالم الثالث نحو التشرذم والانقسام وتأسيس دويلات غير قادرة على ضمان استقلالها لذا تقع تحت نفوذ هذه الدولة الاقليمية او الكبرى او تلك ولا يكسب شعبها الحياة الحرة والكريمة. وأخشى ان يكون مصير العراق في المستقبل مأساويا أكثر أيضا.

وبهذا الصدد يحاول كثير من الباحثين الروس تحليل اسباب تحول العراق الى "دولة فاشلة " ولقمة سائغة للطامعين في ثرواته وارضه ويعزون ذلك بالدرجة الاولى الى غياب الوعي الاجتماعي والسياسي لدى الانسان العراقي بالدرجة الاولى، بالاخص وان نسبة الجهل عالية وما زالت العقلية البدوية والعشائرية هي السائدة في تفكير الانسان العراقي والانتماء الى الطائفة او العشيرة أهم من الانتماء الى الوطن. وقد صدر منذ ايام كتاب عن معهد الاستشراق بموسكو يتضمن مجموعة مقالات لباحثين روس تناولت بصورة رئيسية نتائج ثورات " الربيع العربي" بالنسبة لشعوب منطقة الشرق الاوسط وبضمن ذلك شعب العراق الذي خضع لاحتلال اجنبي دام ثماني سنوات. وثمة اجماع في الرأي على ان حصيلة هذه الثورات حتى الآن كانت سلبية ولم تكسب شعوب المنطقة أي شئ منها، بل سادت الفوضى وسيطرة القوى الاسلامية المتطرفة على الساحة السياسية فيها. ويشير  السياسي المخضرم يفغيني بريماكوف في مقالته في الكتاب الى ان سياسة روسيا حيال الشرق الاوسط بعد الحرب الباردة قد رسمت في ظروف سعي الولايات المتحدة وحليفاتها الى الاحتفاظ بنفوذها في المنطقة ثم الزحف أبعد بإتجاه ايران التي اصبحت الهدف الرئيسي للسياسة الامريكية في المنطقة. فمنها يمكن بعد اسقاط النظام الديني هناك مد النفوذ الى آسيا الوسطى عبر افغانستان. ولهذا فان احتلال العراق يمثل احدى حلقات تنفيذ الخطط الاستراتيجية للولايات المتحدة الرامية الى صيانة مصالحها الاقتصادية الاستراتيجية بالدرجة الاولى بغية الحيلولة دون وقوع أزمة اقتصادية جديدة قد تقوض أسس الهيمنة الامريكية في العالم .

ولعل أبرز ما في الكتاب بشأن العراق هو التحليل الذي قدمه فاليريان شوفايف سفير روسيا الاسبق في بغداد نائب مدير دائرة الشرق الاوسط وشمال افريقيا في وزارة الخارجية الروسية. فهو يستعرض نتائج اسقاط نظام صدام حسين في عام 2003 والاحتلال الامريكي للبلاد، ويقارن بين "ما كان وما اصبح" بعد الاحتلال، حيث ان الوضع الراهن للأمور لا يعتبر أفضل بأي حال من الاحوال. فمن وجهة نظر الاقتصاد ومستوى المعيشة وظروف حياة الناس وبالاخص غياب الاستقرار والأمن لحق الناس الضرر ، وهذا واضح بجلاء. وربما يقول البعض ان العراقيين يدفعون بهذا ثمن التخلص من الحكم الدكتاتوري . لكن متابعة الاوضاع في البلاد تدعو الى التساؤل فيما اذا كان هذا الثمن يساوي ما تم السعي اليه ، واذا ما كان "الثمن المؤلم " لعواقب " العملية الجراحية " التي اجراها الامريكيون في عام 2003 قد تجاوز بجلاء ثمن النتائج الدموية لماكينة صدام القمعية. ان الشعب العراقي لا يرى حتى الآن حياة أفضل من السابق.

كما يشير الكاتب الى أمر آخر لا يقل أهمية هو ان نظام البعثيين إتسم بإتجاه قومي علماني حاول "بالحديد والنار"، وبقدر كبير من القسوة غير المبررة ، جمع شرائح المجتمع المتباينة حضاريا ولغويا في وحدة اجتماعية موحدة . وقد أدى سقوط النظام في الواقع الى تآكل وتحات هذه " الحلقة الرابطة "وضعف " الوعي الوطني العام " لحد كبير وتفاقم الخلافات الاثنية والطائفية والعشائرية والفئوية للأمة العراقية(بمفهومها الحديث) وأعادة المجتمع القهقرى الى الوراء. ويطرح السؤال عموما فيما اذا تستطيع  بلدان العالم الثالث المتعددة القوميات والطوائف الدينية السير قدما نحو تشكيل أمة حديثة  ومجتمع موحد بدون وجود سلطة مركزية قوية وسلطة ذات نفوذ عمليا؟ هذه مسألة جديرة بالبحث.

يشير العديد من الباحثين اليوم ، بإعتمادهم المنهج المنطقي لدى تحليل ضعف الوعي الوطني في المجتمع العراقي ، وبكل يسر، الى ان البلاد تواجه كارثة ، وانه بعد ما شهدته من هزات سيكون مصيرها بقاء عدم الاستقرار ، مما سيقود في نهاية المطاف اما الى وقوع انقلاب عسكري جديد ومجئ انصار النظام السابق"بعد تجديد صورتهم" ، واما الى الانهيار التام للدولة وتفككها. ويقول السفير الروسي بهذا الصدد: بصراحة  ان خبرة عملي في العراق تدعوني الى ابداء الشكوك بصدد مثل هذه الاحكام " القاطعة". ذلك لأنه تشكلت في البلاد بعد عام 2003 "منظومة احداثيات "جديدة للسلطة السياسية . علما انها لم تتشكل بصورة كاملة بعد، وما زالت في طور الحركة ، لكن اللاعبين الرئيسيين فيها قد اتخذوا اماكنهم وهم يتألفون من ممثلي المكونات القومية والطائفية للمجتمع العراقي (الشيعة والسنة والاكراد) والحركات والاحزاب  الممثلة لها. وسيحدد العلاقة بينها ( الايجابية أم السلبية)  بالذات جوهر العمليات الجارية في العراق ، ومنها مصير السلطة القائمة ، وليس الدسائس المدبرة ونشاط المعارضة في الخارج.ولا يوجد أي فراغ في النظام الجديد يمكن ان يملأه  أنصار النظام السابق حتى بعد "تجديدهم". ناهيك عن ان الكثيرين من رجال النظام الذين غادروا البلاد بعد عام 2003 يخشون العودة الى العراق ومواجهة المحكمة لمعاقبتهم عن جرائمهم. وفي أفضل الاحوال يمكن ان يصبح بعضهم جزءا من التشكيلة الموجودة وفقط بشرط ان يتوصلوا الى تفاهم مع السلطات الحالية. اما سيناريو الانقلاب فهو أمر مشكوك فيه جدا.  وكما تظهر الخبرة فان الجماعات المسلحة السرية التي تضم البعثيين والاسلاميين المحليين و"القاعدة " يمكن ان تنفذ عمليات ارهابية مدوية لكنها لا " تفجر" الوضع عموما او " تسقط " السلطة لعدم قدرتها على ذلك.

ويشير المسئول الروسي ايضا الى انه  لا تتحقق التنبؤات بصدد اندلاع حرب أهلية جديدة. حقا يلاحظ في الاشهر الاخيرة ازدياد النشاط الارهابي وغير ذلك من أفعال العنف،وهو أمر متوقع ومفهوم تماما.لكن حدوث انهيار تام للسلطة أمر بعيد الاحتمال.زد على ذلك ان الشرط الاساسي لقيام حرب أهلية بكل معنى الكلمة غير متوفر بسبب ما أشرت اليه آنفا من احتدام الصراعات الفئوية في العراق الآن. فلا بد من اجل اندلاع نزاع مسلح عام من وجود "حد فاصل" يقسم المجتمع الى معسكرين متخاصمين رئيسيين وفي نهاية المطاف يتحول هذا الحد الفاصل الى خط الجبهة.  لكن لا يوجد مثل هذا الحد في الصيغة العراقية اليوم . وبدلا من ذلك توجد "حدود فاصلة ثانوية" كثيرة ، ويمكن ان يحتدم الصراع  - وهو يحتدم – بشكل خطير ، بيد ان هذا يحدث على  الصعيد المحلي او في قطاعات.

طبعا ان كل ما ذكرته آنفا ينفي الجانب الآخر من التقييمات اي التنبؤ بتطور الوضع في العراق بهدوء .زد على ذلك لا يبدو الاستقرار المضمون أي الاستقرار السياسي في العراق شيئا ممكنا في المستقبل المنظور لأسباب موضوعية تماما.  وقبل كل شئ فبالرغم من الاحاديث الكثيرة  عن " الوفاق الوطني" و" الشراكة" – وهو من الاحاديث المعتادة في العالم العربي- فان دوافع أفعال اللاعبين الاساسيين متناقضة في جوهرها . وفي واقع الحال ان اي طرف غير مستعد لتقديم تنازلات ، ويسعي الجميع الى بلوغ اهدافهم على حساب المعارضة لهم بأقصى قدر ممكن، بل وفي افضل الاحوال بصورة كاملة. وعمليا يخلو التأريخ السياسي للمجتمع من "ثقافة الحل الوسط " وكذلك من ثقافة الحوار البناء.وفي النتيجة ان جميع المراجع في منظومة الدولة والسياسة  تواصل التدبير المستمر للدسائس  وتصفية الحسابات وممارسة ما يشبه لعبة " جر الحبل" مما يؤثر تأثيرا سلبيا على فعالية ادارة المؤسسات والوضع الاقتصادي والاجتماعي العام . ويتضح بجلاء ان مثل هذا " الخصام السياسي " سيؤثر في وضع الأمن ، بالاخص اذا ما أخذ بنظر الاعتبار وجود تقاليد قديمة ومتشددة جدا في معالجة القضايا باستخدام القوة ووفرة السلاح ووجود الجماعات الارهابية السرية في البلاد.

ويشير السفير أيضا الى عوامل "خطيرة" أخرى تحول دون حدوث انعطاف جذري في العراق. ومما يؤسف له ، يبدو موضع شك تحقيق الشعار الشائع والجميل جدا أي" الوفاق الوطني" . فأن رؤية القوى المختلفة بصدد مستقبل البلاد متباينة جدا. والشئ الواقعي الوحيد  هو التوصل الى حل وسط مضمون بهذا القدر او ذاك والاتفاق على" قاسم مشترك أعظم" حول المعايير الحيوية للبناء الداخلي ونهج السياسة الخارجية.  لكن حتى هذا لا يمكن بلوغه بدون توفر الارادة السياسية الجماعية  ، بيد ان تلك الارادة غير متوفرة الآن كما اوردنا آنفا. أما كم من الوقت ستتطلب عملية  تشكيلها واستيعابها ، فإن هذا يتطلب أيضا " تغيير العقول"؟ولربما قد يكون غير لائق تماما اجراء المقارنة ، لكن التوصل الى توقيع اتفاقيات الطائف في لبنان (بالرغم من انها لم تحل جميع المشاكل لكنها أوقفت الحرب الاهلية على أقل تقدير) قد تطلب فترة تربو على 15 عاما من المواجهة المسلحة الدموية..

وذكر الكاتب انه يتحاشى موضوع العوامل المؤثرة الخارجية وتشابك المصالح الاقليمية والعالمية في بلاد الرافدين لكنه يورد مسألة هامة تتعلق بمستقبل العراق. وقال لو ان الوضع السياسي الداخلي تحدده بصورة رئيسية العوامل الداخلية (بالرغم من تأثير العوامل الخارجية) فإن وحدة أراضي البلاد تتوقف تماما على سير العمليات الاقليمية.  واذا ما بقي الوضع في اطار " الربيع العربي" ، وتعزز اتجاه تزايد نفوذ الجماعات الاسلامية والتطرف في منطقة الشرق الاوسط، فيمكن القول تماما ان المواجهة بين السنة والشيعة ستغدو شيئا حتميا. وفي هذه الحالة يكون أول ضحية لهذا الصراع هو العراق المتعدد القوميات والطوائف الدينية ، وحينئذ سيزداد النفور بين الشيعة والسنة والاكراد لحد نشوء خطر تفكك البلاد. وعموما ان هذا المصير يمكن ان ينتظر غيره من الاقطار العربية.

ويشارك وجهة نظر السفير شوفايف العديد من الباحثين السياسيين في روسيا ، ولو ان وجهة النظر الرسمية قد تختلف نوعا ما وتؤمن بأن العراق سيجتاز هذه المرحلة الصعبة من تأريخه ويجنح الى الاستقرار تدريجيا. وهذا الأمر بالذات يشجع الشركات الروسية الكبرى على العودة الى العراق ومواصلة العمل في تنفيذ المشاريع هناك.
 

 

 

free web counter