| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

أ.د. عبد الاله الصائغ
assalam94@gmail.com
 

 

 

الأحد 15/8/ 2010



عبد الأمير الحصيري ومواسم العطش
شيء من  ذكرياتنا وشيء من  الاستعارة

عبد الاله الصائغ

1 #  البوم الصور

   

  1941 - 1987


الاستاذ كرم نعمة يجري لقاء مع الصائغ في ليبيا
واللقاء منشور فوق صورة الاستاذ نعمة
 

2 # رسالة الاستاذ سفيان الخزرجي

صديقي الشاعر والاستاذ الكبير عبد الاله

تحية حب واتمنى ان تكون بصحة جيدة

لقد حملني مقالك الرائع عن الحصيري الى ماضينا الجميل في بار سرجون ومقهى حسن عجمي وقد اعدت لي صورة عبد الامير الحصيري باظافره التي توحي بانه لم يقلمها منذ ولادته وهو لا ينفك يهذي بقصائدة المثقلة بالصور.

قرأت الابيات التي نشرتها من قصيدته الرائعة :

أجائعٌ؟ أيَّ شيءٍ ثمَّ يا قلق؟‏

أَمِنْ حطاميَ هذا يمطر العبق؟‏

واذكر منها بيتا جميلا هو:

سكرى يكاد عليها رغم ملبسها

من النعومة حتى الضوء ينزلق

وقد دهشت لوجود بيت آخر في نفس القصيدة يحمل نفس المعنى (انزلاق الضوء)

قد زان صدرك حين اغتالني الشبق      نهد يكاد عليه الضوء ينزلق

فهل من تفسير لهذا؟

ومن ذكرياتنا مع الحصيري ان صديقا لنا اسمه يحيى صالح طرح موضوع طبع ديوان مشترك (على حساب يحيى) يضم الحصيري وعلي جعفر العلاق ويحيى صالح وانا، ولم يكن حينها احد من المجموعة قد طبع ديوانا (اعتقد نهاية الستينيات)، فرفضت انا الفكرة رفضا قاطعا لعدم وجود تجانس في المستوى الشعري بين الاسماء المطروحة. وفعلا تجنبنا الوقوع كصغار الطير تحت جناح النسر عبد الامير الحصيري.

تحيتي لك ايها الغالي ودم لنا وللمكتبة العربية بافضل حال

سفيان الخزرجي 
 

3 #  مساهمة الدكتور محمد الصائغ

كانت معرفتي بالشاعر عبدالامير الحصيري في نهاية الخمسينات او بداية الستينات عندما كنا تلاميذ ثانوية في النجف معرفة سطحية لاتتعدى السلام عندما يواجه بعضنا بعضا , ولم يدر كلام بيننا ولكني كنت اعرف عنه انه شاعر في بداياته يساري الاتجاه وشيوعيا بالتحديد . في بداية السبعينات التقيته مصادفة في شارع الرشيد في بغداد , كان بحالة رثة ويرتدي أسمالا بالية ولم يجد المشط الى شعره سبيلا , استقبلني بحفاوة بالغه وكأننا اصدقاء حميمين , سألني عن مكان عملي الذي كان آنذاك في شارع البنوك , واعلمني انه يسكن في الحيدر خانة القريبة من دائرتي ولا اتذكر ان كان فندقا أو غرفة مستأجرة , فاجأني احد الايام بزيارتي في الدائرة ومكث فترة تحدث فيها عن مشاريعه الادبية المقبلة , وعاد بعد ايام قليلة وقال لي انه يعتزم طبع ديوان له وانه بحاجة الى بعض المال وسيعيده الي بعد انجازه فأستجبت لطلبه وتكررت زياراته مرات عديدة وفي كل مرة كان يستدين مني بعض النقود ولا افكر باستعادتها وان كان يعدني بذلك اذ كنت ادرك حالته المادية .

           في احد الايام جائني احد زملائي وقال انه يعتب علي وبقية الزملاء ايضا فاستغربت لذلك وسألته عن السبب فقال انت رجل محترم فكيف تصادق شخصا مشردا سكيرا قد يكون شحاذا او اميا لاعمل له , فضحكت وقلت له ان هذا الشخص محترم اكثر مني ومنك انه شاعر كبير وصاحب معلقات ولا ابالغ ان قلت انه أحدابرز شعراء العرب ولكن الضروف عاكسته فقد طبع ديوانه قبل انقلاب 8 شباط بأيام ولما كان شيوعيا فقد صودرت كتبه قبل ان تباع وخسر مبالغ كبيرة وازاء ذلك اصيب بأحباط بعد التضييق عليه ومحاربته كما لم يجد وظيفة يعتاش منها بسبب اتجاهه السياسي فتشرد وتصعلك وادمن الخمر , فغر زميلي فاه وقال كيف ذلك وأنا لم اسمع به ابدا قلت له ستسمع .

      بعد ان وجد الشاعر عبد الامير الحصيري ميتا في غرفته في الحيدرخانة  عام 1978جاءني الزميل وقال بالله عليك هل ان هذا المتشرد الذي يزورك هو نفسه الشاعر عبد الامير الحصيري قلت له نعم فقال ياسبحان الله ان الصحف والمجلات الصادرة بعد رحيله مكتظة بالمقالات عنه وعن عبقريته الشعريه وخسارة العراق لامثال هؤلاء العمالقة .     

الثالث عشر من اوكست آب 2010

الدكتور محمد الصائغ بغداد


4 #  رسالة الدكتور عبد الحسين شعبان :

مضت فترة ليست بالقصيرة لم أسمع فيها أخبارك، ولم أقرأ لك ، وكنت أتابع أخبارك وأقرأ لك بشغف واعجاب.

أتمنى لك الصحة الموفورة والعز والسؤدد.

ولقلمك الأنيق واسلوبك الرشيق وفكرك العميق الازدهار والتقدم.

دم عزيزاً أيها الصديق المبدع والانسان الجميل .

أحييك مع المودة وأرجو أن أسمع منك وعسى أن يكون المانع من عدم التواصل خيراً.

تحياتي واحتراماتي الى العائلة الكريمة.

 8-9-2010

عبد الحسين شعبان


5 #  كثيرون اولئك الذين كتبوا عن عبد الامير الحصيري !

نظرا لحاجة الشارع الثقافي العربي  الى معرفة الكثير من خفايا ومزايا شخصية ابداعية كبيرة ظهرت مبكرا او متأخرا!! بعضهم كتب عما يعرف فجاد وبعضهم هرف بما لايعرف فحاد وبعضهم كان ناقل تمر الى هجر ! ولكل من اولئك وهؤلاء مسوغاته وقراؤه !! لقد كنت انتظر ارشيف العمر الذي إئتمنت عليه صديقا مؤتمنا  ليجلبه من العراق  فما كان منه الا ان تسلمه ثم أضاع الارشيف بين طيبة تفكيره وخبث البريد ! بل كنت معولا على ارشيف العمر كي اكمل موسوعتي واتنفس هواء الطمأنينة على عمل بدأته عام 1985 ! هذه شقشقة مع شيء من دخان احتراق كبدي على كنز لم اعرف كيف احافظ عليه ! ولعل الجدير بالقول هنا ان مقالة الكاتب الكبير الاستاذ زيد الحلي كانت الاقرب الى اهتمامي لما تضمنته من اضافات لصورة عبد الامير الحصيري ! وذلك لايعني الغض مما كتبه الآخرون ونحن ندعو مديرية الثقافة العامة كي تصدر مجددا العدد الخاص عن عبد الامير الحصيري لمجلة الاقلام بهيئة كتاب مع دواوينه الشعرية النافدة وكتاب عزيز السيد جاسم ثم تضم اليه ما كتب عن الحصيري بعد تلك الفترة لكي تتوفر مادة بحثية تليق بهذا الشاعر المهم ! وكنت قد التقيت طالبا من جامعة البصرة كلية الآداب واخبرني انه يعد اطروحة عن الحصيري وقد اجرى معي حوارات مطولة حول الحصيري ولعلي زودته بما توفر لي من الوثائق واعلمني الطالب انه ناقش اطروحته ونال عليها الماجستير! وارجو ان يقرا هذا الاخ الكريم مقالتي هذه ويسعى الى نشر اطروحته او تقديم ملخص عنها ! ولم اطلع مع الاسف على ماكتبه المؤرخ الصديق الاستاذ حميد المطبعي في  موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين طبعة  دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد 1995 عن تربنا الحصيري  وكذلك ما كتبه الباحث الثبت والصديق الدكتور صباح نوري المرزوك في معجم المؤلفين والكتاب العراقيين طبعة بيت الحكمة   بغداد 2002 عن الحصيري فقد كنت منذ 1991 في المنفى !
 

6# الحصيري ولد ميتا ومات حيا وهذه سنة العبقرية

لا تسخري مني يا مقابر

جنازة تحملها المقادر

رغبة  عبد الامير الحصيري كانت ان يصطحبني الى حديقة الملك فيصل الثاني وهي قريبة من شارع الهاتف مقابلة للمقبرة الكبرى وادي السلام ! على الطريق العريض بين النجف والكوفة او بغداد ! وكانت هذه الحديقة مقبرة فقرر قائمقام النجف الأشرف الشهير ابو عامر في العهد الملكي ضمن قراره تشجير النجف وجعلها خضراء تحويل هذه المقبرة التي تسبب الفزع للبيوت الجديدة الى حديقة ومنع اصطناع المقابر داخل المدينة ! عموما كنت اذهب معه الى الحديقة مع ان منظر جمجة او ساعد ميت شبه مالوف في تلك الحديقة المقبرة بل ان رائحة الموتى تملأ شهيقنا فنزفرها ! لكن عزاءنا بتعدد الاشجار  والورود ! مرة كنا الحصيري وانا جالسين نتكلم في الشعر وكان الحصيري رغم مراهقته وملاحته لايفكر في المرأة او يشتهيها او في الاقل يثرثر بمفاتنها كما كنا نفعل ! المرأة لم تكن هما لدى الحصيري لا وجوديا ولا فنيا ! عموما كنا جالسين واعمارنا لم تتجاوز الخامسة عشرة ! فمرت بنا إمرأة في الثلاثين من عمرها او اقل بقليل ! مازلت اتذكرها وكان عبد الامير الحصيري حين هاجر الى بغداد يتذكرها ويستغرق في الصفنة !! كانت جذابة فتحة ثوبها العريضة سمحت لثدييها المختنقين ان ينتفسا ! تضع الديرم على شفتيها والكحل الكثيف على عينيها وقد حددت حاجبيها وشفتيها ! وتمضغ علكا كبيرا كانها تعلك لحمة ! وقفت قبالتنا والادق قبالة عبد الامير الحصيري فبان جسمه ضئيلا قياسا الى جسمها ! عيناها وعيناه التقت للحظات وكانت وكأنها حولت الحصيري الى علك فبدأت تمضغ علكها وتمتص رضابها في مشهد حلمي ! هل كانت تعرفه وهي في سن امه ؟ هل كانت تشتهيه ؟ هل سلم نفسه لها يوما ما ؟ طبيعتي ان لا اسأل ! وفهمت من عيني الحصيري انه لن يرافقها ! هل اقول ان هذا السنخ من القحاب كن يعشن في المقابر  خشية ان يطالهن عقاب ذويهن او انهن بلا بيت ولا معيل ! انصرفت هذه المرأة فكأنها كانت تجثم على صدري واختفت فتراءى وجه الحصيري اصفر على غير عادته ! وهتف بي عبد الاله هل معك ورقة وقلم قلت معي اوراق كثيرة ولكن دون قلم فقال لي وكأنه يحدث نفسه : عبد الاله سوف ارتجل شعرا هل تعرف ما الارتجال ؟ قلت له كيف لا اعرف وانا شاعر مثلك وطالب في مستواك ؟ قال اذن اسمع فقرأ ابياتا عليَّ لم يبق منها الزمن سوى بيت واحد هو :

الإثم قد زرع الظِّلالَ على جوانب مقلتيك     قلبي تمزقه يدي كي لا يموت بناظريك

فهل صناعة بيت كهذا شيء ميسور لصبي في عمره ! وعلى وفق اطلاعي على اعمال الحصيري لم اجد هذ البيت لا مفردا ولا ضمن قصيدة في دواوين عبد الامير الحصيري كافة !
 

7 #

لقد كان عبد الامير الحصيري تربي وصديقي فكلانا جاء الدنيا عام 1941 ولا اعول على نسبة ميلاد الحصيري الى غير هذا التاريخ ! وودع الدنيا غير آسف علي شيء في 1987   في فندق شعبي بطرف الكرخ هو فندق الكوثر ! ويذكر تقرير الطب العدلي استنادا للاستاذ زيد الحلي (  ان سبب الوفاة عجز في القلب وان المخبر عن الوفاة هو مركز شرطة الكرخ بتاريخ 3/2 /1978) ! ومثل هذه النهاية كانت متوقعة جدا بالنسبة لنا نحن اصدقاء الحصيري ! فهي اهدأ النهايات قياسا الى رجل يرتعب من الصحو فيلوذ بالعرق الرخيص ! يرحمه الله ويذ كر الكاتب الكبير زيد الحلي  في موضع ثان : وسار موكب الأصدقاء، الذي ضم سعدي يوسف وموسى كريدي ورزاق ابراهيم حسن وهادي الجزائري والعبد لله وبعض أقارب الحصيري وثلة قليلة ممن ضاعت اسماؤهم من ذاكرتي .. سار بأتجاه الشارع الفرعي للمقبرة ، إيذاناً بالمغادرة وسط صمت ، لم يعتده أصدقاء الحصيري ، لكنه كان صمتاً قصيرأّ ، حتى بدأنا بالحديث عن " الحصيري " ذاكرين نكاته ومشاكساته ومقالبه !! إ . هــ  الحصيري لايخشى الموت ولم يتبد الموت في شعره غولا كما ابو ذؤيب الهذلي 

واذا المنية انشبت اظفارها  الفيت كل تميمة لاتنفع

ولا زائرا مرعبا كما عبد الرزاق عبد الواحد

اجلس كأي زائر وسوف لا اسأل لا ماذا ولا من اين !

وحينما تبصرني مغرورق العينين

ولكنه لم يتحد الموت كما المتنبي

يحاذرني موتي كأني موته   وتلسعني الافعى فيلدغها سمي

قارنه يقل :

واذا ما غدوت يوما رمادا      فالمسيني اثب اليك فتيا

عاقدا في ذراعك البضة النشوى    ذراعي وهاجرا قدميا

وفي ذلك تناص شفيف مع الدارمي العراقي

ياولفي منساكيش  لمكَركَع الخام

عل كَبر لو مريت  اتحرك عظام
 

8 #

لا اظن ان الحصيري قد احب بغداد او تعلق بها كعادة عشاقها من الشعراء ! فهو لم ينجح فيها حياتيا وان سطع فيها مبدعا ! الفشل يعتده من طبيعة بغداد وكل المدن الكبيرة كثيفة السكان اما السطوع فيها شاعرا يشار اليه فذلك من عنديات الحصيري ! شيء من موهبته لذلك يستشعر القاريء انطفاء وهو يتابع بغداديات الحصيري رحمه الله :

بغداد قلبي في يديك فعذبي      ان شئت او ان شئت شل العاطب

بالرغم من ان الغري بأضلعي         لهب. ولي حتى رباه حبائب

انا ذلك الشحرور.. دجلة ايكتي       ولئن توهم بي حزين ناحب

اطري حفيف غصون عزك اخضرا    حتى يمزقني ارتعاش قاصب

اتفيأ البسمات حيث مدامعي          في غاب لحيتي البهيم سواكب

فغسلت في منديل صبحك أدمعي نسجته من همس الحرير كواعب

لا تعتبي. إما زفرت تألماً             من نار أحلامي.. فما أنا عاتب

أو ان زرعت رؤاي في لجج السنى    عين مخضبة.. ووجه قاطب

غفرانك الأشذى فما أنا ناكب          ان لم يجد إطراء مجدك واثب
 

 9 #

عبد الامير الحصيري رجل مخضوضر الروح  كمثل معظم النجفيين رغم ان النجف مدينة صحراوية لا تسمح لأحد بإنتهاك تقاليدها الصارمة التي ترقى مراقي الدين فهاجرها احمد الصافي النجفي وجعفر الخليلي ومحمد مهدي الجواهري وعلي الشرقي وعلي الخاقاني وعبد الرزاق محي الدين وآخرون كثر !  والمبدعون الذين هاجروا النجف الاشرف  لبثت  النجف في ارواحهم جمرة في وجداناتهم  محرقة ! كذلك الحصيري في مبتدأ حيرته ومراهقته وموهبته اقتدى بالرعيل الاول الذي هاجر النجف وعلق رزقا وسطوعا ! فهاجرها  الحصيري وترك قلبه عندها  ! فهو يعتذر للمدينة ( الغري ) ويؤكد عشقه لها :

بالرغم من ان الغري بأضلعي         لهب. ولي حتى رباه حبائب

حط الحصيري في بغداد دون تخطيط  او استعداد ربما ودون فكرة واضحة عن متطلبات بغداد من كساء وطعام وسكن فضلا عن ان عجلة الحياة في بغداد تدور عجلى  ولابد للغريب من ملاحقتها او دهسته وعبرته ! والحصيري  رجل دون عمل فلم يكن ليتقن حرفة ! غامر الحصيري وانتقل الى بغداد نهائيا ! ومع انه كان انطوائيا وثقته بموهبته تشبه الغرور بيد انه كان مهذبا بحيث لم يؤذ كائنا قط سوى نفسه ! كانت بغداد رهان الحصيري الاخير كما نحن الذين غادرناها بحثا عت الفرص والسطوع والحرية ! لكن الحصيري لم يدخل بغداد صفحة بيضاء كحال البعض منا بل جاء بغداد مهشما مروعا دخلته فلسفة السؤال ( لم كان ما لاينبغي ان يكون ومتى يكون الذي ينبغي ان يكون ) ورافقه السؤال المزدوج  حتى القبر ! لم يكن له ذوو قربى ليتزلف اليهم ولا اصدقاء فيحتك بهم ولم يكن حزبيا ليصادق رفاقه ويعرف من خلالهم ماذا يتعين عليه ان يفعل ؟ بارات بغداد الرخيصة التكلفة  في باب المعظم وعلاوي الحلة والباب الشرقي وابو نواس بارات رخيصة الثمن تقدم مزة مجانية متنوعة كثيرة بحيث كان الحصيري ورهط من الصعاليك يعتمدون  في غدائهم  او عشائهم  على المزة !  .... لبن حامض حمص مسلوق وباقلاء مسلوقة وخيار وطماطة وبطاطس وكاس تشريب وخس والقائمة طويلة ! يجلس الحصيري وقد رجَّل جمجمته بالعرق الصرف ويخرج اوراقا ليكتب شعرا قد يستغرق هذا العمل ثلاث ساعات وكان ايسر شيء على الحصيري حين  يقرا قصيدته الجديدة التي كتبها للتو أن  يشتم نفسه ويمزق القصيدة او يلقيها  لنهر دجلة ! ان الحصيري لن يعلن خيبته في بغداد ولكننا نعرف ذلك من فلتات اللسان قارن :

ومن عذابي أصيح يا نجف

يا موطن الأشقياء يا شرف
 

10 #

يظل عزيز السيد جاسم في ذاكرتنا نحن مجايليه مبدعا كبيرا ومفكرا كبيرا  وقلبا كبيرا ! فهو لم يرع الحصيري وحده بل رعى عددا من الادباء المبتلين بالفاقة او الجيش او الادمان الخمري ! وعنايته بعبد الامير الحصيري امتداد لاخلاقيات فتى الناصرية الفذ فضلا عن اعجاب شخصي من لدو سيد جاسم بشعر الحصيري !  

لو وجد الحصيري قلبا كقلب عزيز السيد جاسم في ايامه البغدادية الاولى لكان يمكنني القول ان حياة الحصيري ربما استقرت بما يعزز في نفسه الاعتدال في ( تدويخ ) الراس ! لكن هذه الفرضية لاندخلها في حسابنا ! كل من كان حوله يتفرج عليه وقد يرق لحاله ولكن الجيوب خوال ! ففترة الستينات ورثت صعلكة حسين مردان وزهير القيسي واضرابهما ! وكان منتهى زهو الفتيان انهم مفاليس وانهم يحصلون على ثمن العرق بعد شياط وعياط ! ولم يظهر في الستينات كما الخمسينات فنانون وادباء موسرون يعينون فقراء الادباء كما كانت تفعل فنانة العراق الكبيرة عفيفة اسكندر  والاديب الرحالة ناجي جواد الساعاتي ! فلقد هبت السياسة واكتسحت الجميع الى حيث لايعلمون او يعلمون ! لكن الحصيري لم يعدم الصحاب الذين يسمحون له بالشرب على موائدهم دون ان يعكر سكره الثمن فهم يدفعون عنه ومن هؤلاء الاساتذة شاكر السماوي وعزيز السماوي وفيصل لعيبي وعلي جعفر العلاق وعبد الاله الصائغ فهؤلاء فريق  كان اكثر المقاصف قربا الى انفسهم مقصف سرجون  في ابو نواس ومن بعد مقصف البلدية في باب المعظم وثمة فريق ثان قوامه خالد علي مصطفى وعبد الامير معلة وشفيق الكمالي وهؤلاء يشربون مع الحصيري غالبا في بيوتهم ونادرا في اتحاد الادباء ! وقد بات املاق الحصيري ورثاثته ونفوره من الاستحمام كما لو انه يعاني من (هدرو فوبيا ) مزمنة ! وكذا المشكلات التي تعتوره مع البوليس او العابرين مثار احاديث يتناقلها الادباء للتندر ! ولم يجد عبد الامير الحصيري قلبا يحنو عليه كما هو قلب عزيز السيد جاسم ! ولكن وا اسفاه لقد ادركه السيد جاسم بعد فوات الاوان فقد تلبسته حياة الصعلكة ولم يعد بمقدور وعيه الخلاص منها ! وكان اقرب الناس الذين يمكن ان يحتملوا الحصيري او المرشح للعناية بالحصيري انسانيا هو الكاتب الشاعر رزاق ابراهيم حسن ولكن رزاق من جيل لاحق ويعاني فاقة مزمنة ! ومع ان ظروف الاثنين متشابهة الا ان رزاق لم يدمن الخمرة ولم يتصعلك بل انصرف للكتابة والعائلة !

وكان الوشيج بين  الحصيري وعزيز السيد جاسم  مثالا طيبا  على  طبيعة السيد جاسم في رعاية المبدعين ! وبعض معلوماتي استقيتها من ثنايا  حوار مطول دار بيني وبين الدكتور محسن الموسوي الشقيق الاصغر لعزيز السيد جاسم فاقتضت الاشارة ! ولاني زميل الحصيري وصديقه في متوسطة الخورنق السنة الاولى وكان معنا موسى كريدي كان ذلك عام 1956 وقد كلفني حاتم الصكر رئيس تحرير مجلة الاقلام العراقية ان اكتب موضوعا عن الحصيري في عدد مخصص للحصيري واتذكر الغلاف كان احمر ! كتبت مقالتين في العدد نفسه الاولى عبد الامير الحصيري ذكريات الصحبة  والمقالة الثانية الصورة الاستعارية في شعر عبد الامير الحصيري ! وحين الف الاستاذ عزيز السيد جاسم كتابا عن الحصيري امير في الغياب امير في الحضور استشهد بكثير من اشاراتي وذكرياتي عن الحصيري !

لعل عزيز هو الاديب الوحيد الذي لم يتخل عن الحصيري ولم يردد له طلبا ! السيد عزيز كان يحب الحصيري وينصحه ويعتني بملابسه لكن الحصيري كان شعاره ربي كما هكذا خلقتني  ! خشية عزيز بعد ان شاهد بنفسه صندوقا خشبيا يضع فيه الحصيري قصائده القديمة والجديدة خشيته ان يسرق الصندوق منه ذات يوم فيضيع كنز من كنوز العربية ولم يهدا للسيد بال حتى نشر الحصيري شيئا من شعره في المجلات او الصحف او الدواوين !  كان عبد الخالق السامرائي  القيادي البعثي المعروف صديقا مقربا لعزيز السيد جاسم فهو  يستطيب قراءة عزيز للشعر بل وكان عبد الخالق السامرائي يدعو عزيزا ان يصنع كتابا باسم مختارات عزيز السيد جاسم لقصائد الحصيري ! كلف السيد عزيز صديقه السامرائي ان يرتب وظيفة للحصيري في دار الاذاعة العراقية وبما ان الصحاف كان من تلامذة السامرائي ومن عشاق شعر الحصيري وان كان يكرر في مجالسه والله عبد الخالق السامرائي وعزيز سيد جاسم راح يورطوني وي اهل العركَـ ( العرق )  ! جاء اليوم الذي ارتدى فيه الحصيري افخر الملابس التي اختارها له عزيز بنفسه وكان اقسى شيء على نفس الحصيري الرباط  فما إن اجتاز الحصيري الاستعلامات حتى هرش ربطة عنقه والقاها في حاوية ازبال قريبة منه ! وكانت التوصيات هي ان لايتحرش به احد اديب او غير اديب وجلس الحصيري طويلا وراء المكتب وخلع حذائيه ! ثم التفت الى احد الموظفين وساله بعد كم ساعة وينتهي الدوام ؟ فقال له الموظف تقريبا ست ساعات ؟! فضحك الحصيري وقال يعني آني مسجون ست ساعات ؟ ولبس حذاءه وغادر الاذاعة الى اقرب حانة يكرع فيها العرق بالارطال ! وهكذا فشلت عملية توظيفه في الاذاعة ! كل شيء ضمن التوقع قالها السيد عزيز وهو يقرأ رسالة مستعجلة جعلته يرتجف ويترك عمله دون ان يوصي وكيله او مدير اعماله الرسالة مكتوب فيها بخط عبد الامير الحصيري المخربط  اخي سيد عزيز اكتشفت حلا لكل مشاكلي وهو ان انتحر قبل ان تصل مكاني ) وكان سيد عزيز بين مصدق ومكذب وحين وصل مكان اقامة الحصيري شاهده محتضنا صندوق قصائده كمن ينتظر سيد عزيز ليختبر معزته في نفسه وحين ايقن سيد عزيز ان الحصيري لم يتناول مادة سامة اصطحبه معه وانطلقا بعيدا إ . هـــ ...
 

11 #

غصة لابد من اثباتها للتاريخ فحين كنت في ليبيا مقيما في السكن الجامعي احسست انني محاط بكوكبة من  الاساتذة الفتيان العراقيين  الطيبين الودودين بينهم كرم نعمة وسؤدد القادري وخليل شاكر الزبيدي واياد البكري وكريم الفراجي  ! كنا اصدقاء بكل دلالات المودة وكانت علاقتي بكرم نعمة متينة بحيث اجرى معي حوارا مطولا ارسله الى لندن لينشره سعد البزاز في  صحيفة الزمان  خلال اسبوع ! اما علاقتي بسعد البزاز فكانت متينة وقد فصلت ذلك في مقالة سعد البزاز والشرقية وانا  ! وكنت انشر في صحيفة الزمان ومما نشرت ثلاث مقالات مهمة بالنسبة لي وقد رجوت سعدا البزاز كي  يحتفظ  بهذه المقالات لاني لا امتلك نسخة منهن وهي غلطتي فقد كان علي ان استنسخ تلك المقالات وان لا اغامر بمقالات مهمة استنادا الى ثقتي بان البزاز سيحافظ عليها  وبخاصة ان صديقي وتلميذي الدكتور فاتح عبد السلام البزاز كان الشخص الثاني وقد كان يكتب عني لصحيفة كويتية بمحبة وهو الشخص الثاني  في تلك الصحيفة ولكن حساباتي لم تكن دقيقة ! لقد رجوت اصدقائي سعد البزاز وفاتح البزاز وكرم نعمة ان يرسلوا لي مقالاتي مرات ومرات فما اجابني احد من هؤلاء دعك عن اجوري اسوة بكتاب الزمان وهذه الموضوعات المنشورة في الزمان هي : :

الاولى / إيماءات الاستعارة شعرية عبد الامير الحصيري

الثانية / عبد الامير الحصيري والصائغ ذكريات الصحبة

الثالثة / حوار مطول مع الشاعر امل دنقل

فلو كانت مقالتاي في الحصيري معي لرفدت القاريء الكريم بمادة عن الحصيري مهمة !  ومع ذلك فانا التمس الصديق الاستاذ سعد البزاز  والصديق الاستاذ فاتح عبد السلام والصديق الاستاذ كرم نعمة وادعوهم الى نشر المقالات الثلاث  خدمة للادب والتاريخ  وخدمة لي فنحن مازلنا اصدقاء ! ولنعد الى عبد الامير الحصيري
 

12 #

صلتي بالحصيري لا ترقى الى الصداقة والحميمية بل المعرفة والزمالة فلم يكن يسرني ان تغلب العادة السيئة رجلا او امراة ! كنت وحشد من الادباء ندعوه الى التؤدة والتقليل من شرب العرق فما كان يزداد الا تعلقا بالشرب والبهذلة  !  وتحديا لنصائحنا ! كان الحصيري طالبا في مدرسة السلام  الابتدائية وكنت طالبا في مدرسة غازي ولم نلتق في المرحلة الابتدائية لكننا التقينا في متوسطة الخورنق منتصف خمسينات القرن العشرين كان وسيما مربوع القامة اشهب الشاربين والذقن خداه مشابان بحمرة الشباب ! وميسم وجهه ابتسامة مزمومة الشفتين لم تغادره حتى آخر لحظة من عمره ! يلثغ ببعض الحروف ويفخمها وبخاصة حرف الراء فيلفظه لاما مفخمة ويعاني في لفظ حرف السين بيد انه يستطيعه !  يستعمل يده اليمنى كثيرا حين يتكلم  وكفه يؤدي كثيرا من المعاني الصعبة ففي يده يهين او يثني او يندهش وهكذا !! عيناه صغيرتان فيهما الذكاء والسذاجة معا ! السذاجة في عرفنا نحن الطلبة لكنها بالنسبة للحصيري جرأة من اجل استكشاف اكبر قدر من الحياة ! ولم يكن عبد الامير ميالا للصداقات بسبب شعوره بانه اكبر عقلا ممن هم في سنه وافسح ادراكا منهم ! فكان قادرا على الصداقة خائبا في الاحتفاظ بها ! سنوات الخورنق عهد ذاك سنوات اللهب فقد جستنا احداث 1956 ونحن مازلنا على مقاعد الدرس ! والمدرسون منقسمون كانوا فريق شيوعي وفريق قومي وفريق من اهل الله وهذا هو نعت المستقل ! وانعكس واقع المدرسين على واقع طلبة الخورنق فمثلا علاء البرمكي قومي وعباس حموزي شيوعي وحميد المطبعي قومي وعلي الصفار شيوعي ! ولم تكن الخلافات بين القوميين والبعثيين قد بلغت مبلغ التقاطع والتصفيات حتى ظهر حزب البعث في حياة النجفيين بعد ان وهن حزب الاستقلال وشاخ فتوارث فتوزع فتيانه على الاحزاب القديمة والجديدة فضلا عن حزب البعث ! عبد الامير الحصيري كان ميالا للشيوعين ميل النية والنقاشات الخفيفة لكنه لم يتورط في نقاشات فكرية وكاني به ثانية يرى الى نفسه اكبر من الاحزاب ! ثمة تقليد كان يمارسه ( البطــقـچـية ) من طلبة الخورنق ! ويقضي هذا التقليد ان نضرب الدرس الاخير ونذهب الى الجدول اي منطقة البحر على دراجاتنا الهوائية  وكنا نستمتع كثيرا فمنطقة البحر جنة عدن بالنسبة للنجفيين الصحراويين ! ولم تكن بعبد الامير الحصيري رغبة لمشاركة البطــقـچـية في غزواتهم الى البحر لكنه كان يقترح علي التمشي معه بدلا من الذهاب مع الطلبة الى الجدول ! احيانا كنت اوافقه فانا اكره التجول في المقبرة كتقليد للونسة ( كذا (
 

13 #

شخصية الحصيري مسالمة على مستوى الشكل ولكن لديه ما يشبه العدوانية حين يكون الحديث عن الشعر ! ولست قادرا على تذكر اصدقاء الحصيري بسبب انه لم يكن ميالا للصداقة وارتباطاتها ! كان الحصيري يسكن في  بيت متواضع مظلم يضيق بمن فيه ! واقع في محلة العمارة تخيما لعكَد السلام المشهور وكان الحصيري ميالا للمشي سواء الى هدف او دون هدف متأبطا كتابا  او كيسا يتضمن كتابا ! يسلم على الصبيان لايجالسهم الا لماما فهو من عالم آخر ! لايمت الى عالمهم بصلة ! وكل الاسماء المرشحة لصداقته لم تكن ازيد من معارف وان  احدا ممن ذكرهم كتاب سيرة الحصيري  لم يستطع الارتقاء مهما حاول الى مستوى الصديق! فهو ملول زارته الكآبة بوقت مبكر من عمره ثمة اسماء كثيرة اختلطت بالحصيري دون ان ترفع الخط الوهمي الفاصل بينها وبيته اذكر منهم موسى كريدي وجميل حيدر وزهير زاهد وفؤاد عبد الرسول الشريفي وسعيد علي ومحمد حسين السعبري في النجف وكان موسى كريدي رحمه الله قد تنبأ بعبقرية الحصيري حين انشد امامنا مرة :

قواربي أنجم الصحاري    ياليل اين ابتنيت داري

فصاح كريدي الله الله امير كيف اجترحت هذا ؟ ولم يغير موسى كريدي  رحمه الله رأيه بهذه القصيدة وفيض جمالاتها حتى آخر زمن كنا فيه معا !!

من باب الظرف  ومما ذكره عزيز السيد جاسم في كتابه هذه اللقطة التي نشرت لي في ذكريات الصحبة : كنا طلبة في صف واحد داخل متوسطة الخورنق النجف الاشرف اواسط خمسينات القرن العشرين الحصيري وموسى كريدي وعبد الاله الصائغ وكان مدرسنا في اللغة العربية هو الاستاذ الفاضل المهذب كريم علي عودة وكنا نحن الثلاثة نجلس في الرحلات الخلفية وظهرنا على الحائط  وكان موسى كريدي يرفع الكرة بمكره الحبيب والحصيري او الصائغ نكبسها ! ذات مرة اطلعنا على احجية نحوية وقد اعجب بها الحصيري وحفظها  وقال لابد ان اورط استاذ عودة بها !  رفع موسى كريدي يده وقال استاذ الحصيري عنده سؤال نحوي فقال الاستاذة عودة تفضل ولدي عبد الامير لماذا تستحي مني ! فتفاجأ الحصيري بمقلب موسى ومع ذلك قال الحصيري استاذ اكتب لي في القنديلةَ زيتا !! فقال الاستاذ عودة ولدي عبد الامير في حرف جر ولابد ان تكون القنديلة مجرورة بمن ! وزيت تكون مبتدا مؤخر فالرفع حكمه !! فقال الحصيري بطريقة خشنة ولنقل غير لائقة وبصوت عال غلط استاذ شلون ما تعرف تكتب الجملة فقال عودة مبتسما وهو يغالب استهجانه لطريقة كلام الحصيري معه قال عودة تفضل ولدي خذ الطباشير واكتب الجملة كما تريد واقنعنا فلاباس ان نتعلم من خلال التعليم فنهض الحصيري وهو رافع انفه زهوا ويمشي متبخترا وكتب الجملة مع اعرابها هكذا :

فِ  فعل امر بمعنى إملأ

والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره انت

القنديلة مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة اما اعراب زيتا

فقاطعه الاستاذ عودة معقولة تشبع كسرة ف ياء وتريدني ان اجعلها فعل طلب ؟ اجلس ياولدي هناك كتاب في الاحاجي النحوية اسمها الهدية السنية في الأحاجي النحوية  للموفق النحوي  طيب كيف تكتب إن زيد برفع زيد ام نصبه ؟ فقال كريدي نعم استاذ هاي بسيطة ان زيداً! فقال الاستاذ عودة وزيد بالرفع صحيح كما في كتاب الاحاجي على تقدير إن فعل امر من أنَّ يئن وهذه احاج تسيء للغة اجلس ياولدي وضحك الاستاذ عودة وضحكنا معا !

والامثلة كثيرة لاتضيف كثيرا لمنهجي الانتقائي في الكتابة !
 

14  #  وجيز ايماءات الاستعارة في شعرية الحصيري

لا يمكنني استرجاع ما كتبته عن ايماءات الاستعارة في شعر الحصيري ! لكنني احاول تقديم وجيز لها ! 

فمعلوم ان الشعرية غير الشعر فالشعرية بؤرة الجمال في الصورة فثمة شعر دون شعرية من نحو الفية ابن مالك وثمة شعر متوفر على شعريته من نحو انشودة المطر للسياب ويا ابن الفراتين قد اصغى لك البلد للجواهري ! الشعرية هي مسوغ انجذاب المتلقي للنص ! وكنت ازعم ( لم اراجع دواوين الحصيري حتى استطيع ان اغير رأيي  ) وقتها ان الشعرية في شعر الحصيري كامنة في الاستعارة !! ونمهد باضاءة لدلالة الاستعارة :

الاستعارة تشبيه خسر احد ركنيه – المشبه او المشبه به – وتخلى عن اداة التشبيه ووجه الشبه ! ينبغي غياب المشبه او المشبه به فا ن حضرا معا فهما تشبيه حتى لو تخلينا عن اداة التشبيه ووجه الشبه ! والاستعارة اوصلها البلاغيون الى العشرات لكن كل تفريعات الاستعارة تنحصر في استعارتين هما الاستعارة التصريحية والاستعارة المكنية

الاستعارة التصريحية = حضور المشبه به وغياب المشبه

قولنا ليلى  غزالة هذا تشبيه على تقدير ليلى  مثل الغزلالة رشاقة

ليلى : مشبه

غزالة مشبه به ! وهذا التشبيه يسمى بليغا لانه تخلى عن الاداة والشبه

 فاذا اردنا تحويل هذا التشبيه الى استعارة تصريحية عندها  نقول : هاتفت الغزالة هذا اليوم اي هاتفت ليلى  التي تشبه الغزالة وفق :

ليلى   = مشبه غائب

غزالة  = مشبه به حاضر والقرينة المانعة من ارادة الغزالة  الحقيقية  هو استحالة مهاتفتها

الاستعارة المكنية = حضور المشبه وغياب المشبه قولنا : سلمى  تخفق بجناحيها  !! فسلمى  مشبه حاضر

الحمامة او البلبل  : مشبه به غائب والقرينة المانعة من ارادة الحمامة هي ان ليس لسلمى  جناحان والقرينة التي تعزز ان المشبه به حمامة قولنا (بجنا حيها  (

تطبيقات على شعر الحصيري -------------------------------------------

قواربي أنجم الصحاري    ياليل اين ابتنيت داري

قواربي = مشبه به حاضر والقرينة المانعة ليست ثمة قوارب في الصحاري

قصائدي = مشبه غائب والقرينة المعززة هي الزهو بقصائد الحصيري فهي كما النجوم تهدي المسافرين الى الطريق ( الاستعارة مكنية(

قواربي أنجم الصحاري = مشبه بليغ  قواربي مشبه انجم مشبه به وذلك لا يعنينا

ياليل : مشبه به حاضر

البناء = مشبه غائب والقرينة المعززة هي ابتنيت ( الاستعارة تصريحية )

يقول الجاحظ : الشعر صناعة وضرب من الصياغة وجنس من التصوير وهذا المثلث تتجزأ عليه الجملة الاستعارية فلقد احبك الشعر جوانبه وشده بالهم الجمالي على الهم الدلالي وتتماهى الصناعة والصياغة فكلاهما ينفيان الالهام عنهما ! والصورة الفنية وهي تعادلية صارمة بين المجاز والواقع بحيث تبدو شعرية النص الحصيري من خلالها ! ولعل الصورة المركبة هي الأدخل في خانة الشعرية لنلاحظ تشبيه القصائد بالقوارب ثم تحيل الصورة الأستعارية الى صورة تشبيهية – انجم الصحاري – ليؤثل صورا اخرى في عجز البيت فالخيال الذي رسخ نجومية القصائد في الصدر التي تؤهله في العجز لكي يرد الصدر على العجز صوفنيا ! فهو لايسال الليل عن موضعه وان بدا الشكل الخارجي كذلك بل انه يجر اذن الليل لكي يبني منزله فوق الثريا وذلك اللذع الجمالي يمنح مخيال المتلقي او مفكك النص مساحة شاسعة غير محدودة لكي يعيدا انتاج النص وفق الاقترانات الشرطية في المخيال .

قد زان صدرك حين اغتالني الشبق      نهد يكاد عليه الضوء ينزلق

نهد = مشبه حاضر

الزجاج الزلق  = مشبه به غائب  والقرينة المعززة زان – مكنية -  

الشبق = مشبه حاضر

القاتل = مشبه به غائب ( مكنية )

الضوء = مشبه حاضر

الانسان = مشبه به غائب ( تصريحية )  وسيلاحظ المحلل ترادف الصور الفنية بهيئة  كلمات مفردة ( فلاشات ) قارن :

صور فنية يمكن ان تكون فروعا كثيرة حين تتبدل العلاقات بينها او تتبادل وهذا القول لايضطرد مع اي تخليق شعري مالم يستند الى موهبة ودربة وتجربة !

زان = صورة بصرية

صدرك = صورة بصرية لمسية

اغتالني = صورة بصرية لمسية

الشبق = صورة مجردة

نهد = صورة بصرية لمسية

يكاد = صورة حركية مركبة

الضوء = صورة بصرية

ينزلق = صورة حركية مركبة

قارن مع الابيات اللاحقة  

أجائعٌ؟ أيَّ شيءٍ ثمَّ يا قلق؟‏

أَمِنْ حطاميَ هذا يمطر العبق؟‏

إذا تصبيّتُ روحي دونما تعبٍ‏

يطغى تلظي هواكِ القائمُ الخَفِقُ؟‏

إنْ كنتَ تحلم في قلبي، فإن دمي‏

من جوعه باتَ فيه الجوعُ يحترقُ!‏

ألمْ يشرّدْك تشريدٌ يُمزقني‏

عينايَ أظفاره العمياء تأتلقُ‏

قلبي الجحيم... أثيمات الشرور به‏

معذباتٌ!! فما أذنبت يا قلق؟!‏

أخشى عليكَ دمي الواري، وإن يكُ في‏

إحراقه حلمك الرّيان ينسحق‏

ما زلتَ طفلاً غريراً، كيف تَقربني‏

أنا التشرد والحرمان والأرقُ؟!‏

أنا الشريد!! لماذا الناسُ تذعر من‏

وجهي؟ وتهربُ من قداميَ الطرق؟!‏

وكنتُ أفزع للحانات، تشربني‏

واليوم!! لو لمحت عيني، تختنق!‏

قَدْ بِتُّ أمضغ أعراقي وأوردتي‏

وأرتوي من جراحاتي.... وأنسحق‏

شَنقتُ قلبي على أ حلامه.. فإذا‏

بها ، وضحكتها الخضراء تنشنقُ‏

وجِبتُ حتى زوايا الغيب، ليسَ صدىً‏

فيها ، يُروّي صدى نفسي، ولا ألق‏

زرعت حتى اصطخاب الموج في شفتي‏

ضحكاً، ولم يبتسم خفَّاقيَ الأَرِقُ‏

العريُ... أذهله شأني، فَجُنَّ على‏

شفاهه ألف سؤل، كيف ينطلقُ‏

أنا الإلهُ وندماني ملائكة‏

والحانةُ... الكون والجلاّسُ مَنْ خُلِقوا‏

عريان، يكسو الدِنا بالنجمِ ألبسةً‏

عطشان، في راحتيه الكوثر العَبِق‏

فهل كسوت جفونَ الناسِ ألف دجى؟‏

أم هل تبسَّمَ في أحداقهِ الغسقُ؟‏

الدار تسكن أحلامي! وما اكتحلتْ‏

بالشمسِ .... والشمسُ من كفَّي تنبثق‏
 

15 # أعمال عبد الامير الحصيري المطبوعة كثيرة واعماله المسروقة او مدفوعة الثمن اكثر !

-  صدر له أحد عشر ديوانًا هي: «معلقة بغداد»: مطبعة الأمة - بغداد 1962. - «أزهار الدماء»: مطبعة الآداب - النجف 1963. - «سبات النار»: مطبعة البصري - بغداد 1969. -« أنا الشريد»: مطبعة النهضة - بغداد 1970. -« بيارق الآتين»: (بمشاركة خالد يوسف) مطبعة الأهالي - بغداد 1970. - «مذكرات عروة بن الورد

»- دار الحرية للطباعة - بغداد 1973. - «أشرعة الجحيم»: مطبعة الغري الحديثة - النجف 1974. - «تشرين يقرع الأجراس»: مطبعة الغري الحديثة - النجف 1974. -« تموز يبتكر الشمس»: دار الحرية للطباعة - بغداد 1976. - «شمس وربيع»: دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد 1986. - «غزليات عبدالأمير الحصيري وقصائد أخرى»: دار الشؤون الثقافية - بغداد 1988 (صدر بعد وفاته). - «فارس الحق»: مطولة في مديح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (طبع بعد وفاته) - بغداد 1991، ونشرت المجموعة الكاملة للشاعر - دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد.
 

16 # ختامها زيد الحلي

ويطيب لي حقا ان ارفق شهادة صديقي الاستاذ الكبير زيد الحلي مسكا  لختام شهادتي ففيها اضافات يعرفها الباحث المتأني وكم تمنيت للاستاذ زيد الحلي  وهو يكتب عن صديقنا المشترك عبد الامير الحصيري ان لايسكت !

السنين ان حكت   

زيد الحلي

الحصيّري .... الشاعر، اللغز

في فندق " الكوثر" الشعبي كرخ بغداد ، انقطعت أنفاس الشاعر "عبد الأمير الحصيري" ليشكل بذلك ، إيذاناً بأنطفاء شعلة شعرية ، عراقية ، كان الأمل  معقوداً عليها ، لتتسيد هرم الشعر العربي .

 تقرير الطب العدلي ذكر: ان سبب الوفاة (عجز في القلب وان المخبر عن الوفاة هو " مركز شرطة  الكرخ  بتاريخ 3/2 /1978)

وإذا كان السبب " عجز القلب " ام " الكبد " الذي مزّقه كثرة إحتساء الكحول ، دون ان يصله غذاء مناسب او الهم المكبوت داخل الحصيري ولم يجد  له منفذا سوى الموت ، ففي النهاية غادر الحصيري الدنيا ضاحكاً... عليها !!

لا أريد الحديث عن إشكالية الموت كونه ، حقيقة ثابتة ، لا مناص منها ... لكن أود مناقشة ما آل آليه " الحصيري " وغيره من المبدعين ، فهناك من   يرى انه كان بالإمكان تجاوز ماحصل بالرعاية والاحتضان الرسمي  ولا غضاضة ، هنا ، من الاعتراف بان ما سأذكره ، لا يحظى بقبول " البعض "  لأسباب أعرف دوافعها   فالحصيري في تصوري حصل على رعاية كبيرة ماديا ومعنوياً لكنه لم يستوعبها، فتمرد عليها..

وللأمانة ، أذكر إنني عندما تسلمت رئاسة تحرير مجلة " وعي العمال " العراقية وجدت ملفا شخصياً مؤشر عليه بخط عريض (إضبارة عبد الأمير الحصيري) وقد تضمن الملف ثلاث أوراق فقط ... الأولى وهي بلا تاريخ ، فيها إقرار بخط الحصيري تتضمن تعهدا بالعمل والتواصل فيه .. والثانية ، تاريخها 26/ 5 /1973 ( الأحد ) تقول : يعين السيد عبد الآميرعبود مهدي الحصيري محرراً في القسم الثقافي في مجلة وعي العمال براتب مقطوع قدره ( 40 ) ديناراً..

وفي الورقة الثالثة والأخيرة التي تحمل تاريخ 19 / 7/ 1973 (الخميس) نجد أمراً إدارياً نصه " لعدم الإلتزام بمسؤولية العمل وكثرة الغيابات ، يعفى السيد عبد الأمير الحصيري عن العمل ..

وأمر التعيين والإلغاء كان بتوقيع رئيس التحرير الأستاذ " عزيز السيد جاسم " والأوراق المذكورة ، أحتفظ  بصور، عنها  ، وهي برسم الباحثين ..

ولو عرفنا ، ان راتب الـ 40 دينارا في العام 1973 يعني ان صاحبها يتمتع بحظوة جيدة ، وهي تكفي لمعيشة عائلة كبيرة ، فكيف والحصيري ، لم يكن مسؤولاُ        إلا عن نفسه وعن شقيقة واحدة كانت يعيش معها ( في تلك الفترة ) ببغداد .. وقبلها حظيّ بوظيفة " مصحح لغوي " في دائرة الإذاعة والتلفزيون وبراتب 60 ديناراً.. ( انظر مقالتنا " رجل ضيّعه الزمن " وهو عن الحصيري / الزمان في 17/2 / 2009 ) إذاً ، لم يكن الحصيري ، شاعراً بلا رعاية ، كما يدبج البعض من مقالات هشة ذات غايات ، بعيدة عن الموضوعية ، لكنه كان رافضاً لتلك الرعاية ، حيث استهواه طريق " الصعلكة "... وهو طريق لا يستطيع أياً كان السيّر فيه ، إلا إذا كان على إستعداد نفسي لذلك ، وقد لحق ظله الشاعر " جان دمو " الذي توفي قبل فترة في استراليا ، وقبلهما الشاعر " حسين مردان " لكن على مستوى اقل ... وغير الحصيري ودمو ومردان ، ولج  درابين شارع "الصعلكة " أدباء وشعراء ، سآتي على ذكرهم في مقالات أخرى ..

أهال بضعة ، أصدقاء ، التراب  على جسد الشاعر الملفوف بالكفن : عبد الأمير الحصيري في الثالث من شباط عام 1978 .. وفي أثناء ذلك ، صدح صوت الشاعر "سعدي يوسف " في إلقاء قصيدة بوداع "الحصيري" في مقبرة "وادي السلام " في النجف الأشرف ، وسط وجوم ،أستمر لدقائق ، مقروناً بتبادل النظرات بين الحاضرين ، وكنت أحدهم .... نظرات قلقة ، تائهة ، قطعها صوت قارئ القرآن الكريم ، ثم علا صوت الشاعر"رشدي العامل " إيذاناً بألقاء قصيدة ، لكنه توقف فجأة ، ليصمت ، معتذراً عن الألقاء ، ربما لعمق تأثره او لسبب اخر.

قلنا لسعدي يوسف ، عقب  الإنتهاء  من إلقاء قصيدته بما معناه ان قصيدته رائعة وان " الحصيري لو سمعها  لضحك كثيرا " وأذكر ان سعدي قال بشكل ، أمتزج فيه الجد لهيبة المكان ، ببسمة مخنوقة (يستاهل اموري) .. ثم طلب قراءة سورة الفاتحة على أشهر "صعلوك" في الوسط الشعري في العراق .... اليس الحصيري هو القائل : أنا شيخ الصعاليك منذ أبتدأ الزمان !

وسار موكب الأصدقاء، الذي ضم سعدي يوسف وموسى كريدي ورزاق ابراهيم حسن وهادي الجزائري والعبد لله وبعض أقارب الحصيري وثلة قليلة ممن ضاعت اسماؤهم من ذاكرتي .. سار بأتجاه الشارع الفرعي للمقبرة ، إيذاناً بالمغادرة وسط صمت ، لم يعتده أصدقاء الحصيري ، لكنه كان صمتاً قصيرأّ ، حتى بدأنا بالحديث عن " الحصيري " ذاكرين نكاته ومشاكساته ومقالبه !!

وفي أثناء ، ذلك همس في أذني ( ... ) ذاكراً معلومة عن معزّة وتقدير سعدي يوسف لشاعرية الحصيري ، قائلاّ ان سعدي حمل يوماّ حقيبة ضمت أدوات حلاقة كاملة من النوع الممتاز وقنينة عطر راقية ومشطاً ومنشفة وملابس داخلية وقمصاناّ راقية مع دعوة للحصيري بترك " الصعلكة " ومظاهرها غير الحضارية .. لكن الذي حدث ، ان الحصيري باع هذه المحتويات الثمينة بسعر بخس ، وتوجه الى صديقه " توما " في عبخانة بغداد واشترى بضعة قناني من العرق ..

وبالعودة ، الى دفتر مذكراتي ، وجدت إنني سمعت لأول مرة بأسم " الحصيري " حين ، تناهى الى سمعي صوته ، في منتصف ستينات القرن الماضي وهو يرعد ويزبد امام محاسب جريدة  " العرب "  ناصر جرجيس ، وقد خرج من غرفة الاخير ، متوتراً ( لاعناً الساعة التي جاء بها لهذه الجريدة ) ... وبخجل المحرر البسيط سألت المحاسب "جرجيس" المعروف في الوسط الصحفي بـ " ابو عليوي" عن صاحب الصوت الألثغ العالي أجابني بأنه ( يقصد الحصيري ) جاء مطالباً بمكافأة لنشرنا له قصيدة ..الخ.

رسم " الحصيري " في وجداني ومنذ ذلك الموقف ، إعجاباّ كبيراً وثمّنت موقفه المتمثل بالمطالبة بحقوق النشر..

وبالإمكان العودة الى جريدة " العرب" في عددها الصادر يوم الاحد 31 3/1963 للاطلاع على قصيدة الحصيري التي لم يحصل أجر عليها وهي مكونة من 40 بيتاً وتحمل عنوان " يوم الرقود " .

لمناسبة ، مرور عام على وفاة الشاعر " بدر شاكر السياب " تشكلت لجنة ضمت بعض الأدباء والصحفيين ، لإعداد إحتفالية تأبينية ، تليق بمكانة الراحل الكبير ..

والى جانب هذه اللجنة ، إنبثقت لجنة أخرى ضمت أيضاً أدباء وصحفيين بأعمار شبابية ، لمساعدة اللجنة الأساسية للقيام بالإجراءات الروتينية ، للاحتفالية التأبينية المذكورة ... وكنت أحد أعضاء اللجنة الشبابية...

كان ذلك في كانون الثاني  او شباط من عام 1965 ، وإذا لم تخني الذاكرة ، اشير الى ان المبادرة  في تشكيل اللجنة الرئيسة وتوأمها اللجنة الشبابية ، كانت محض مبادرة شعبية ، تبلورت   في مقاهي " حسن عجمي " والبرلمان والبلدية في منطقة الميدان ..

لقد ، استقر الرأى ان يكون للشاعر " عبد الأمير الحصيري " مكاناً في حفل التأبين الكبير ، وبإجماع  ألأراء التي تمخض عنها الاجتماع الأخير في مقهى   " البلدية " أختيرت قاعة " الشعب "ببغداد لتكون مكاناً للإحتفالية ، وكذلك تم وضع برنامج القراءات في حفل التأبين الى جانب الفعاليات الأخرى .

وقد تم ، تدبير مبلغ 30 دينارا ، سلمت الى الزميل " فلاح العماري " عضو اللجنة لحجز القاعة ، وقد اجري اللازم بيسر وسهولة لمعرفة " العماري " بعض المسلين عن القاعة ..

كان ، حفلاً تأبينياً رائعاً ، وحصدت قصيدة الشاعر " الحصيري " التصفيق والتأثير حيث أجاد بالإلقاء بلثغته المحببة وأجبرالحضور على الإصغاء الكامل ، مثلما تألق بقية الأدباء والشعراء ...

ظهر " الحصيري " كالبدر، حليقاً ، أنيقاً .... عطره سبق إلقاء شعره ... ولهذه الجزئية من الاحتفالية ، حكاية ، تروى للمرة ... الاولى.

 والحكاية ،  هي ان المحامي وصديق الأدباء " حكمت الدراجي" ، تبرع بشراء بدلة بمقاس"الحصيري "وقميص علامة "الفا" مع ربطة عنق وحذاء من شركة  "زبلوق" وبقية الإكسسوارات ، وذهب بها الى الحصيري لتسليمها له ، وهنا ساور المحامي الدراجي الشك ، اذ ربما يقوم الحصيري ببيع (هديته) ، وعندها نخسر حضوره للأحتفالية ... فتفتق ذهنه بأن يصطحب " الحصيري " الى حمام  (الحيدرخانه ) في شارع الرشيد ... وفعلاً نفذ  الأمر ، فخرج الحصيري نسخة شبابية ، آخاذة ، إرتدى ملابسه الجديدة ... وعندما جاء دوره لإلقاء قصيدته ، بهت الحاضرون لحظة ، ثم دوّت عاصفة من التصفيق رنينها لازال ماثلاً.. أمامي.

150 بيتاً كانت قصيدة " الحصيري" ... حلقت في سماء المبدع الكبير بدر شاكر السياب ، لكننا لم نشهد ، من يفي حق المبدع الكبير " الحصيري " في ندوة او مهرجان ، وها هي " فيروز " أتمثلها أمامي وكلماتها تدك في أعماقي ( أنا أبنة وطن ، يموت فيه القمر ، وتزدهر فيه تجارة ... الجثث )

رحمك الله ياصديقي الحصيري .... يا أبن 36 عاماً

ليس ، سراً القول ،ان السيد " عبود مهدي " والد الشاعر "الحصيري" عاش ضنك العيش في النجف الأشرف ، موطنه وموطن عائلته ، فأختار الهجرة بحثاً عن العمل ... وكانت محطته محافظة " البصرة " وهناك صارع الحياة من أجل لقمة عيش بسيطة له ولعائلته  حيث عمل الرجل في إحدى المدن الصغيرة بالمحافظة في خياطة  "الّعبي"  الرجالية وخصوصاً في تذهيب جوانبها بالخيوط الذهبية ، لكن الرجل لم يوفق رغم حذاقته المهنية ، وقد ترسخّت هذه الحالة في نفسية الفتى " عبد الأمير الحصيري " فعاش سنواته الأولى برفقة السيدة " علاهن " والدته ، في قلق وشرود ومشاكسة وضيق وشقاوة وطيبة... لم يعرف عنه ، إنه إستقر على رأى واحد ... مزاجيته  كانت عالية وقد سببت له في قابل الأيام ، الكثير من الأذى ، لكنه كان ، كما كنت أراه ، سعيداً بهذا الأذى ، وقد سألته مرة عن سعادته الداخلية رغم قساوة الحياة عليه ، فأعاد ما كان  يردده أمامي بأستمرار ( ان دياجير الظلم مهما دجنت ..لا تستطيع أن تطفئ نور الحرية التي أصنعها لنفسي ) كان فيلسوفاً ، لبسته عباءة الشعر ، يصنع الشعر بسهولة عجيبة ، ويرمي به الى المجهول بقليل من نشوة زائلة ، وربما بكلمة او وعد بالدفع بالآجل ، أياً كان هذا الدفع ، بضعة دنانير اوبضعة قاني من مشروبه الذي يحب .. . " عرق المستكي " !!

وربما ما سأقوله ، بعد قليل ، يشكل إحراجاً لـ " البعض " وهم كثر، ومبعث هذا الإحراج هو ما تعرض له الحصبري من إغراءات لشراء قصائده ، بأبخس الاثمان ، ويقال إنه باع مرة قصيدة عصماء لـ (..... ) بقنينتي من العرق وبجرأة لا يحسد عليها، ألقى هذا "الشاري" المسخ القصيدة " المشتراة "  في التلفزيون ، حصل على هدية من المرحوم احمد حسن البكر ، رئيس الجمهورية ، عبارة عن شقة سكنية ، لإبداعه الشعري ، وهكذا دواليك  !!

 وكثيرون ، إشتروا من شعر الحصيري ، لكنهم أبقوه عندهم وأطلقوا سراح ذلك الشعر المشترى، لاحقاً بأسمائهم ، ولولا الحياء وإدراكي لما سيتعرض له "الشارون"  وعوائلهم من حرج كبير ، لذكرت الأسماء وما بحوزتي من وثائق حول الموضوع ..!

لنعد ، الى صلب القضية ، لتتعرفوا للمرة الاولى على حيثيات البيع والشراء  لشعرالحصيري ، دون الدخول في تفاصيل الأسماء كما نوهت ..

في خضم الأزدهار الثقافي والأدبي والصحفي الذي شهده العراق ، اواسط ستينات وسبعينات القرن الماضي ، أعلن في بغداد عن تأسيس مؤسسة ثقافية بإسم ( مؤسسة أقاصي للطباعة والنشر والإعلان ) وقد ، فوجئت حين وجدت أحد أعضاءها كان  الحصيري نفسه ، فيما كان المسؤولون الأخرون كل من الاصدقاء : سامي الزبيدي والشاعر خالد يوسف ( اين هما الأن ؟) والمرحوم طارق ياسين ... وقد شاع في  وسطنا الصحافي  حينها، ان " الحصيري " أخذ ببيع " شعره " على أشخاص ، لم يعرف عنهم ، إنهم " شعراء " او متذوقي الشعر، بل كانوا والشعر الحقيقي على طرفي نقيض ، ثم ظهرت بعد حين في كتيبات ودواوين صغيرة بأسمائهم !!

ويقال ، ان أحد أمراء الخليج ، دخل على الخط ، وإشترى ديوانا كاملاَ عن طريق وسيط ، إستلم من " الامير " آلاف الدولارات واشترى من شعر الحصيري بحفنة دنانير..!!

زار بغداد في شهر شباط 1974 الصحافي اللبناني المعروف " فاروق البقيلي " فاجرى لقاءات وتحقيقات صحفية عديدة ، وعند  إنتهاء تلك الزيارة دعاه  الآستاذ  "عزيز السيد جاسم " الى جلسة في مطعم " الزيتونة " في شارع ابي نؤاس ... كانت جلسة مختصرة جداً ، ضمت الداعي والمدعو وثلاثة من المقربين لصاحب الدعوة .

 بدأت الجلسة ، في المجاملات ، ثم إنداح الحديث ليصب في جدال عميق حول تداعيات ومديات الواقع الثقافي في العراق والوطن العربي ، كل أدلى برأيه وكل قال ما يعتقده صواباً ، بشأن ذلك الواقع ..

ولمعرفة ، السيد عزيز ، بحب الضيف البقيلي ، لـ" السمك المسكوف " طلب اليّ الذهاب الى ( أيوب السماك ) لتهيئة سمكتين كبيرتين ... وذهبت الى الحاج ايوب وأوصيت بأن يجلب " المسكوف " ومتطلباته المعروفة ، الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .... كان الجو بارداً . بل شديد البرودة ، لكن رواد المطعم ، لم يشعروا بتلك البرودة ، بفعل التدفئة المركزية ، وبفعل الكؤوس الملآى بالكحول !  خرجت من المطعم ، وكان على الطاولة أربعة أشخاص ، وعندما عدت ، لمحت إن العدد ، أصبح خمسة ... تساءلت مع نفسي: من يكون هذا الشخص يا ترى ؟ كنت مطمئناً لحظتها إن مائدة " المسكوف " الموصى عليها تكفي لضعف عددنا..لذلك لم اشعر بالحرج ، واقتربت  اكثر من مائدتنا ، فبانت ملامح الشخص الذي اختار كرسيّ الشاغر مكاناً لجلوسه ... إنه  " عبد الامير الحصيري " بشحمه ولحمه ... بصراحة ، ارتعدت فرائصي ، فمعنى ذلك ، ان الجلسة الودودة ، الجميلة ، سوف لن تمر بسلام ولابد ان حزمة المنغصات ستترى لا محال !!

جلبت كرسياً ، اخر ، بعد ان سلمت على الحصيري ، وجلست مترقباً .. كان شاعرنا ، يرتدي معطفاً رثاً ، ويداه ممسكتان بحقيبته المعتادة ، وقد اختار حجره ليضع عليه تلك الحقيبة... سألت بصوت خفيض جدا ، اقرب الى الهمس: متى جاء الحصيري ؟ قال احد الحضور (... ) بالهمس ، ذاته : قبل ربع ساعة ..وهنا ، جاء صوت الحصيري ، عالياً بعض الشئ ( وانت شعليك ) .. فنهره السيد عزيز ، بنبرة خافته (إسكت أموري) !

وأستمر الحوار ... ومع استمراره ، كان قلبي يخفق بشدة ، خوفاً من المجهول الأتي لا محال ... وقد زاد من توتري ، ان الحصيري ، ظل ساكتاً ، بعد ان ملأ كأسه الثالثة من الويسكي الفاخر.. ورويدا ، رويدا تململ الحصيري قاطعا الحوار الدافئ بصوت عال ، ناشداً قصيدة عن بغداد ، هي الأحلى مما سمعته حتى الان .. ومن أبياتها التي بقيت عالقة في ذهني :

         

         يا شــــاطئاً ... بغـــــداد منبتـــــهُ      

                                    ورفيف هذا القلب منبعـــــــــــهُ

          ياســـــــاهراً بعيون أزمنـــــــــــة            

                                   لمعانها صحـــو ... يضّوعُـــــــه

           ياجنةّ لا يستظـــــل بهــــــــــا           

                                  خلـــد .... اذا لم يزكُ مرضعُــــه

         يا صبوة الدنيـــــا ... وبهجتهـــا           

                                     وعريشــها الذهبي مطلعُـــــــهُ

          ان ســـار قلبي عنك مرتحلاّ     

                                      ورعى ســواك به تسرعُــــهُ

ويبدو ان إعجاب ونشوة الحاضرين  استهواه ...  فزاد من الإنشاد وسط فرح وسعادة  الضيف "البقيلي " مقابل ، وجومنا المتحسس ، من شئ سيحدث ... لكن هذا  الشئ  لم يحدث والحمد لله ، رغم ان الحصيري ، عبء في جوفه الكثير، إضافة لما فيه من أصناف الكحول التي احتساها ، أثناء مروره اليومي على حانات شارع ابي نؤاس .. وجاء " المسكوف " برائحته البغدادية المعروفة ، فطلبت من الحصيري مرافقتي لغسل أيدينا ، فقام الرجل الى حيث أردت، وعاد ويداه نظيفتان ، الى طاولة فارغة مجاورة لطاولة الشراب ، حيث اصطفت السمكتان بأنتظار التهامهما ، وقد لاحظت ان الحصيري ، اطمأن الى وجود حفيبته في مكانها من خلال نظرة ثاقبة ... وهنا ينبغي الاشارة ، الى  ان الحصيري ، عكس جميع الحضور ، لم يتناول من السمك سوى القليل .. القليل ، حتى نهض مسرعاً الى طاولة الشراب الاولى ، فعبأ في جوفه كأساً جديدة !!

وقد بقيّ الحصيري ، حاضناً بهدوء غير معتاد ، حقيبته متمعناّ في الا شئ .. حتى انتهينا من طعامنا ... وعندما جيئ لنا بأقداح  الشاي ، إيذاناً بانتهاء الدعوة ، نهض الحصيري ، مترنحاً بعض الشئ ، بعد ان دس في معطفه ما تبقى من قناني الويسكي ... كانت هذه الليلة ، مفتاحاً لحوار طويل ، شامل أجراه الكاتب " البقيلي " للشاعر عبد الامير الحصيري ، عند زيارته الاخرى لبغداد في أذار عام 1974 ونشره متسلساً في مجلة " الديار" اللبنانية..

من النادر ان تجد الحصيري ، نظيفاً في هندامه ،لكنك من المؤكد ، لن تجد قلباً نظيفاً مثل الذي يحمله ... لسانه دائماً مع ضميره ، وتلك لعمري ، خاصية لم تجد من يحملها الا القلة ، النادرة .. وكثيراً ما كان يحدثنا نحن اصدقاءه ، انه على خصام مع الاغتسال وغسل ملابسه وكيّها ويقول بهذا الصدد ، ان القميص الذي يرتديه وبقية ملابسه ، لن تُغسل بتاتا ، وتبقى على جسده حتى يرميها بعد أشهر ..

والغريب ، المستغرب ، مع كل هذا الوصف ، لم أجد الحصيري الا برائحة اعتيادية ولم يؤثر سلوكه الشاذ هذا ، في انبعاث روائح مقززة ، كما ينبغي ان تظهر عند من هم على شاكلتة !!

لقد اعتاد ، حياة الحانات وصوته المجلجل، العذب ، كان سمته ، فبعد ان يعبأ الخمر اياً كان نوعه ، يقوم بأرتجال أحلى القصائد .. ولم يكن ثمن هذه الفعالية الشعرية سوى اقداح من العرق !!..

عاش الحصيري ، حياته مشرداً بأرادته ، راغبا بالنوم على الأرصفة ، متوسدا حقيبته حاملة ، أسراره ، لكنه مات والنشوة تملأه لكونه لم يشارك في مهرجانات   "المربد "التي عقدت في العراق ، لإحساسه بأنه اكبر من كل الشعراء الذي أعتلوا منصات الإلقاء في " المربد" وقد سألت مرة الأديب " عبد الجبار داود البصري " سكرتير المهرجان وأحد المسؤولين عن توجيه الدعوات للمشاركة في المهرجان عن سبب عدم دعوة " الحصيري " للمربد فأجابني بالصمت ... والصمت وحده !

وهنا ، اشير للتاريخ  ان الحصيري كان يتحدث كثيراً عن ديوان أطلق عليه اسم      (احلام بابل )  لكنه اختفى بعد وفاته .. وربما صدر باسم غيره .. فليس للموتى سوى الرقاد ... والرقاد وحده  مات الحصيري اثر إصابته بأسهال حاد في فندق بكرخ بغداد اسمه ( الكوثر ) كما ذكرنا ، بعد ان زعل من صديق عمره الشاعر النبيل " كامل خميس " تاركا الفندق الذي يمتلكه هذا الصديق وتاركاً الغرفة المهداة اليه  والتي ابقاها الشاعر خميس فارغة للشاعر " الزعلان "على أمل ان ... يعود لكنه لم يعد ، وهنا لابد من الذكر ايضاً ان اثنين من النحاتين تبرعا بالدخول الى غرفة في الطب العدلي صباح يوم 3 شباط عام 1987 أي بعد وفاته بيوم واحد ، حيث الجثمان المسجى ووضعا رأسه في الجبس ، استعدادا لعمل تمثال بالحجم الطبيعي ، لكن هذا التمثال لم ير النور .. كان مجرد همّة ضيعها ... الزمن .

 

رحم الله عبد الأمير الحصيري..      

العاشر من اغسطس 2010

زيد الحلي

 

وبعــــــــــــــــــــــــــــــــــد :  لا ازعم ولن ازعم انني استوفيت مقدار عبد الامير الحصيري  من البحث والتنقير  ولا وفيت طقسا للصحبة التي لم ترق الى صداقة ! وعذري انني نشرت عنه في فترة مبكرة ولم تعد الغربة والعمر سوى تثبيط لعزيمتي وانا اكتب ولكنني جمعت شعره وبوبته في موسوعتي وادخلت مقالات ودراسات جل من كتب عن عبد الامير الحصيري كما وان لدي كما من صوره وليرحم الله الحصيري فقد كان مبدعا واليفا ومسالما

 


عبد الاله الصائغ
مشيغن المحروسة
الرابع عشر من اوكست آب 2010


 

free web counter