| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

أ.د. عبد الاله الصائغ
assalam94@gmail.com
 

 

 

 

الجمعة 30/1/ 2009



معلمو النجف الاشرف في اربعينات القرن العشرين وخمسيناته
الفرزة الاولى

عبد الاله الصائغ


مدرسة الغري الاهلية التي تنورت بمعلمين كبار مثل الشيخ عبد الله الشرقي وهادي مواشي والملا سلمان ...


مخطط تقريبي لمدرسة غازي الابتدائية في النجف الأشرف بين الاربعينات والخمسينات من القرن العشرين

ا- صفوف الطلبة من الاول الى السادس وثمة صف أ ونظيره صف ب ولذلك فان عدد الصفوف اثنا عشر صفا مثل الاول أ والاول ب والسادس أ والسادس ب ومعهود وقتها ان الشاطرين يوضعون في الصف أ والكسالى في صف ب !!
2- 3-4- 5 غرفة الرسم ثم غرفة النشيد ثم غرفة الرياضة ثم غرفة المخزن وتشمل المشغل لتصليح الرحلات والكراسي ! وهذه الغرف تخضع لرقابة شديدة تعتمد التجسس تكون بتوجيه معاون المدير من اجل ان لاتحصل مخالفة اخلاقية تسيء لسمعة المدرسة !
6- غرفة شرب الماء وفيها مخزن متوسط الحجم للماء الصالح للشرب فيه حنفيات يشرب الماء منها مباشرة ! ولكن بعض الطلبة المروعين يلقون فيه الفأر والقطط الميتة !
7- مراحيض الطلبة وهي حسنة النظافة وتخضع لطالب مراقب له جسم ضخم او يخافه الطلاب ينظم الدخول والخروج ودور الطالب ! واحيانا يستخدمها بعض المعلمين كبار السن ولكن الادارة تمنع ذلك منعا باتا لكن المعلم الكبير حين يجد مرافق المعلمين مشغولة يكون مضطرا لتدارك نفسه بالذهاب الى مرافق الطلاب ! وذات مرة كان اخي الكبير متوازيا وهو تعبير معروف نجفيا ومعناه ان لم يجد مرحاضا فلربما يحدث على نفسه وعبد الامير كان له مرحاض يمازج ذوقه لايدخل غيره وحين دق الجرس معلنا انتهاء الفرصة ارتبك عبد الامير خشية ان يتأخر عن الدخول قبل المعلم فأخذ يطرق باب المرحاض ويشتم الطالب الذي تأخر في المرحاض ويقول له اطلع منعول الوالدين قابل جاي تتغدة ولك اطلع كلب ابن الكلب وهكذا ظل يطرق الباب وانفتح الباب ولم يكن في المرحاض طالب ! بل كان ويا للهول معلم حسن دشتي وهذا معناه ان عبد الامير ستحمل ضربات بالعصى قد تغيبه عن الوعي وبعد الضرب يطرد من المدرسة !
8- حدائق كبيرة فيها اشجار معمرة مثل الرمان والتفاح والنبق والكالبتوس وتكون امام الصفوف فتبعث البهجة في نفوس الطلبة والمعلمين معا !
9- غرفة المدير رؤوف الجواهري
10- غرفة معاوني المدير .
11- غرفة استراحة المعلمين
12 – مراحيض المعلمين
13- ممر بين الغرف مسقف بالطابوق
14- ممر مسقف بسيباط العنب والغرسات المتسلقة مثل القنقنة !
15- الواح بعرض متر تقريبا تضج بالورود وانواع صبار الزينة
16- غرفة الفراش عبد عون الياسري ابو غني .
17- باب المدرسة الوحيد وهو واسع مجبول من الحديد له بابان كبيران مزخرفان حديديان وهو يفتح فقط حين يبدأ الدوام او ينتهي الدوام او لأمر طاريء وسوى ذلك فهو مقفول بقفل زنة كيلو غرام !
18- قاعدة العلم العراقي والسارية ويرفع العلم كل يوم سبت وينزل كل يوم خميس وترافق رفعة العلم اناشيد منها ياعلم الامة انا معك انا معك حتم علينا ان نرفعك ان نرفعك
ويقرأ طالب مجد قصيدة جميل صدقي الزهاوي
عش هكذا في علو أيها العلم فإننا بك بعد الله نعتصم
عش خافقا في الأعالي للبقاء وثق بأن تؤديك الأحزاب كلهم
جاءت تحييك هذا اليوم معلنة أفراحها بك , فانظر , هذه الأمم
إن العيون قريرات بما شهدت والقلب يفرح والآمال تبتسم
إن احتقرت , فإن الشعب محتقر أو احترمت , فإن الشعب محترم!
الشعب أنت , وأنت الشعب منتصبا! وأنت أنت جلال الشعب والعظم!
فإن تعش سالماعاشت سعادته وإن تمت ماتت الآمال والهمم
هذا الهتاف الذي يعلو فتسمعه جميعه لك , فاسم أيها العلم.
19- شبكة للعب
20- اصطفاف الطلبة يتجمعون حسب الصفوف والشعب ويبدأ بتفتيش لياقة الطالب ونظافته شعره اظافره ملابسه ..
21 – السياج الحديديالامامي وهو مزخرف ومطلي بدهان اخضر وهو الذي تسبب في كارثة ذهب ضحيتها طلاب مساكين فاستغنت عنه المدرسة وبنت حائطا محله !!

مدخل :
دخلت مدرسة غازي الأبتدائية التي يتاخم قفاها بيتنا مباشرة عام 1946 واستقبلني مديرها المرحوم رؤوف الجواهري بالصراخ والتهديد والشتائم لأن اخي الكبير السيد عبدالأمير الصائغ نور الله ثراه وهو خريج مدرسة غازي الابتدائية كان مكروها جدا جدا من قبل هذا المدير ومعظم المعلمين والطلبة!! فهو كثير الشجار وكثير المشاكسة والغياب ! وتشجع معلمو الحساب والجغرافية والرسم والأنجليزي فكانوا يجرحون مشاعري وانا ابن ست سنوات دون رحمة زد على ذلك تفرد الفراش عبد عون الياسري بسلطات استثنائية مرعبة فهو اي الفراش عبد عون الياسري هو مديرنا الحقيقي وكان المدير الجواهري رحمه الله معتمدا اقصى الاعتماد على الفراش الياسري فبعينيه يرى وبأذنية يسمع وبعقله يفكر!! والمعلمون كانوا يتقرضون منه على راس الشهر ! لكن لنا نحن الطلاب طريقتنا في الانتقام من عبد عون ابو غني حين ننصرف من مدرستنا ننتقم من عبد عون الياسري بطريقة طفولية ونمر على بيته قرب المدرسة الزينبية الابتدائية للبنات في شارعنا اياه ونحن نردد كما لو اننا متظاهرون :

عبد عون بعده جحش
كل المطايه شيبن
عبد عون بعده جحش !!

لكنني اعشق مدرسة غازي واحن الى ايامها ولعل كل منا يدين الى مدرسته الابتدائية! وهذه المدرسة اهدتني خيرة اصدقائي وجمعتني بمناضلين او شخصيات تاريخية لن يتكرر ظهورها ببساطة مثل نوري الشريفي وزامل مطرود وعباس حموزي وصادق الخاقاني ومحمد السيد علي الحبوبي ومعطي جبر وهلال معلة وعبد الحسن جعفر وناجي مطر وضياء زيني! وفيما بعد اخبرني الدكتور زهير غازي زاهد انه زميلي وكان يجلس معي على الرحلة ذاتها التي اجلس عليها! كما اخبرني الصديق امير جواد الحلو انه كان معي في تلك الفترة وعبد الامير معلة كذلك لكنني بصدق لا اتذكر زهير زاهد ولا امير الحلو ولا عبد الامير معلة
وثمة المدرسة المركزية الابتدائية في الناصرية قبالة المستشفى الكبير وفيها درسني عبقري العربية المعلم كاصد الزيدي وثمة مدرسة الغري الأبتدائية الأهلية في النجف وفيها نعمت بأساتذة تاريخيين كبار جدا اذكر منهم الشيخ عبد الله الشرقي أديب العراق المعروف وهادي المواشي الخطاط والمناضل التقدمي المحبوب والملة سلمان الدلال العلامة المميزة لمدينة النجف وثمة ابن حيان الأبتدائية في الكوفة ومديرها راضي الاعسم وقد تذكر البروفسور الدكتور هادي الخليلي المستشار الثقافي العراقي في السفارة العراقية بواشنطن زمالتنا معا في تلك المدرسة ! نعم تذكرته مباشرة لان ملامحه لم تتغير كثيرا ! ثمة مدرسة الأمير عبدالإله الابتدائية في الكاظمية!! ولتعدد مدارسي كما ترون فقد انهيت الدراسة الأبتدائية في ثماني سنوات.

من كتاب عودة الطيور المهاجرة الفصل الاول

عرض :
اولا :
اذا كنت تسألني لماذا تأخر هذا الموضوع الساخن الذي لم يبرد بعد ولن يبرد لأجبتك سامح الله اصدقاء اجلاء نجفيين وعدوني بالصور والوثائق وأخلفوا ! كما ارجو ان يسامح الله صديقا هاشميا ! ومحاميا المعيا وكاتبا معروفا الذي أئتمنته على ارشيفي ليحمله معه من العراق بعد ان تسلمه من بيت الشاعر عبد الرزاق الربيعي الى مشيغن فاجتهد ان يرسله بالبريد العادي ولم يصلني ارشيفي حتى الساعة رغم مرور سنتين على ارساله !! وساظل منتظرا سداد دين من وعدني فالوعد دين واجب السداد بل وعقد قانوني وشرعي بين الموعود والواعد ! نعم كان لي زملاء في مدرسة غازي الابتدائية ومدرسة الغري الاهلية في النجف ومدرسة ابن حيان في الكوفة وبودي لو ان الله اطال باعمارهم ونجاهم من حمامات الدم العراقي التي ما إن ينتهي حمام منها حتى ينهض بديله حمام آخر ! زملائي الذين زاملتهم في الابتدائية كثيرون نسيت اسماء بعضهم وهم كما في موسوعتي الثافية : الأساتذة أمير سيد جواد الحلو ومحمد كاظم العادلي وحميد المطبعي ودكتور محمد الصائغ والشيخ صادق الخاقاني والدكتور زامل مطرود والدكتور زهير غازي زاهد والدكتور محمد علي الحبوبي وهلال معلة وعلي بصي ومحمد بصي وابراهيم شربة والجنرال صبحي مجيد هيدة وناجي مطر رحمه الله والجنرال عارف شربة ونوري شربة والدكتور ضياء زيني والسيد نوري الشريفي والفنان معطي جبر وفؤاد سليم مرزه ومن في الكوفة ( مدرسة ابن حيان ) معطي عزيزالحاج هادي المحامي وعدنان عارف ابو مهفة و الدكتور هادي الخليلي وعبودي غالي و مكي الحاج مهدي ابو اصيبع ومحسن جبر المغني شهيد العشق العذري وصالح نقاش وجاك نقاش ( يهوديان تركا المدرسة 1949 ) وعبودي غالي وعلي حسين حلاوة وسعيد حسن حلاوة مؤملا ان يمدني اولئك وهؤلاء من الاحياء بحبل من عون : معلومات تواريخ صور نكات ... الخ ! .

ثانيا :
معلمو اربعينات القرن العشرين وخمسيناته في مدينة مثل النجف والكوفة ايضا لايمكن ان يكونوا اعتياديين بشتى الحسابات ! فقد كان بعضهم رموزا وطنية ووجوها اجتماعية وحكايات مجلسية ! واسفي ان بعضهم غلب عليه اللقاب والكُنية فنُسِيَتْ اسماؤهم ! اتذكر منهم : كَزكَز (! ) و لاتحكي (! ) و حسن دشتي الكتبي معلم الدين وحميد الدسفولي معلم الحساب و رؤوف الجواهري مدير مدرسةغازي و هادي مواشي معلم الانجليزية و علي الصباغ معلم العلوم و مجيد سعيد غائب الجميل جدا والذي اتجه للدين وهو معلم الرياضة والدين معا والشيخ ملا سلمان معلم الدين والشيخ عبد الله الشرقي معلم القراءة والقواعد وغازي كسار معلم الرياضة والنشيد و علوان السفير معلم الرياضة وهادي شاكرالقصير معلم العلوم و سيد جواد الحبوبي معلم الجغرافية و رحيم عجينة معلم الانكليزي و حسن حموزي معلم الانكليزي و لقمان الأصهب معلم الرياضة والرسم و سيد جواد الحلو ( !! ) و عبد الامير الوائلي معلم الانكليزي و حسن البصري معلم الرسم و سيد علي الداماد معلم الدين و حسين عبود معلم القراءة والنشيد و محمد علي الشوشترلي مدير مدرسة الغري الاهلية ومعلم الحساب ايضا وراضي الاعسم مدير مدرسة ابن حيان و حسن الاعسم معلم القراءة والتاريخ وكان كثير الاعتداد بجده الاعسم فهو يقول لنا كما قال جدي الاعسم ولكنه لم يفصح لطفولتنا عن جده ! و باقر معلم القراءة والحساب المحبوب جدا وحسن بانية كَرن الغزال معلم الرياضة !

ثالثا : مدارس النجف :
تمتاز بالنظافة والنظام والعناية الفائقة بالحدائق وسعة المساحة والصفوف ذوات شبابيك منها لدخول الاوكسجين وتكون بمستوى النظر ومنها شبابيك لخروج ثاني اوكسيد الكاربون وتكون عالية بمحاذاة السقف الذي يكون عادة مرتفعا بما يقابل طابقين في هذا الزمان وفي كل صف سبورة سوداء كبيرة مسمرة على الحائط تصبغ كل اسبوع وفوقها بمقربة من الشباك العلوي صورة للملك فيصل الثاني وخاله وولي عهد ه الامير عبد الاله ! ولوحات منتقاة من المعارض واتذكر لوحة لام كلثوم وتحتها بيت احمد شوقي :

وما نيل المطالب بالتمني       ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وسائل الايضاح وصناديق الطباشير الملون والمساحات موفورة لن يتسلمها غير مراقب الصف ! هناك غرفة مخصصة للرياضة واخرى للرسم وثالثة للنشيد ! لكن الذي يشين هذه المدارس هو الصرامة الظالمة ! فيكفي ان ينظر رؤوف الجواهري نور الله ثراه مثلا الى الطالب الذي يخرجه المراقب من الاصطفاف او المعلم من الصف تكفي نظرة واحدة منه لكي يبول الطفل على نفسه رغم الرحمة الكبيرة التي يتمتع بها هذا الانسان الطيب لكن المجتمع عهد ذاك يظن الرحمة ضعفا وفشلا ! والقسوة اسلوبا مجرباً ونجاعة ويكفي ان يخرج حسن دشتي من الصف لكي يعمل الطلاب المساكين صخبا هستيريا تعبيرا عن فرحهم بانتهاء المحاضرة ! ولم يكن في الاغلب يسمح للطالب كي يخرج الى الحمام لقضاء حاجته فمثل هذا الطلب يغضب المعلم ويخرجه عن طوره ! ومدير المدرسة يحذر منه ويمنعه حتى لاتحدث تصرفات بين كبار الطلبة وصغارهم في الحمامات تشين سمعة المدرسة اما الضرب بالعصى فحدث ولا تتحرج ! فقيمة كل معلم تتجلى بنوع العصى التي يستعملها وعدد الضربات الطائشة التي يباغت بها المعلم طالبه فيضربه على راسه وبطنه ورجليه وكم مرة انكسرت العصا على راس الطالب المسكين لكي يتحول الطفل الى مجرم كبير في نظر المعلم لانه تسبب في كسر العصى التي تربي الطلاب ! فالعصى لمن عصى والمعلمون يتفننون في تسمية عصيهم مثل عبد الامير الوائلي عصاه اسمها الخيزرانة الونانة وحسن البصري يسمي عصاه الحجية ! وحسن دشتي واسم عصاه الحية !! اما الادارة فلديها نماذج متعددة من العصي المعروضة فثمة عصى لكل ذنب فالذنب البسيط يستحق عليه المذنب ضرباً بعصى اعتيادية الطول والسمك والوزن ! وهناك ماهو اقسى من الضرب بالعصى وهو وضع القلم الرصاص بين اصابع الطالب الضحية صم يضغط المعلم بكل ثقل جسمه على القلم ليشعر الطالب باوجاع فوق طاقة احتمال الطفولة بل انني ازعم ان الرياضي بعمر خمس وعشرين سنة لن يحتمل هذه الاوجاع وقس على ذلك وقد اكتشفت ويا للهول انها تستعمل في مديرية الامن بشارع النضال !! وكثيرا ما يردد المعلم مع الطالب المشاغب او سيء الحظ مقالة المتنبي : لاتشتر العبد الا والعصى معه !! كان بعض المعلمين لايستعمل العصا قط بل يمحض الطلاب محبة واحتراما ولكن الخطر الذي يتهدد مثل اولئك المعلمين المربين هو اتهامهم بالمثلية وممارسة اللواط مع الاطفال وهي تهم تصدق حينا وتكذب احيانا كثيرة ! اكثر المتهمين بمثل هذا الافتراء هم معلمو الرياضة بزعم إن مرأى الطلاب الذين يمارسون الرياضة باللباس والفانيلا فقط يستفز المعلم كذا ! اما زي الطلبة فهو الدشداشة والنعال واحيانا ياتي الطالب حافيا ! فكيف بارتداء البنطلون من قبل الطالب الابتدائي ؟ هذا يعني اجتراح هستيريا لدى الطلاب واتذكر حين ارتدينا اخي الصغير محمد وانا البنطلون القصير تعرضنا للضرب من الطلبة الكبار وحين خرجنا من المدرسة الى البيت زفتنا مظاهرة اسهم فيها اولاد محلتنا والمحلات المجاورة وهم يرددون ( افندينا الزغيرون لابس سترة وبنطرون ) ويرددون ايضا ( هذا الولد عنجوكي وحزامه نايلون ) والعنجوكي هو الجميل المنحرف ويرددون ايضا وايضا ( هسا يكَمز وز وز ) ويرموننا بالحجارة والنعل العتيقة والعظام وقشور الرقي ! ولم ينقذنا من الهلاك نعم من الهلاك سوى ان بيتنا لصق مدرستنا وان الخادمة غنية تترك الباب مواربا حتى نفتحه نحن ونقفله من ورائنا ! لكن هذه الشدة او الحساسية من البنطلون وتمشيط الشعر انقشعت او كادت حين وزعت المدرسة على الطلاب الفقراء اي على جميع الطلاب فالكل فقير وزعت معونة الكساء وهي ملابس خفيفة صيفا وثقيلة شتاء من البنطلونات والقمصان والجاكيتات ! ومنعت حلاقة الجعجولة او القلم او الصلموعة !وللنكتة كان لعائلتنا خياط ممتاز ومشهور جدا اسمه علي اكبر وهو قصير القامة خفيض الصوت جميل الملامح على شيء من الاريحية والمكر المهذبين ! محله كان راس سوق الكبير واشترى سيارة فولكس واكن ركَة وفي اول سفرة بها وعائلته الى بغداد ارتطم بسيارة حمل ومات هو وعائلته ففجعت النجف بمصيبته وشغل مكانه محمد علي ابو اصيبع مصلح الساعات وناجي ابو رقيبة بائع الساعات وفاضل الرادود وولده عصري لبيع البقلاوة ثم اموري مديد لبيع احذية وكالة دجلة وكهربائيات ! ذهبنا اخي محمد وانا الى الخياط علي اكبر لكي يعمل لنا براوة اي بروفة وقلنا للخياط نريد فتحة للجاكيت من الخلف ! وكأني به لم يصدق ما سمعه منا وقال شنو ساداتنا !! فقلنا له نريد فتحة ! وقال مثل الملسوع اولاد سيد علي الصائغ ابو العمامة يلبسون جاكيتات مال فروخ! فيها فتحة من ورا !! تلبسون ملابس مخانيث ! لاحول ولا قوة الا بالله ! الدنيا خربت ! وحين زعلنا عليه حقا من موقفه وكلامه وقلنا له سوف نغيرك ولن نخيط عندك بعد الآن ونذهب الى خياط آخر غيرك إنصاع المسكين لنزوتنا وقال لاعمي لا ! كأنه يقنع نفسه : ماكو داعي اقطع رزقي ! اذا اهلكم راضين يعني القاضي راضي المفتي شنو دخله ! فتحة فتحة ان شا الله فتحتين آني شيخصني ! ولكن حين تسلمنا قوطنا الجديدة وجدنا الخياط قد وضع فتحة في كل جاكيت بطول سنتمتر واحد ! ولعله قال لنفسه من باب الحرص علينا سوف لن يتمكن احد من رؤيتها حتى لو لبس نظارات مكبرة !

رابعا :
مدرسة غازي كانت بين الشارع الاول والثاني في المحلة الجديدة التي تكونت بعد تهديم سور النجف المدور جناحها اليمين على الشارع الاول وجناحها اليسار على الشارع الثاني حيث بيتنا الكبير ! ومقابل المدرسة بقال اسمه السيد حميد كشكولي يضع على راسه الفينة الحمراء الملفوفة بالاخضر من اسفلها وتسمى كشيدة السيد ! وكان هذا السيد غاية في الخلق والرأفة بالطلاب بحيث كان يداين الطلاب المفاليس الذين يتشهون معروضاته من المسقول والكَز والساهون وتمر الديري وتمر العجم والخريط ! يداينهم ديون ميتة بحيث يقطع رزقه فهم بعد الدين لايشترون منه حتى لايسددوا الديون فيذهبون الى عطار آخر اسمه جعفر الشكري وهو على الشارع نفسه قريبا من بيت السيد سلمان الزكَرتي ويشترون منه ! كانت المدرسة محاطة بسياج حديدي ثقيل جدا مرتفع عن الارض بمقدار متر ونصف والسياج كان يمثل مشهدا جماليا لانه مزخرف ومصبوغ بالبوية الخضراء !وذات عصرية من يوم مشؤوم كانت ساحة مدرسة الغري حلبة لعبة الشبكة المحببة لدى شباب النجف وهي ثاني لعبة شعبية بعد كرة القدم ! كانت لعبة الشبكة سباقا بين مدرسة غازي ومدرسة الغفاري وكثيرا ما تتبارى المدارس فيما بينها فيشكل اللعب متعة للجميع حتى النساء المحاصرات بقوائم المحظورات وقتها فهن يرين اللعب من السطوح والأراسي (الشناشيل) والبالكونات ! المهم في هذا اليوم المشهود جاء عدد غفير من الطلاب والناس لكي يروا اللعبة فضاقت بهم المدرسة فتكفل الفراش السيد عبد عون الياسري باخراج الفائضين عن مساحة المشجعين الى خارج المدرسة ! وعبد عون له الكلمة النافذة في المدرسة فهو يداين المعلمين على راس الشهر ويعاقب الطالب الذي يخالف ويهدد المهم صعد الطلاب المطرودون الى السياج المرتفع وضمنوا مشاهدتهم للعبة وكنت بين الصاعدين واخي الصغيرمحمد فشعرت ان السياج الحديدي بدأ يترنح ويهتز فطلبت من اخي الصغير محمد وكنت احبه ومازلت واخشى عليه قبل ان اخشى على نفسي طلبت منه بلهجة صارمة ان ينزل فاطاعني ونزل فنزلت معه وغب نزولنا بلحظات سقط السياج الحديدي على الاطفال وحصلت مصيبة كبيرة ! مات من مات وجرح من جرح وتعوق من تعوق ومازلت اتذكر زميلا لي جميلا ومهذبا اسمه امجد كان من ضحايا السياج ولبث حاجبه الايسر مقطوعا بحيث كان النصف الاول بمستوى الحاجب والثاني فوقه ولم تكن ثمة عمليات تجميل وقتها ! وبعد هذه الكارثة تم الاستغناء عن السياج وبني سور من الطابوق والجص مرتفع واملس بحيث لاتقدر القطة الحمقاء على ارتقائه ! ونعود الى تقاليد المدرسة الابتدائية ! ففيها دوامان صباحي من الثامنة حتى الثانية عشرة وعصري من الثانية حتى الرابعة وهاتان الساعتان اللتان يستريح بهما الطالب والمعلم وجدت نظيرا لهما في المغرب وفي امريكا ! وبعدها الغي هذا النظام لتكاثر الطلبة وعدم استيعاب المدارس لهم فصارت كل مدرسة لها ثلاثة دوامات او اربعة وهذا يعني ان لكل وقت مديره ومعلميه وطلبته ومستخدميه ! وكان الهواء لايتغير لكثرة الطلبة والساعات ولضياع مسؤولية المدرسة والصفوف بين المدراء مما يستدعي احيانا شجارات بين مدرسة وشقيقتها التي تستغل المكان اياه !

خامسا :
لعل اهم اسباب الخروقات التي كانت تشم سلوك المعلمين هي قسوة المجتمع مع الطفولة فكثيرا ما كنا نسمع ان في داخل كل طفل عفريتا ازرق والعصا والقسوة وحدهما كفيلان باخراجه زد على ذلك ان ولي امر الطالب كان يقول لمدير المدرسة حين يسجل طفله ابن السادسة او الخامسة لكم اللحم ولنا العظم وهذه علامة خارقة تنم عن القسوة البليغة !
ضآلة تعليم المعلم فأزيد المعلمين عهدها كانوا خريجي دار المعلمين الريفية في ابو غريب وهي تقبل الطلبة من خريجي الصف السادس الابتدائي وفي سنة شح المتقدمين من الطلبة قبلت دار المعلمين الريفية كل من يحسن القراءة والكتابة فدخلها من دخلها ! فلا دروس تربوية ولا محاضرات في علم النفس ولا طرائق تدريس ولا ولا ويتخرج المعلم براتب ثمانية دنانير عراقية وهو مبلغ جيد وقتها ولن يداوم المعلم قبل ان يتسلم مرسوما ملكيا بتوقيع الملك صادرا باسم المعلم مخولاًً اياه صلاحية التعليم والمرسوم الملكي يمنح اي طالب معدلة 75 فما فوق مسدسا ودينارين اجور خادم ! ولم تكن في دار المعلمين الريفية لجان مختصة لفحص صلاحيات الطلبة المتقدمين للدراسة ! لكن قولنا هذا لن يغمط حق عمالقة تخرجوا من هذه الدار على قلتهم وكنت ارى مدير التعليم الثانوي العام يقبل يد المعلم حمادي رسول الشرع لانه درسه في الابتدائية ! اما الشيخ عبد الله الشرقي فكان امام اللغة العربية ومنبع الحنان ونموذج الخلق ! وكان قدوتي وحين تخرجت معلما ابتدائيا التقيته في السوق الكبير فعرفني وبالغ في الترحيب بي وسألني ما انجزت من دراستك ياعبد الاله ؟ فقلت له متبخترا استاذي صرت مثلك !! فطالبني بتوضيح كلامي فاخبرته انني احمل شهادة دار المعلمين الابتدائية من الاعظمية ! فنهرني وقال لي خيبك الله فلقد خيبت ظني فيك كنت اتوسم فيك ان تكون استاذ جامعة لامعلم ابتدائية وتركني مشمئزا واليوم حين اتذكر كسره لقناعتي بشهادة معلم مع فروض اجلالي لها اتذكر شيخي العظيم عبد الله الشرقي واقول والله ياشيخي انني اليوم بأمس الحاجة اليك فأنت مدرسة عليا ترتدي عمة بيضاء ومداسا اصفر روغانيا ! .

سادسا : المعلم الشيخ ملا سلمان الدلال
كنت وانا ابن العاشرة ربما منتسبا الى مدرسة الملة سلمان التي يقيمها في بيته الكبير الكائن في محلة الجديدة الجادة الثالثة خلال العطلة الصيفية وقوامها مئة وعشرون يوماً ! وهو مدير المدرسة ومعلمها الوحيد وحارسها ايضا .. الملا سلمان النجم الساطع في سماء النجف لأربعينات القرن الماضي وخمسيناته !! معتدل الطول نحيل البنية أشيب اللحية وشعر الرأس ! يعتمر فينة حمراء يحيطها بها من اسفلها حزام ابيض مطرز بزخارف مذهبة لا ترى بسهولة وهي ضرب من العمائم يعتمره رجال الدين الذين يعتاشون من عرق جبينهم ! ويرفضون العيش على عرق الآخرين ! ثمة جبة تغطي قميصا وبنطالا ابيضين ينسدل القميص الطويل على البنطال والقميص مضغوط بحزام من القماش !! في الملة سلمان مزاج حاد وطبع صعب وبحة في صوته محببة لدى أهل النجف !! وإذا كان الملة صديق والدي السيد علي الصائغ مالك قيصرية الصياغ فإن السيدة العظيمة ام داوود هي صديقة والدتي العظيمة الزرقاء وكانت تربطني بالمناضل الكبير رضا الدلال صداقة عميقة مكانها بين النجف وبغداد امتدت منذ العهد الملكي والى وقت بعيد من حكم الشهيد عبد الكريم قاسم صداقة عميقة رغم ان الأستاذ رضا يكبرني في العمر والوعي والنضال كثيرا وربطتني صداقة حوار ثقافي مع الأستاذة سعاد الدلال البنت الكبرى للملة سلمان والمدرسة في إعدادية البنات وقد دافعت عني بكل قوة حين ضايقني بعض الغوغاء عام 1959 و اسهمت في حمايتي حين تعرضت للإعتداء ولم تقف مكتوفة اليدين حين ضيق علي الخناق حتى من قبل الجيران بل تشاجرت مع صديقتها ابنة القـز... حين فتشتني ليلا وأنا عائد للبيت !! مثلما فعل الشهيد الخالد محمد موسى التتنجي حين نهر رفيقه زهير شكر مصور الشعبة الخاصة رحمه الله الذي صار بقدرة قادر رئيس اتحاد الطلبة في النجف وناصبني العداء !! وقال له يا زهير انني احملك مسؤولية حياة الصائغ فهو شريكنا في النضال !! وقد حصل لي ما حصل لأنني كنت لبراليا وما زلت رافضا للأساليب غير الديمقراطية التي كانت تمارس باسم القوى التقدمية وتستغلها القوى الرجعية , وربطتني صداقة بمستوى أقل مع الأستاذة وداد الملة سلمان القارئة النهمة !! اما المناضلة الانصارية سلام فكنت اتحدث اليهما واستمتع معها بالإصغاء اليها ولكن لم تكن همومنا متطابقة عهد ذاك تمام المطابقة ... !! الملا سلمان كان يدرسني في الغري الأهلية الإبتدائية خلال الدوام ويدرسني في بيته العامر خلال العطلة الصيفية وأمدها اربعة اشهر ! الوجهاء والأثرياء يتسابقون على تسجيل اولادهم الصغار في مدرسة الملا من بيوتات الرحباوي واصيبع والشمرتي والزكرتي وعودة والكرباسي والحبوبي والخاقاني ..... ألخ وكان الملة سلمان أبي النفس ولا يقبل اي طالب أو وساطة بسهولة ويفرض اجرا على كل طالب غير قليل !! لكنه امتنع مثلا عن استلام اي أجر عني لأنني يتيم علما انني لست اليتيم الوحيد في مدرسته !! .
كان رحمه الله يفرغ الطابق الأرضي من بيته ويحشر عياله في الطابق الثاني ! فحين تدخل البيت يواجهك كليدور كبير يفضي الى البيت وتكون باب الحديقة الركن عن يمين الداخل وباب الطابق الثاني عن يسارك وبمواجهتك معا !! ندخل البيت فتواجهنا نبقة معمرة ذكرتها الشاعرة وئآم ملا سلمان في قصيدتها سيدة الحكايا !! وسيدة الحكايا كما فهمت من السياق هي والدتي الزرقاء نور الله ثراها العبق واذا سمعت طرق المسطرة التي يمسكها الملة على الصفيح فاستعجل وادخل الغرفة واعني الصف واجلس متربعا على الأرض المفروشة بالسجاد العجماني الثمين إذ لا يجوز التقرفص او الأحتباء وحين تتأخر فسينتظرك القصاص !! والدرس حالة من حرية المعلم فمن القراءة الى الحساب ! اما الدين فيكفيه اصطفافنا الصباحي : الملة يردد : الله ؟ الطلبة يجيبون : ربنا . الملة محمد ؟ - نبينا . * الإسلام ؟ - ديننا * القرآن؟ - كتابنا * الكعبة ؟- قبلتنا * الكوثر ؟- شرابنا ....... إلخ ولأنني كنت وما زلت أسيرَ أحلام اليقظة فقد كنت مشكلة كبيرة للملا سلمان !! ربتما يكون ايقاع صوتي غير منسجم مع الجوقة ! أسرع أو أبطأ ! أو أعلى أو اوطأ !! وقد يغفر ها لي الملا ولكنه يصرخ بأعلى صوته حين ألخبط العجين ( معذرة واستغفر الله سلفا عما سأقوله ) * محمد ؟ الصائغ الغافل – كتابنا * القبلة ؟ الصائغ – شرابنا * القرآن ؟ - ربنا !! فيقرر الملة عقوبتي بالمسطرة وقد استشاط غضبا !! بالمسطرة التي لا توجع نملة ولكنه يهزم امامي حين ينفجر بالضحك ويدير وجهه للحائط فيضحك الطلاب ولا ادري ان الملا غاضب اشد الغضب عليَّ للخبطتي التي تشبه الكفرأو الحمق ولكنه لا يستطيع ان يمنع نفسه عن الضحك لغبائي وقد يصعد الى الطابق الثاني ليحكي لعائلته الفضيلة اخبار غفلتي فتضحك العائلة وتوصيه بي خيرا لأنني يتيم وابن صديقه سيد علي الصائغ .أما درس الرياضة ونجريه في الحديقة دائما فهو شاق جدا على قلبي لأن الملا سلمان وهو خجول جدا بالمناسبة يقوم ببعض التمارين السويدية أمامنا وكان يفتقد اللياقة البدنية ومع ذلك يؤدي التمارين التي تتعبه كما يبدو وقد تسقط مسبحته او شيء ما او ينحلُّ حزامه والمطلوب مني ان احاكي حركاته ولا اضحك ! وذلك هو المستحيل بعينه !! ويبدو ان الملا متحرج من عياله فقد يراقبونه من خلال الشباك المطل فهو يرفع عينيه نحو الشباك بين آونة وأخرى !! وقد أُفْسِدُ عليه درس الرياضة كما افسدت درس الدين وهو صاحب المزاج الحاد ولكنه لم يفكر مرة واحدة بطردي وأنا ادرس عنده (عشت) مجاناً واصنع له المشكلات والإحراجات !! مرة ارسلني في شأن الى ام داوود فصعدت الدرجات كأني ارقص على السلالم ووصلت الى حيث عرين الفاضلة الصابرة ام داوود فشممت روائح الطبخ العطرة فدخت والله وسقسقت عصافير بطني ولعلها السيدة كانت تحوك أو ترتق فطلبت باشارة من يدها ان اجلس فامتثلت للسيدة التي كنت وما ازال شغوفا بها وبأناقتها وجمالها الباذخ وقوة شخصيتها وسألتني عن امي الزرقاء وشقيقاتي بدرية وحورية وحياة ثم ضحكتْ ام داوود وضحكتها ليست قهقهة بل ابتسامة شفيفة تخفيها بوضع اناملها الرقيقة على شفتيها ! وقدرتُ ان الملا قد روى لها الكثير من شطحاتي وسذاجاتي واستغلت حاستي التاريخية ضحكتَها !! نسيت القول ان السيدة ام داوود لا تضحك لكنها تبتسم مثل الأميرات او الملائكة كما المعت !! قلت لها ليش الشرطة دائما اتدوس بيتكم وتفتشه وتاخذ وياها اولادك داوود ورضا ؟؟!! فقالت وقد ضايقها السؤال : مو الوطن ايريد من اولاده تضحية . فقلت لها : جا ليش اولاد الجيران ما عليهم شي بس ويلادك ؟؟ فنهرتني بأدب وكان عليَّ ان الاحظ اضطرابها وأسكت ولكنني حاصرتها بالأسئلة فانفجرت باكية مثل الأميرات في قصص الأطفال ووضعت كفيها على وجهها الشريف كأنها خجلى من دموعها ثم وامام حيرتي ودهشتي وانا اقول لها هل كلامي ابكاك ؟ فضمتني الى صدرها فشممت رائحة الطهر والوطنية وعبثت بشعر اليتيم وكأنها تقول ستفهم كل هذه المعاناة ذات يوم !! ومنذ تلك اللحظات التاريخية التقطت ذاكرة الطفل فيَّ مئأت الصور لهذه الأم المناضلة وبدأ ابطال بيت الملة سلمان ينمون في مخيالي كما ينمو ابطال الروايات ذات النفس الملحمي !! وحين غادرت العراق سنة 1991 وأقمت في المغرب كتبت مسرحية شعرية في شقة متواضعة مطلة على مياه المحيط الأطلسي مباشرة بمدينة الرباط واسم المسرحية : الملائكة تبكي أيضا مهداة الى السيدة ام داوود الدلال واذكر انني رقصت طربا حين أنجزتها وهتفت مثل ارشميدس : الآن فقط وجدتها . الآن فقط مسحت دموعك يا سيدتي وأميرتي أم داوود الأسطورة!! وحين هاتفني صديقي الشاعر العراقي أمجد ناصر رئيس تحرير مجلة دفاتر الأدبية المقيم في كازابلانكا مع زوجه المغربية منذ ثلاثين عاما وقال لي ان الروائي المغربي المعروف محمد الصوفي يريد ان يتعرف علي ويجري معي حوارا لعدد من الصحف فوافقت واخبرته انني انجزت مسرحيتي الشعرية الملائكة تبكي ايضا ففرح وطلب الي ان اجلبها معي !! وحصل اللقاء الطويل جدا بيني وبين صوفي واندغمت عواطفنا ببعضها وقرأ بشغف واضح الملائكة تبكي ايضا واعجب بها واقترح علي الموافقة على مغربتها وكتابة سيناريو لها واخبرني ان لديه مخرجا مبدعا يبحث عن مثل هذه اللقطات والحالات الإنسانية ووعدني أن سوف يصورها ويعيدها الي في اليوم التالي ومعه المخرج المسرحي وافترقنا لأعلم في اليوم التالي انه اضاع المسرحية وفقد أي أثر لها واي امل لمسرحيتي الشعرية الملائكة تبكي أيضا !! إ. هــ !!

سابعا : المعلم حسن البصري :
بيتهم في الكوفة وهو طويل القامة نحيفها ورموش عينيه خفيفة فكانها يعاني من رمد مزمن ! كان يدرسنا الرسم بطريقة تجعلنا نكره سلفود ابو الرسم ! وهو قاس بما يجعلنا نتنفس بصمت ولا نتحرك ولا ولا ! ذات مرة كنت العب مع اقراني لعبة مرداد فلاحظ اقراني المعلم حسن البصري قادما فهربوا جميعا اما انا فلم اجد مسوغا للهرب وربما خارت قدماي كما يحصل لي في المواقف الكابوسية فوصل المعلم وسألني من كان يلعب معي ؟ فأجبته ثم قال لي ليش ما رحت وياهم لما شفتني ؟ فقلت ببراءة انا لم ارتكب اي ذنب فقبض حنكه بيمناه وعنتر حاجبه الايمن واغمض عينه اليسرى لثوان ثم مضى ! وفي اليوم التالي كان البرد على اشده وكنا في الاصطفاف موشكين على التجمد فننفخ راحات ايدينا بالزفير وفجاة دخل الساحة حسن البصري وبيده عصى غليظة طويلة من الزان ونادى بصوت اسرافيلي وين عبد الاله ابن الصايغ فدفعني المراقب معطي جبر نحوه وقال له هذا عبد الاله ! ودون ان يشرح هذا المعلم جريرتي انهال علي بعصاه كأنه مكلف بقتلي ! ولم يتركني حتى بعد ان سقطت مغشيا علي فصرخ الطلاب استاذ ماعت روح عبد الاله وقال آخرون استاذ خاف مات عبد الاله وهنا فقط كف عن ضربي ولم افق الا وانا في المستشفى يلقنني المعلمون انني لم اتعرض للضرب بالعصى وانني سقطت من الدرج ولكن المحقق خلع ملابسي وشاهد آثار العدوان على جسدي الطفولي ففتح ملفا للتحقيق ولكن العلاقات الاجتماعية والوجاهات اغلقت ملف التحقيق وكأن شيئا لم يحدث ! .

ثامنا : المعلم سيد جواد الحبوبي :
كان معتدل الطول والبنية اقرب للنحافة وجهه جميل جدا بحيث كان الناس يضربون الامثال بجماله وكان الى هذا خلوقا محبوبا خفيض الصوت رقيق الانامل وهو فنان مدهش صنع مجسما لتضاريس العراق والدول المجاورة له بحيث يتدفق الماء من تركيا ويجري في نهري دجلة والفرات المجسمين ! كان درسه حبيبا الينا بحيث لا نشعر معه باي ملل .

تاسعا : المعلم حسين عبود
جسمه معتدل نظراته حادة ولكنها رحيمة انيق الملبس قلما يدرسنا بالقميص والبنطال ضاربه معتدل ولم يكن الشيب قد غزاه رغم انه درسنا وهو ابن النيف والثلاثين يحب الفن والسفرات وصوته جميل وكان يدرسنا النشيد واذكر انه كان قد كون فرقة من الطلاب حسني المظهر والصوت وكنت ابكي لانه لم يخترني ضمن الفرقة فرق لحالي وقال لي يالله صير وياهم فشعرت بالسعادة وكان اول نشيد حفظناه واديناه هو نشيد :

لحصاها فضل على الشهب وثراها خير من الذهب
تتمنى السماء لو لبست حلة من طرازها العجب
ان بدا الأل في مفاوزها قل لنهر المجرّة احتجب
واذا الارض شام مبسمها اسكرته بحلة العجب
عج باهل الجزيرة اشرفها لتريك الاقمار عن كثب
لست ارضى السماء لي وطنا بدلا من جزيرة العرب

ولا اتذكر شاعر هذا النشيد ولا ملحنه ولكنني احفظ لحنه تماما واتذكر تعليمات المعلم في اصول انشاده ! فصدر البيت الاول يبدا هاديا ويرتفع قليلا في عجزه ولعل اقوى طبقات الصوت تجيء مع لست ارضى الزمان لي وطنا !
النشيد كنت احبه وحين كبرت ايقنت انه نشيد مهووس بغوغائية البداوة التي تفضل الصفراء على الخضراء والجرباء على الصحاء وسموم التصحر على خرير الماء ! ابتدع لنا حسين عبود مشروع الفلس فكل طالب يضع في الصندوق فلسا من يوميته وكانت يوميتي عانة اي اربعة تفاليس لكن بعض الطلاب تبلغ يوميته ربع دينار اي مصرف طعام عائلة رخية بعض الشيء فمثل اولئك الطلاب كانوا يدفعون ريالا وقيمته اربعة دراهم وقيمة الدرهم خمس عشرات وقيمة العشرة آنتان وفلسان وقيمة الآنة اربعة فلوس ! اي مئتا فلسا ! ومشروع الفلس يمثل اقتداء بمشروع المهاتما غاندي زعيم الهند ! لكن غرض صندوقنا ليس وطنيا بل ترفيهيا حين نجمع مالا مناسبا يأخنا سفرة جميلة الى كري سعده او بساتين الكوفة ! وكنا ننطلق تماما وبخاصة حين يغني زميلنا المدهش الصوت والملامح شهيد العشق محسن جبر الكوفي اغنيات مثل :

إن شكوت الهوى فما أنت منا هيا عين
احمل الصد والجفايا معنى هيا عين
لو وجدناك صابرا لبلانا هيا عين
لعطيناك كل ما تتمنى هيا عين
تدّعي مذهب الهوى ثم تشكو هيا عين
أين دعواك في الهوى يا معنى هيا عين
ما عشقناك للصفات ولكن هيا عين
نحن قوم إذا نظرنا عشقنا هيا عين
نحن قوم نرى التوجع ذلا هيا عين
قد وهبنا أرواحنا واسترحنا هيا عين
قم من النوم واترك الوهم عنا هيا عين
يا مليحا إذا مشى يتثنى هيا عين
قم فقد قامت الطيور تغني هيا عين
لا يكون الحمام أطرب منا هيا عين

وكان دورنا نحن هو ترداد اللازمة هيا عين بنفس طبقة المغني في الجواب والقرار !
ومحسن الكوفي رحمه الله كان يغني ايضا :

العين موليتين والعين موليه والعين لو سلهمت فاض الجدح ميه
العين موليتين واطنعش موليه جسر الحديد انكسر من دوس رجليه
اصعدت فوكَـ السطح والكَيت عرموطه والكَيت أهل الهوى بحبال مربوطه
ياربي نسمة هوه واتطير الفوطة
وانشوف عشكَـ الكبر اشلون تاليه
العين موليتين والعين موليه والعين لو سلهمت فاض الجدح ميه
اصعدت فوق السطح والكَيت لمتهم كلهم عمايم خضر يامحلا هيبتهم
ياربي جيب العصر واوصل ابخدمتهم
والبس ثويبي الحمر واركَص اجويبيه

ومن جميل الوقائع ان سكرتيرتي جاءتني وقالت ان طالبة اردت مقابلتك فقلت لها انك مشغول فقالت حتى لو مشغول قولي له انا ابنة معلمه حسين عبود واحمل اليه رسالة من ابي ! فلم اجب الآنسة سكرتيرتي بل خرجت بنفسي ووجدت طالبة جميلة انيقة فرحبت بها وصافحتها ودخلنا معا مكتبي وكنت اتماسك عن البكاء وهي تحدثني عن فخر معلمي بي وانه قال لها قولي للصائغ انني قبلته في فرقة انشاد المدرسة رغم علمي ان صوته غاية في الازعاج والغلظ ولكنني لم اكسر خاطره حين طلب مني بلسانه ان يكون ضمن الفرقة ! فضحكنامعا وقلت لها لقد فضحني امامك وكشف طبقة صوتي الموسيقية فقالت وهي حاذقة ان والدي يوصيك ان لاتدخل في اية فرقة انشاد فلن تجد حسين عبود مرة ثانية وضحكنا وخابرته وكان صوته ينم عن الشيخوخة وربما المرض اطال الله عمره وحباه الصحة والحبور لكن الاوضاع المتلاحقة في جامعة الكوفة بل النجف عام 1991 لم تكن مشجعة على زيارتي له او تشريفه لي ! يا للزمن المجيد كما يقول الحبيب عيسى الياسري !

عاشرا: هادي المواشي
كنت في السنة السادسة طالبا في مدرسة الغري الاهلية المسائية وفي النهار فانا صانع عند الحاج الجميل الرائع حمودي مُنا وكيل قطع غيار السيارات في شارع الكوفة الصناعي بالنجف !مقابل محل سيد مريطي اعظم مصلح سيارات في العراق ! شغلني عنده صديقه المرحوم السيد فاضل السيد جبر الصائغ مخمن ضريبة الدخل وفاضل هوابن اخي وانا عمه ولكنني كنت ابن الثانية عشرة وكان هو ابن النيف والثلاثين ! كان معي حميد المطبعي ومحم كاظم العادلي وهاشم الروازق فدخل علينا معلم جديد انيق جدا جميل جدا لبق جدا وقدم نفسه على هذا النحو : انا معلم اللغة الانكليزية الجديد ! اسمي هادي مواشي اتقن فن الخط العربي واعشق الديموقراطية واكره الديكتاتوريه ! وكانت لفظتا ديموقراطية وديكتاتورية نادرتي التداول بين طلبة الابتدائية لكنني اعجبت به واذا لاحظ ذلك مني اقترب وقال لي شسمك اخي ؟ قلت له عبد الاله الصائغ فصمت لحظات وقال لي اذن انت عم صديقي فاضل الصائغ واخ صديقي عبد الامير الصائغ ! قلت له نعم انا هو ومن وقتها دخل هذا المعلم العظيم كل مسامة في روحي ! وصار جزءا من ذاكرتي النجفية ! كان يأخنا سفرات نهارية في الجمعة الى الجدول ( منطقة البحر ) رغم خطورة تصرفه اذ لم يكن مجازا من المدرسة في السفر مع الطلبة وفي ذلك ما فيه من المغامرة الخطرة ! وكان يسبح معنا في حوض ماكينة عباس الرحباوي وينادينا كل طالب منا اخي او صديقي وهذا خطاب لم يكن موجودا بين المعلم والطلبة ! وكنا نلتقط معه الصور التذكارية ويطلب منا ان نكتب خلف كل صورة التاريخ والمكان والمناسبة واسماء الظاهرين في الصورة ! الحق تعلمنا منه الانجليزية واحببناها وتعلمنا منه عشق الديموقراطية واكتوينا بها وما نزال ! تعلمنا منه الاناقة في الملبس والحديث ! كان هادي مواش رياضيا رغم صغر جسمه قياسا الى اجسام من في عمره ! عضلاته مفتولة ولياقته بينة ! مرة عمل لنا احتفالية في اللغة الانجليزية دعا اليها طلاب النهاري من الصف المثيل وقد كتبت كلمة بالانجليزي تخرب ضحك والقى بيننا محمد كاظم العادلي كلمة نيابة عن الطالب حميد المطبعي من الوجبة الصباحية وهي المرة الاولى التي اسمع فيها باسم حميد المطبعي والمرة الاولى التي حدست فيها عنده- رغم صغر سنه وسني - حبه للابهة والظهور ولكننا سرعان ما اصبحنا اصدقاء نمضي مع بعضنا اوقاتا طويلة !

التقيت الحبيب استاذي هادي مواشي في بغداد 1985 وقد ابيض شعره لكن ملامحه الجميلة لم تتغير فوجهه يندرج في نعت Baby face وكذلك جسمه الرياضي محتفظ ببنائه المتين فليبقك الله ياهادي مواشي ولتلتفت الى تكريمك مدينة النجف فقد كنت بحق واحدا من خيرة ابنائها .

هذا ما تضمنته الفرزة الاولى : معلمو النجف الاشرف في اربعينات القرن العشرين وخمسيناته معتذرا عن السهو غير المقصود مرتجيا من ذوي الخبرة والمروءة مكاتبتي على ايميلي لكي اضيف او اعدل وكل ملاحظة سوف اضعها باسم صاحبها لكن من يطلب مني عدم ذكر اسمه لسبب او لآخر فانا مقدر لظرف اي كاتب ولدي الاستعداد الكامل لتلبية اي مقترح .

عبد الاله الصائغ
استاذ كرسي
مشيغن المحروسة
assalam94@gmail.com
29 January 2009


 

free web counter