| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

أ.د. عبد الاله الصائغ
assalam94@gmail.com
 

 

 

الجمعة 2/3/ 2012



عبد المحسن شلاش وزير مالية كفاءة عليا دون شهادة عليا

عبد الاله الصائغ

إهداء مؤلم : انحني إجلالاً الى ذكرى شهيد الكلمة المضيئة عبد الرحيم محمد علي

دعا الشيخ محسن شلاش إلى إعادة تأهيل (كري سعدة) القريب من النجف وكان جلالة الملك فيصل الأول قد استوعب فكرة شلاش وتحمس لها والصورة التقطت الساعة 11:30 صباحاً اليوم الخامس من ابريل نيسان 1924 ويبدو جلالة الملك فيصل وهو يمسك مسحاة والى يساره السيدمحمد علي بحر العلوم والسيد مهدي السيد سلمان والى يمينه الحاج طاهر الاميري رئيس غرفة تجارة عربستان ( الحاج رئيس ) والممول الرئيس وبيده المسحاة وكانت وفاته سببا في الغاء الفكرة ثم وزير المالية الحاج عبد المحسن شلاش والشيخ غني ال حسن

شناشيل النجف كانت حتى مطلع ستينات القرن العشرين معجزة الريازة الجمالية المستندة الى تراكم كمي من الموروث

تمهيد / استحقت لنجف بجدارة كرسي (عاصمة ثقافية) ليس لأنها تضم رفات امير السلم والحرب علي بن ابي طالب كرم الله وجهه وحسب ولا لأنها تضم رفات اربعة انبياء ( آدم ونوح وهود وصالح ) رضوان الله عليهم وصلواته فحسب ولا لأنها تشرفت بمراقد جل انبياء الله الذين تواترت اسماؤهم في التوراة والانجيل وكنز الرب والقرآن الكريم وحسب ! كل ذلك ممكن حسابه في تعصيمها إسلاميا وهي على مذهب الامام جعفر بن محمد عليه السلام ! النجف عاصمة الثقافة لأنها وبحساب بسيط ام نجيبة اهدت البشرية عباقرة قلما تجود مدينة بمثل ما جادت ! والنجف على مر العهود لم تبايع ظالما ولم تماليْ دكتاتورا ! ولم يسدها هاجس القطيع الذي يفكر على نسق واحد ! بل كان كل نجفي نسيج وحده حتى قال الإمام علي الشرقي :

قومي رؤوس كلهم أرأيت مزرعة البصل

شيء لايعقل ان يكون كبار أئمة المسلمين نجفيين وبين ايدينا الإمام محمد الحسين كاشف الغطاء ! ذهب بنفسه ولوحده الى مؤتمر اسلامي لترسيخ عروبة القدس واسلاميتها انعقد في منتجع بحمدون ! وقد حضر كبار أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وحضر الامام ابو لطيف كاشف الغطاء ولم يكن والحق يقال أعلم علماء النجف ولا ابرعهم وهذا منطق الأشياء لكن ما إن حان ميقات صلاة الجمعة حتى فوجيء الشيخ كاشف الغطاء بأن المؤتمرين فرشوا له سجادة الإمام وطلبوا اليه بالإجماع ان يؤمهم لصلاة الجمعة فامتثل لطلبهم وأم جمع المسلمين على اختلاف المذاهب ! من السخف ان اضيع وقت القاريء الكريم في تعداد مزايا مدينة كالنجف ولهذا اخترت الحديث عن رجل نجفي مغرق في البساطة ممعن في العظمة عاش اقل من سبعين بسنتين لكنه ترك إرثا تربويا للاجيال وتقاليد عقلية للمجتمع وذكرا يعطر الافواه والاسماع معا ونموذجا عبقريا للوزير الوطني المنتج ( وليس المستهلك ) ! كانت له خواطر اقتصادية صارت مضربا للامثال ! مرة تكلم في محاضرة عن اشجالار الفواكه التي تسمد الأرض وتجمل الطبيعة وتكفي صحة الانسان وعدد اشجار الرمان والحمضيات والتوت ثم توقف عند التين وقال سبحانك ربي ان ثمرة التين معجزة كبرى فهي الثمرة الوحيدة التي تقطف من امها وتوضع في الفم وتؤكل بتمامها ليس فيها نواة ولا قشر وهي الى هذا غنية بمتطلبات صحة الانسان وبخاصة المسنين فعاكسه احد الجالسين وقال له والتين مادة اساس لصناعة الخمرة فتبسم الحاج محسن شلاش وترك المنصة باتجاه المشاكس وصافحه وقال له تفضل الى المنصة واكمل محاضرتي فخجل الرجل ووبخه الحاضرون فمنعهم شلاش وحول محاضرته الى أدب الخطاب والسماع والحوار بما اغنى الجلسة وقد افاض شلاش وهو يتحدث عن ادب الخطاب بذكر الآي الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر بعصوره كافة وحين انتهى نهض المشاكس وقبل يدي شلاش فقال استغفر الله انما انت اعطيتني المسوغ لكي اتكلم عن ربح غير منظور وهو اخلاق المنتج والمستهلك حين تجمعهما لغة واحدة ومكان واحد كما انك نبهتني الى قضية تتصل بخطط المحاضر بحيث يتحسب لكل طاريء ! ويقال ان شلاش كان شاعر وان لديه ارجوزة في الاقتصاد قوامها الف بيت ! لكن لو كان لبان فلم يصل الينا بيت شعر واحد من شعره لهذا لانرجح انه كان شاعر وان كان ولابد فبيت او بيتين على عادة المشاهدة !! .

عرض / يقال ان لا احد تفوق على عبقرية وزير المالية اليهودي العراقي ساسون حسقيل سوى عبد المحسن شلاش ! فقد كان عبقرية نقلت العراق الى مرحلة رخية من فائض العملة وتنشيط الزراعة والصناعة وتشجيع الكفاءات العراقية ولم يكن ليحمل شهادة لا دنيا ولا عليا ولم يكن ليفكر بتزوير شهادة او شرائها فالرجال معادن ومآثر وليست الشهادة اكثر من معلومات يتحصل عليها الطالب فهي اذن ليست للوجاهة كما هي ايامنا هذه ! توفي الحاج محسن شلاش عن عمرناهز الثماني والستين سنة وقد بكته النجف واستشعرت الفجيعة لفقده وقد كان شديد الذكاء كثير التأمل محبا للطرفة يصغي الى محدثه اصغاء تاما اذا توسم في حديثه اضافة علمية او حياتية ! ولم يكن اختياره لكرسي وزارة المالية اعتباطاً او محاصصة يراد بها ارضاء النجفيين ! فالرجل كان مؤتمناً لدى البنك العثماني في النجف يعتمد عليه الباب العالي في دفع الحوالات (لآل رشيد) في حائل وهو الى هذا مؤتمن لعدة بنوك تجارية في الهند واسطنبول، وبيروت، وايران ، والخليج فضلا عن كونه مؤتمنا لدى الصيارفة العراقيين في كل الوية العراق ومدنه ! ويقبل الودائع والامانات بوصولات تحمل ختمه ولعل نجاحاته في العمل التجاري والزراعي والصناعي كان حديث مدينة النجف بله مدن العراق فاينما وضع فكره في مشروع حالفه النجاح حتى ان البنك العثماني كان يستلف منه بوصل ايضا فمرة استلف منه مائة وخمسين الف ليرة !! وقلما وجد عقل اقتصادي شخصي يتفوق على الدولة ! ويمكننا تنقيط مشاريعه الناجحة :
1/ نجح وللمرة الاولى في سحب الماء من نهر فرات الكوفة الى النجف بوساطة المضخات رغم تثبيطات مناوئيه وإشاعاتهم .
2/ عمل مصانع لليشاميغ والكوفيات والمناديل والطاقيات وكانت تصدر الى خارج العراق
3/شجع الايدي النسائية العاملة بتوفير مكائن عصرية للحلج والنسج لصناعة السجاد داخل البيوت وكان الطلب كثيرا على السجاد النجفي .
4/ طحن نواة التمر وتحميصها وخلطها بنسبة كيلو غرام واحد قهوة الى اربعة كيلو غرامات طحين النواة المحمص وعمل معملا لتزويد الطلبات وقد نجح المشروع وحقق ربحا مناسبا ولم يكشف الحاج محسن شلاش سر هذه المهنة الا لعدد ممن يثق بهم وكان سقاهم فناجين من هذه القهوة فاستساغوها وربما استحسنوها .
5/ تجفيف دبس التمر الزهدي لرخص اسعاره واستعمال حبات منه بدلا من السكر المستورد وقد ارسل عينة منه الى الخبراء في بريطانيا فاعطوه براءة اختراع وفتح معملين لهذا الغرض استوعبا عددا من الايادي العاملة .وقد شجعت مقاهي النجف وبيوتاتها هذا الاختراع الوطني .
6/ عمل شركة مساهمة لتمويل سكة حديد ترام بين الكوفة والنجف فنجحت ايما نجاح ومات وفي راسه مشروع مد السكك بين النجف وكربلاء .
7/ تخصيص مبلغ معلوم يدفع شهريا للعوائل النجفية المعسرة وفي الشتاء يوفر اعدادا هائلة من اليطقات والفرش والبطانيات والوسائد واطوال الخام والكودري ويعرضها في الشارع وتاتي النساء منقبات خشية ان يعرفهن احد وياخذن حاجتهن .
8/ كان الحاج محسن شلاش يشجع الجيل الجديد لمواصلة دراستهم في العراق او في البلدان المتطورة .
9/ الحاقا بالنقطة 7 كان الحاج محسن شلاش يضع في مضافته لوحة مزججة بالخط الطغرائي الجميل تتوفر على موعظة ( أكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم ) وكان يتبرع بطرق لاتجعل المشرفين على صناديق التبرعات يعلمون به ! ويروي تاريخ النجف الحديث ان المشرفين على مدرسة الغري الاهلية في النجف دعوا لجمع التبرعات بعد دعوة لكبار تجار النجف وموسريها فكل تبرع بمبلغ من المال وقد تبرع شخص بمبلغ يعدل كل ما تبرع به التجار ولكنه اشترط عدم ذكر اسمه ! ولوحظ ان الشيخ محسن شلاش هو الوحيد الذي لم يتبرع فلاكته الالسن على انه بخيل ولم يعبأ شلاش بالشاعات والتجريحات وعلم بعد لأي ان المتبرع الذي ابى ذكر اسمه هو عبد المحسن شلاش فاصاب الطاعنين شعور بظلم هذا الرجل الزاهد .
10/ كانت لدى الحاج محسن شلاش مكتبة فخمة كما ونوعا ويذكر الاستاذ جعفر الخليلي شيئا من اهتمامات شلاش وكان يحفظ كثيرا من نصوص نهج البلاغة وشعر المتنبي والمعري والبحتري وله اهتمام كبير جدا بالكتب العلمية والفكرية وبخاصة الفلسفية بل والحاج محسن شلاش كان يطبع الكتب على نفقته وهو اول من جمع مخطوطات الشاعر الكبير محمد سعيد الحبوبي من ورثته وطبعها في ديوان خشية ضياعها ! .
11/ يروي الاسطة سعيد المعمار وكان اشهر مهندس بناء في زمنه بأن الحاج محسن شلاش كان يثري تجربته في ريازة البيوت وزخرفها واقواسها واحواضها وأراسيها واساطينها ! بل وكان خياله معجزة في تصميم الشناشيل النجفية التي امتازت عن شناشيل البصرة والموصل بخصوصيتها !! .

نكتفي بهذه النقاط ونجري خلف ظل هذا العراقي النجيب وكان يسمع اشاعات مبالغة عن ثرائه حتى قيل ان لدى الحاج سراديب مملوءة بالليرات الذهبية ومرة دخل على مجلس كان الحديث فيه يدور عن ثروته وكان احد الجلاس قد زعم ان شلاش يمتلك عشرة آلاف صندوقا بحجم ( كنتور) مملوءة ذهبا ! فلاطفه الحاج محسن وقال له كم عدد درجات السلم المؤدي الى سطح بيتك وعدد درجات السلم المؤدي الى سرداب بيتك فبهت الرجل وقال لا ادري ! فقال له الحاج محسن اتق الله يارجل تعرف مقدار ثروتي وعدد صناديق الذهب وهي في بيتي وتجهل درجات السلم وهو في بيتك فاستحى الرجل وطأطأ . ولم يكن حين استوزر ليغير زيه فكان يحضر اجتماعات مجلس الوزراء وهو بكشيدته ! ويرافق الملك في اسفاره وهو بهيئته ثقة منه بنفسه واحتراما لخصوصيته !

كان متواضعا زاهدا لايسرف في ملبس ولا مطعم ولم يكن الشغيلة عنده ليقدموا له آيات الطاعة والولاء بل كانوا ياكلون معه ويزاحمونه ربما في الكلام او الطعام او الجلوس بيد انهم لايفعلون ذلك مع اولاده فهم يرتجفون منهم ولايقاربونهم الا بمقدار ! اما سيرته الوطنية فهي سيرة مشرفة فقد كان منحازا للفقراء والمعدمين ومتخندقا مع الثوار والمعارضين ! حتى انه حين تشكلت اول جمهورية في النجف وتشكل المجلس البلدي ليدير شجون الحرب والحياة الاجتماعية وقامت إلى جانب المجلس البلدي هيئتان محليتان لمجالس الادارة فكان محسن شلاش في الهيئة الاولى ناظرا للمالية جنبا الى جنب مع رئيسها الشيخ جواد صاحب الجواهرو السيد مهدي السيد سلمان رئيساً للقوة الاجرائية .

اذن محسن شلاش رجل السلم كما هو رجل الحرب واذا انفقنا وقتا طويلا لتتبع مآثره لما قدرنا ! وثمة طريفة بلغتنا بطريق التواتر وهي ان الحاج محسن ايام استيزاره للمالية لم يكن يستعمل سيارة خاصة ولا عربة قطار خاصة بل كان يندغم مع الناس يتحدث اليهم ويصغي دون ان يعرفوا عنه ازيد من كشيدة وصاية وحذاء روغاني ! وذات مرة ويحددها البعض في تموز جولاي 1924 صعد الحاج محسن مقطورة قطار وكان عائدا من البصرة بعد ان تشاور مع متصرفها ومدير بلديتها حول مشكلة المياه ! وتشاء الصدف الساخرة ان يكون في العربة اللاهبة اثنان الحاج محسن ورجل متوسط العمر يبدو انه قد وعب كثيرا من العرق فتعكر الرجل حين ابصر كشيدة شلاش وقال له دورلك على قاطرة غير هذي فقال له شلاش معتذرا انه لم يجد فسحة الا في هذه القاطرة فتمتم الرجل بما يشبه انه لعن الحظ الذي جاء له بهذا الرجل التاجر من مظهره والخير من عمره ! قال له عمي تشرب وياي عرق ؟ قال له لا ابني اخذ راحتك وما عليك بيه ! قال الرجل زين تعال اجلس ولا تشرب فقال الحاج محسن فكرة طيبة سوف اكتفي بالمزة وفعلا ازدرد الحاج مزة الرجل وجعل الرجل يندب حظه ! عمي هاي مزة يتمزمزون بيها مو يتعشون !! ثم سكر الرجل واخذ يضحك من تلقاء نفسه كلما نظر الى الحاج محسن ويمكن القول انه اضطهده بامتياز فصبر الوزير ذو الكشيدة والصاية وحين وصل القطار الى بغداد صعد شرطة التشريفات وادوا التحية لوزير المالية ! اما الرجل ويقال انه كان موظفا في المالية فقد انهار تماما ووقع على كفي الحاج محسن كي يصفح عنه ولايؤذيه فقال له الحاج محسن اصفح عنك شرط ان تبري لي الذمة فقد استوليت على مزتك .. ويقال انه صار من معارف الوزير وتحسنت الصلة بينهما صلة وزير كهل وشاب فج قليل التجربة تعلم درسا في الحياة لاينسى !! ويروي المؤرخ الكبير المغفور له جعفر الخليلي في موسوعته الفذة هكذا عرفتهم 1/ 159 وما بعدها حكايات كثيرة عن عظمة هذا الطود وترفعه وتواضعه واحتضانه للشباب واحترامه لاطروحاتهم وكيف انتقلت الصداقة بين الخليلي وولد شلاش المسمى عبود انتقلت لتكون بين الخليلي وشلاش صداقة عمر كما يقال..كان الحاج محسن قد تعرض لوعكة وشخص الطبيب بانها اشارة غير مريحة لأزمة قلبية واوصاه بالخلود الى الراحة ! لكنه لم يمتثل لقول الطبيب فقرر زيارة مسجد السهلة مع ان الطريق اليه بالسيارة كان وعرا وحين مر في طريقه على (دار الهاتف) رغب بزيارة الخليلي ودار الهاتف لكن ابنه استحثه ! وتشاء المقادير ان يموت هذا الطود ولم تتحقق رغبة عنده في زيارة الخليلي ! وجعفر الخليلي يستذكر افتتاح مركز الهاتف وكيف احتاج الى مبلغ من المال فتقرض من الحاج محسن وبعد ان التقطت الهاتف انفاسها اعاد المبلغ اليه شاكرا ! مات الحاج محسن شلاش ولا احد يدري مقدار تركته التي خلفها لوارثيه وكنا ونحن صغار نلثغ ( امشينا الفي الفي لو عدنا افلوس البو شلاش كان صرنا حاتم طي ) ومازلت اتذكره اخريات ايامه يجلس على كرسي بباب قصره في الجادة الاولى بعد سور النجف وقصر شلاش كان بين قصرين قصر الصائغ عن شماله وقصر النصراوي عن يمينه وكنا نقف امامه مشدوهين فهو يحب الاطفال ويانس لهم وكم كنا خلال اللعب نحكمه فيرتضي التحكيم وكم كان ينصحنا بطريقة غير مباشرة رحم الله الحاج محسن شلاش فقد كان برا بمدينته برا ببلاده ولتكن سيرته العبقة قدوة للاجيال الجديدة .


عبدالاله الصائغ
Assalam94@gmaiul.com
  الثالث من كانون الثاني جنوري 2011
 


 

free web counter