| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عودة وهيب
aoda50@hotmail.com

 

 

 

الجمعة 23/10/ 2009



الكرسي الدوّار

عودة وهيب

حاول ضابط الأمن ( الملازم الاول جلال عامر )جاهدا ان يرفع رأسه عن المنضدة
- (آه ما اثقل رأسي هذا اليوم، بالامس كان اخف من ريشه ، ولم اشعر بوجوده طيلة يوم امس ، هل حشي اليوم بالرصاص ليصبح بهذا الثقل ؟!..انعل ابو الشرب..دمرني )

رفع رأسه بتثاقل وسحب ساعديه المكورين فوق المنضدة وازاح ظهره الى الخلف فأستقر رأسه على مسند الكرسي الخلفي فانطلقت عجلات الكرسي الصغيرة الى الوراء مسرعة تنهب ارض الغرفة ، فاستعذب حركة الكرسي الناعمة فأمال رأسه كثيرا الى الخلف فازدادت سرعة الكرسي حتى اصبح كأنه صاروخ ينطلق به الى الفضاء.

لم يعد يدري هل ان الاشياء و الصور هي التي تمر خاطفة امامه ، ام هو الذي يخطف امامها ؟
التفت جلال الى اليسار فشاهد :
* جنديا يطعن شاخصا وهو يصرخ بحماس :( هه ..هه)
* طالب مدرسة يقبّل فتاته بين اشجار النخيل وهي تتأوه
* حمارا يحاول اغواء حمارة فتمشي امامه بغنج فيتبعها ويختفيان عن الأنظار
* فراشة بيضاء تقبل زهرة حمراء وسط تصفيق الزهور
*سكرانا يغني متمايلا( ربيتك ازغيرون داده حسن ليش انكرتني ..ليش ليش ياحقير )
*طفلين يلهوان بدمية دب كبيرة جدا وهما يكركران
*ديكا يؤذن وقت الفجر وهو يرفع ذيله يسرة ويمنة
*عصفورا يحوم حول عشه عند المغيب
*حدادا يطرق حديدا بنعومة فيحدث ايقاعا: تكتك تكتك ،تكتك تم، تكتك تكتك تم تم تم، تكتك تم، فيتحلق حوله الراقصون والراقصات.
سمع جلال جلبة قادمة من جهة اليمين
التفت الى اليمين فشاهد :
* شاخصا يطارد جنديا وهو يضحك بفم كبير جدا، والجندي يصرخ مذعورا : (الله اكبر، الله اكبر، يا بلادي كبري)
* شابا بوجه كالح وثياب ممزقة يضع السكين على رقبة فتاة حسناء وسط عويل وبكاء النخيل
* زهرة زرقاء تطبق فكيها على فراشة ملونه في حقل اجرد
* اطفالا عراة يطاردون سكرانا بالحجاره وهم يهتفون ( سكران بالك عنّه … فلوس العرق مو منّه )
* رضيعين يتصارعان بالسكاكين والدماء تسيل من فميهما
* ديكا يبكي وقت الغروب و دجاجة تهيل التراب على وجهه
* حمارة ترفس حمارا فتوقعه ارضا . ينهض الحمار ويبتعد عنها قائلا بلسان عراقي : (ليش دادة ، لعد وين اروح)
* صقرا ينهش عصفورا ملونا، تحيط بالعصفور كتاكيت بزغب اسود تصرخ باصوات نسائية (يبووووووووووووي)
* حدادا يضع جسدا بشريا هزيلا على سندان ضخم ويهوي عليه بمطرقة كبيرة فتطقطق العضام ( طق ..طق طقطق .. طق.)
* بيوتا طينية واكواخ من القصب والبردي تركض في صحراء يغطيها السراب تتبعها عاصفة ترابية هوجاء .
تساءل ببلاهة :
- ( ما الفرق بين ان تمر الاشياء خطفا عليك ، او ان تمر عليها خطفا ، ما دام الامر في النهاية هو الاقرار بالعجز عن التأكد من تفاصيل الملامح او حتى العجز عن التمييز بين الحقيقة وخيالها ؟
مرت امام الكرسي صورة خاطفة لحارس يحرس سجينا، فعجز عن الأجابة عن تساؤله :
- (هل ان الحارس يحرس السجين ام ان السجين يسجن الحارس؟)
توقف الكرسي في محطة ليست ببعيدة عن منضدته الخشبية المطلية بلون ذهبي ، يميل قليلا الى الاحمرار ، وتتناثر فوق وجهها الحزين ملفات صفراء كأنها اوراق كرمة ارعبها قدوم الخريف .
رمق الملفات بنظرة خاطفة وكأنه يريد ان يتأكد من أن سكانها قد خلدوا الى النوم، غير ان رؤوسا بعيون كبيرة والسنة متهدله غادرت الملفات الصفراء راكضة نحوه وهي تصرخ بكلمات متداخلة غير مفهومة حتى بدت كأنها طنين خلية نحل، فهرب من كرسيه نحو المرآة المعلقة على الحائط الجنوبي وراح يتفحص بدلته العسكرية الزيتونية التي لم يرتدها منذ امد بعيد، فأطل من وجه المرآة فم الشاخص الذي كان يطارد الجندي وعفط له عفطة قوية .
نظر جلال الى وجهه فبدا له ان وجهه يشبه وجه الشاخص فتمتم :
- ( والله استحق العفطة . منو انه؟ وليش انه هنا؟ وليش هاي الشغله الطايح حظهه ؟..كله منج يايمه )
اغمض عينيه ومغط جسمه وحرك يديه الى الخلف والى الامام عدة مرات ثم عاد متكاسلا الى كرسيه . تناول علبة السكائر ( الروثمان ) وراح يتمعن بها وكأنه يحاول قراءة ما كتب عليها، فتح غطاءها ببطء وقربها نحو فمه وتناول سكارة بأسنانه ورمى علبة السيكائر على المنضدة ،ثم تناول ولاعة غازية وقدحها فأنطلقت كتلة لهب كبيرة في وسط الصحراء ، تحلق حولها خمسة عمال ببدلات زرقاء وراحوا يرقصون ويغنون ( ويه يايمة الهوى دك بابي ،ويه يايمة الهوى جذابي )
كان يراقب العمال هو ومفرزة الامن التي يقودها من داخل سيارة اللاندكروز البيضاء.ترجل من السيارة وطلب من العمال التوقف عن الغناء والرقص ، غير ان احدا لم يعبأ به ، فأخرج مسدسه واطلق طلقة في الهواء فأحدثت دويا كدوي مدفع فتوقف الراقصون .اقترب منهم وصاح بهم:
- (منو بيكم صبيح عبد الله ايوب ؟)
رفع العمال الخمسة ايديهم وقالوا بصوت واحد: ( آنه )، فأمر جلال عناصر القوة بالهجوم على العمال ، طوقت القوة العمال واشبعتهم ضربا ،ثم سحبوا العمال نحو شجيرات الاثل وعلقوهم من ايديهم ، بعد ان ربطوها الى الخلف، واستمروا بضربهم باعقاب البنادق ، فسال دم غزير، تحول الى سيل اتجه نحو النار، فخبت حتى تحولت الى شعلة صغيرة كشعلة الولاعة .
قرّب الولاعة من فمه ، واشعل السيكارة ، واخذ منها نفسا عميقا ، ثم نفثه وراح يراقب حزمة الدخان التي راحت تكبر حتى تحولت الى غيمة سوداء سرعان ما ابرقت ورعدت ثم راحت تسكب مطرا غزيرا .
خلع نعليه وراح يركض حافيا وهو يبكي . وقع على الارض فتناثرت كتبه على الارض الموحلة .جمعها على عجل ودسها في حقيبته التي صنعتها له امه من ثوب عتيق ونهض وواصل العدو . حين وصل البيت كان الطين قد غطى كل جسمه . اشعلت امه نارا فامتلأ الكوخ دخانا .انزعته ملابسه وسكبت الماء عليه فصار يرتعش من البرد فلفته بعباءتها الخشنة واجلسته قرب النار.
قال لامه بصوت مرتعش :
- ( بعد ما اروح للمدرسة )
سحبته امه الى حضنها وقبلته قائلة :
- ( لا يمة لا تكول هلشكل . اريدك تروح للمدرسة حتى من تكبر تصير ضابط ، وتصير عندك فلوس وبيت وجاه ، وكلهه اتاشر عليك وتكول : هذا الملازم جلال عامر ابن رضية الحاصودة.)
قرب يده اليمنى من فمه ووضع السكارة بين اصبعيه وسحب نفسا عميقا ثم نفخ على جمرة السكارة فتوهجت، فوضع السكارة على وجه (صبيح عبد الله ايوب) الممدد في وسط الغرفة ، فأحترق لحم الوجه وانتشرت رائحة الشواء.
قالت زوجته وهي تمسك يده بغنج:
- ( الله … ريحة شوي . شكد طيبة ريحة التكة ، خلينه ندخل للمطعم)
وحينما كانا يأكلان التكة دخل فقير وراح يبحث في صندوق القمامة واخرج حرف خبز وقربه من فمه فصاح به جلال :
- ( لا.. لا تاكله ، تعال انا اطلبلك اكل)
والتفت الى زوجته قائلا :
- ( من اشوف منظر فقير اتدمر)
تناول السيكارة من وجه ( صبيح ) ووضعها بين شفتيه فضايقه دخانها فرماها بعصبية وتناول ملفا كبيرا وراح يقلب بأوراقه ببطء وهو ساهم ، ثم امال ظهره الى مسند الكرسي الخلفي ووضع رجله اليمنى فوق رجله اليسرى وراح يقرأ في اوراق الملف بعين نصف مغلقة :

( علاء محمد علي الصيرفي
تولد 1915
متزوج وله ثلاثة اولاد وبنتان وكلهم متزوجون
شيوعي سابق، سجن بعد ثورة شباط 1963، واطلق سراحه بعد رد تشرين عام 1964 )

رمى الملف بأستياء على المنضدة وراح يفكر في المصير المرعب الذي ينتظر عائلة الحاج علاء المتهم هو وعائلته بمساعدة عبد المهدي عزيز ( القيادي في حزب الدعوة ) على الهرب الى ايران..
خرج كل افراد عائلة حاج علاء من ملفاتهم ووقفوا فوقها وشعورهم منفوشة وثيابهم ممزقة ويتصارخون.
استغرب لوجود امه بينهم ،نظر اليها محاولا الاستفهام عن سر وجودها وسط عائلة تنتظر يوم اعدامها ،غير ان امه اشاحت بوجهها عنه ..
رن جرس الهاتف الاسود فجفل، ثم مد يده بتكاسل ورفع سماعة الهاتف وقال بكبرياء :
-( الو)
وحين سمع زوجته ( وجدان ) تقول له :
-( حبيبي ليش تأخرت ماراح تجي علغده؟ ..)
تذكر ليلة عرسه .
في ليلة عرسه رفع زوجته ( وجدان) وراح يدور بها حول نفسه وهو يصيح : ( احبج .. احبج ) ،غير ان طنينا ملأ اذنيه ، ثم تحول الطنين الى صراخ ، انه صراخ (حاج علاء ) ، تنبه الى انه يدوس على بطن ( الحاج علاء ) بحذائه ، فأنزل زوجته وجدان والتفت الى الحاج علاء قائلا : ( ايطبك حمس.. مو انته شيوعي اشجابك على حزب الدعوة ؟!)
فرك عينيه محاولا طرد النعاس عن جفنيه ، وعندما نظر الى الجسد الممدد على الارض اكتشف انه ليس جسد ( حاج علاء ) بل جسد زوجته وجدان ، وان الصراخ صراخها.

 

 

free web counter