| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

أمين يونس

 

 

 

                                                                                    الأثنين 13/2/ 2012

 

إمرأةٌ من بغداد

امين يونس

قبلَ أسابيع أدَتْ عملية إرهابية قُرب مقر المفوضية العليا للنزاهة ، الى مَقتَل وجرح العشرات ، كانَ من بينهم العديد من المُنتسبين والعاملين في المفوضية .. وعلى مدى ثلاثة أيام اُقيمتْ مراسم العزاء على أرواح الشهداء ، في حُسينية الزِوية / كرادة داخل في العاصمة بغداد .. وحسب اليوميات البغدادية المأساوية في السنوات الماضية ، فأن الحدث هذا ( عادي ) ، بل هو مُمِل من كُثرة التكرار ، يحدث إنفجارٌ مُرّوِع في مكانٍ ما .. يتساقط القتلى والجرحى ، وتتناثر الأشلاء .. تتنافس الجهات الامنية المَعنِية ، على تزويد الإعلاميين والمحطات الفضائية ، ببعض التفاصيل .. فهذا يقول انها كانتْ سيارة مُفخخة ، وذاك يّدعي ان إنتحارياً عربي الجنسية فّجَر نفسه ، وآخر يؤكِد ان عبوة ناسفة كانتْ مزروعة هناك .. وتُشّكَل لِجان للتقصي ومعرفة الجُناة والمتواطئين والمُقصرين .. والبحث عن الحقيقة .. التي سوف تضيع بالتأكيد ! .

[ قبلَ يومَين وردني إيميل ، من أحد الذين حضروا العزاء ، وكان شاهداً على ما يلي  : من الطبيعي ، ان كبار المسؤولين وصِغارهم ، " يحرصون " على حضور العزاء ، لكي ( يستعرضوا ) أمام الحاضرين ويُظهِروا أنفسهم .. تسبقهم أرتال الحمايات المُدججة بالسلاح وقافلة من السيارات رُباعية الدفع .. وبالضرورة مجموعة من المُصورين حتى ينشروا كَرم ، والأخلاق الحميدة للمسؤول المحترم ! .. يتم قبلها إستدعاء ذّوي الضحايا .. فهنالك إحتمالٌ ان يُوّزِع المسؤول الكبير ، بعضاً من عطاياه عليهم ويَمُنَ عليهم بما يجود .

من ضمن ذَوي الضحايا ، كانتْ هنالك إمرأة متلفعة بالسَواد ومعها خمسة أطفال ، أكبرهم لايتجاوز الخامسة عشرة .. قُتِلَ زوجها في تلك العملية الإرهابية ، وزوجها كانَ يُمارس عملاً بسيطاً في المفوضية ب ( أجور يومية ) ، أي لم يكن مُستشاراً او خبيراً او موظفاً كبيراً ، بل انه لم يكن حتى مُنتسباً رسمياً ، وانما يعمل منذ مدة بأجرٍ يومي ، وكان محبوباً من الجميع ... كان رئيس المفوضية وكِبار موظفيها ومجموعة من النواب ووكلاء الوزارات ، جالسين في العزاء .. حين نهضتْ هذه المرأة وتقدمتْ الى أمام لتواجههم ... طبعاً تَوّقعَ الجميع ان المرأة المنكوبة الفقيرة ، ستطالب بتعويضٍ ومساعدة ، لكي تستطيع مواجهة الحياة ، لاسيما وعندها خمسة أطفال تيتموا... إلا انها قالتْ : ان المرحوم زوجها ، كان قد إشتركَ مع بعض زملائهِ في " جمعية " ، وكان هو مَنْ إستلم الجمعية الاولى والبالغة مليون دينار " حوالي 850 دولار " ، قبلَ ثلاثة أيام فقط ، وهي تريد ان يرقد الفقيد في قبره بسلام ، وتُعيد المبلغ الى زملائه .. ثم أخرجتْ من تحت عبائتها ، كيساً صغيراً يحوي مليون دينار ووضعته على المنضدة الصغيرة .. وعادتْ الى مكانها بِكُل أباء ..] !!.

................................................

خّيبَتْ هذه المرأة العراقية الباسلة ، توقعات معظم المسؤولين الجالسين ، الذين كانوا جاهزين لإستعراض مكرماتهم أمام الكاميرات ، وإطلاق الوعود الرنانة... لم تطلب شيئاً على الإطلاق .. أهانَتْهُم في الصميم .. لم تتكلم كثيراً ، لم تُثَرثِر .. جملتَين قصيرتَين قالتهما ، وعادتْ الى مكانها .. لكنها في الحقيقة ، قالتْ الكثير الكثير ، بِصمْتِها الجميل ، بقامَتِها المنتصبة ، بكبريائها الطبيعية ، بأنَفَتِها غير المُصطنَعة ، برباطة جأشها  .. قالتْ لهم : أنا أنظفُ مِنكُم ، أنا أصدقُ منكم ، انا لا أرضى ان أصرف على اطفالي ، نقوداً ليستْ لي !.

أكاد أجزم ، بأنني أعرف هذه المرأة حق المعرفة ... فلم يبق مكانٌ في العراق ، لم أشاهده وأعيش فيه لفترة ، طيلة الأربعين سنة الماضية .. بِحُكم الوظيفة او الاعمال الحُرة او الخدمة العسكرية ... رأيتُ هذه المرأة في الفاو والعمارة ، رأيتها في الشامية والفلوجة ، في الشرقاط وبعقوبة ، كما في السليمانية وسامراء والنجف ... الخ . هذه المرأة الشامخة الباسلة القوية النزيهة ... هي القاعدة وليستْ الإستثناء .. ان الفقراء عموماً أكثر نزاهةً من الاغنياء .. لست بحاجة الى القول ، ان هنالك القليل من الفقراء النصابين السُراق ، وكذلك هنالك أثرياءٌ شُرفاء .. ولكن أعتقد ، عموماً ان الفقراء أكثر نزاهة وإستقامة ... والأغنياء أكثر جشعاً .. وأعتقد أيضاً ، ان النساء الفقيرات في العراق خاصةً ، أكثر قوةً وبسالة من الرجال عموماً !.

سيدتي النبيلة .. العراقية الفقيرة النزيهة ، يا اُم اليتامى .. ان دمعتك الصافية ، جديرة ان تتحولَ الى سيلٍ عارم " في يومٍ قريب آتٍ ".. يُغرِق كُل هؤلاء الأوباش السارقين ، ناهبي أموال الشعب ، الفاسدين المُنافقين ... هذه الطبقة المُتحكمة على رِقاب الناس منذ سنين !.

 

12/2/2012
 

 

 

free web counter