| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي ثويني

 

 

 

                                                                                   الخميس 9/8/ 2012

 

محاضرة قدمت في جمعية المهندسين صباح يوم 9  حزيران 2012 في بغداد
وسيصدر لاحقا في كتاب من عشرة فصول بنفس العنوان
 

اللّغة و العَمارة
(1)

د.علي ثويني

مدخل
اللّغة هي ذلك النظام الذي يربط الإصوات بالمعنى، أو الإيماءات بالرمز، فرزا عن الحيوان قرين الإنسان . واللّغة خاصية إنسانية بامتياز، تكشف عن الإنسان كائنا مفكراً وعاقلاً، من خلال أفعال التواصل والتعبير والتفكير، كما أنها ذاكرة المجتمع وخزانه الثقافة، واللّغة فكر ومنهج ذهني يعكس جوهر الثقافة وصلبها.واللّغة عمارة وخط عربي فني يرتقي بالكتابة وعروض وشعر مرهف الحس، واللّغة إقتباسات حضارية وإصطلاح وتسميات ورمز ومجاز وشروح فكرية وتنظير ونقد. فاللّغة واحدة من أربع وسائل للتواصل والإيصال بين البشر كما الكلام أو الكتابة أو الإيماءة أو الرسم. واللّغة نظاما او نسقاً مركباً من وحدات منفصلة ومتمايزة فيما بينها و علامات صوتية لها وظيفة رمزية. ويمكن بناء مخيال عبر قدرات اللّغة على التشبيه والترميز الى مفاهيم وتصورات مجردة أو خيالية ليس لها بالضرورة سند وجودي خارجي. و تعكس اللّغة الجانب النفسي والاجتماعي وهي أيضاً أدوات الإنسان في التعبير عن نفسه ، أو تمويه موقفه والخداع والنفاق والمدح والقدح، فهي إنعكاس لصادق النفس أو كاذبها. واللّغة حقلاً للوعي من خلال تشكيل ( الهوية ) عبر جدلية العلاقة بين الأنا والأخر ( فالهوية ) تمثل الوعي الضدي بالأخر ، ومن هنا فالوعي يعني: تجاوزنا للحواجز.

والعمارة هي فن البناء والضرب من الفن المجدي بغرض وغايات الإيواء، ووقاية الإنسان من الحر والقر، من أجل حفظ نوعه وضمان راحته وتحفيز إبداعه ونقله من حال الوحشية الى الحضارة. واللّغة والعمارة منتجان بشريان، أختلف في تحديد وشأن نشوئهما، لكنهما يدلان بالتحليل على الأصل الذهني المشترك، ولا نستغرب أن وضعت الألسنة في بنى أسطورية مع العمارة، بما يوحي بأنهما منتجان لمصنع واحد. إن برج بابل المعماري كان قد رسم ملامح الشتات اللساني البشري، فمن هذا المبنى الصرحي الأسطوري تشتتت و تبلبلت الألسن، إيحاءاً بسخط الآلهة على البشر من جراء سوء أدائهم ونأيهم عن الفضيلة التي دعى لها. لكنها بالنتيجة توحي برغبته في إختلافهم الذي نعده حكمة وآية ورحمة ومدعاة للتكامل والتفاضل. ومن الطريف أن الغرب مازال يصور هذا المسرح المعماري الاسطوري الوارد في أسفار التوراة وكأنه يحاكي المنارة الملوية لمسجد سامراء الجامع ، وأمسى إيقونه رامزة لشكل لولبي عضوي تصاعدي، يسمو من الأرض نحو السماء.

ونجد الظاهرة اللغوية في العربية قد أخذت سياقات مفاهيمية معمارية مثل (القواعد) أي الأساس، أو (العروض) التي توحي بمقياس معماري ، أو وردت بصيغة "الأبنية" التي تداولها لغويون معجميون، ونحاة وصرفيون في إطار أبحاثهم المتنوّعة، وضربوا لها الأمثلة والشواهد، وتناولوا ذلك كله بالتعليل والتحليل والمدارسة، وخصص لها بعضهم أبحاثاً، أو فِقَراً، أو فصولاً وأبواباً في كتبهم، من ذلك المعاجم المقسمة إلى "كتب" أو "أبواب"، أو "أبنية". ‏وأهمها ديوان الأدب " لأبي إبراهيم إسحاق الفارابي أو ما قدمه للعربية الخليل الفراهيدي البصري في معجم العين الذي لاقح الأشكال الهندسية مع الحروف الهجائية بمنهج فذ ينم عن عبقرية وأثر راسخ في الثقافة المحلية. وهنا جدير أن نشير الى أن التصانيف اللسانية والمعاجم سليقة ثقافية عراقية ظهرت ريادية منذ باكورتها في سومر وبابل ، قبل عصور الإسلام بدهور، وفي ذلك حديث آخر.

واللّغة سياقات ومنتج متشعب توجته الكتابة التدوينية والخط الفني، الذي تطورعضويا مثلما كل التجارب الراسخة في المنتج البشري، وجاء من حاجة للجدوى والتنظيم ومساعدة الذاكرة المحدودة، ثم طرق الجانب الثقافي والأدبي ثم الفني ، وتناغم مع النزعة للذة الإبداعية التي تكتنف النفس البشرية في التفريغ الجمالي. وعادة ما نتساءل عن كنه الآلية التي تم من خلالها إنتقال هذا الضرب من الرموز الدلائلية المتفق عليها من قبل مجموعة من البشر إلى فن أمسى بعد التهذيب من أرقى فنون الحضارات ، و جزء من منظومات الفنون المعمارية. وكيف مثلت طبيعة الخطوط وإنسيابيتها الطبيعة الذوقية للثقافات، حتى لتتداخل تلك الخطوط بنيويا مع الخطوط المكونة للشكل المعماري، وامسى دالة للإنتساب البيئي، فرهافة خطوط أهل المدن وإستقامتها تختلف عن حدية وصرامة خطوط أهل البادية تميزا عن دوامات الموج لأهل الشواطئ.

وكما هو معلوم فأن الكتابة العربية أخذت من جذور آرامية (نبطية) في العراق والشام ، وقد وصلت الحجاز مع بواكير المسيحية من خلال نشر البشارة أو تجارة الشتاء والصيف. ووجد أقدم الأمثلة في شاهد قبر امرئ القيس (274-328م) في النمارة . ثم تلى ذلك مرحلة تعايش فيها الخط العربي مع الخط الحميري اليمني الذي ورد أصلا من تأثيرات آرامية في رحلته الأخيرة، وإرتحل معها فكان أن تمخض عن الحيرى والانباري والحجازي وهو غير ما يدعوه الصفوي [1] والثمودي واللحياني حتى وصل إلى يد بشر بن عبد الملك الكندي والذي يعود له الفضل في تعليم الخلفاء الراشدين والرعيل الأول من المسلمين. وأصبح الخط تباعا جزء أساسي من العمارة وفنونها، وشكلت الكتابة غاية فنية بحد ذاتها وليست وسيلة تعبر فيها عن فكرة. ونجد هذا التلاقح بين العمارة وفن الكتابة قد ورد عند حضارات سابقة في الشرق القديم، ومنها المصريين بمنحى تزييني اكثر منه كتابي ودعوي ،أو في العمارة العراقية(المسماري) لأغراض تدوينية و دينية ، لكنه وطأ الذروة في العمارة الآشورية ، وأقتبسته فارس بعد صعودها في القرن السادس قبل الميلاد، وهو سياق لأقباسات شتى في العمارة والخط على حد سواء.

لقد حوّل الخط العربي دلالة النص اللساني إلى زينة وزخرفة, مضعفة ومنبرة من مداخل ومخارج القراءة، ومنح الحروف نسج معاني النص ولفظه. إن توزيع العلامات الذي تقوم به ، يدخل القارئ أو المتفرج في فضاء شعري ليس خطيا البتة, بل يقوم بتعليق مسار القراءة في جدول للعلامات ينمحي فيه التعارض بين الشكل والمحتوى وبين الدال والمدلول. إنه ينتظم لوحا آخر للقراءة, وفضاء غير محدد، مفصلاً بين الكتابة والحرية الخطية, وبين الخطية والتشكيل, إلى درجة يقول فيها فرانسوا شانغ: (يكف معها مسار الخط عن أن يكون هدفا في ذاته. لأنه إيقاع وحجم معا, والحركة الأولى لصورة آتية لا محالة, إن آجلا أم عاجلا, هي العلامة. فمن خلال العلامة ينكشف رغبة الإنسان للامنتهى...). إنها سطوة رائعة لفن الخط على مستويين: فهو من جهة يقوم بتحويل اللّغة إلى فضاء ذو حرية شعرية; وهو من جهة ثانية وفي الحين نفسه يقوم بإعادة تأليف الفضاء المجرد لتحويله إلى أشكال زخرفية[2] .

ومثلما هو حال التجاذبات بين طرفي إنتماء العمارة للهندسة أم للفن فإن ثمة طرفي توجه للغة التي تبقى الفلسفة والمنطق ، رياضيات العقل ومنهج الفكر والجانب الصلب للغة، و الذي يقابله من جهة أخرى الشعر الذي يعد إحدى نتاجات الظاهرة اللغوية بشقها المرهف والناعم والفني الطري. والشعر قرين العمارة الفني لكنه فن زماني يقابل الصفة المكانية للعمارة . وثمة الكثير من المشتركات في بنيوية التكوين ومنهج الصياغة بين الشعر والعمارة، بيد أن الشعر إشارات ذهنية قصيرة تستثمر ، على عكس العمارة التي تحتاج الى موجات ذهنية أطول في المعالجات وتطوير الفكرة وموائمتها، process كما هي البحوث العقلية.

ولا نبالغ إذا ذهبنا أن لا توجد ثقافة في الدنيا إخترق الشعر ثنايا كينونتها وحكمت الكلمة نظامها النفسي والعقلي والإجتماعي مثل العربية، بالرغم من أن سومر هي الرائدة في هذا المضمار كأقدم أثر بشري باق. و لا يوجد في ألّسنة البشر تعبير عميق يصل عمق تلك الرابطة بين بيت العربي الذي يسكن إليه وبيت الشعر الذي يسكن كيانه وديوان الشعر وديوان المنزل وبيت القصيد ، إنها صيغ متعددة للبيوت تبدو للسامع أمراً عابراً ولكنها تحمل دلالات رمزية عميقة لم تأت مصادفة، لتشترك في الجوهر وتختلف في المظهر مثلما تضاد الأشكال وتجانس المضامين بين الخيمة البدوية والدار الحضرية.

يرد الشعر بالبابلية بصيغة (شيروShiro) و(شير) أو (سير) أو (سر Sir) السومرية ، حيث وردت كعلامة مسمارية كتبت في منتصف الألف الرابع ق.م، وتعني بالدرجة الأولى الغناء والإنشاد والترنيم [3] . واقدم شعر في الدنيا الذي كتب في سومر، والذي يحاكي طرائقهم في (دخلاتهم وخرجاتهم) بالحيطان أو تراتبية المنزلة كما زقوراتهم، بما يواشج بنيويا بين المنهج المعماري والشعري بشكل يحتاج الى عناية بحثية.

وفي العربية نجد أن "العمود" قد رفع هامة الدار والخيمة والمسجد والكنيسة والهيكل وأصبح عنصر أساس من عناصر العمارة ، وهو الذي وجد في أعمدة الشعر و تسلل إلى أهازيج الشكوى واللوعة شوقا إلى الخلان والأحبة، أو انتحابا عن ألم الفقد وامتثالا لسطوة الموت أو انشراحا متألقا في الحفاوة بالضيف ،أو إبتهاجاً وتنغيماً على إيقاع الكفوف والطبول ، ثم صاغ تباعاً أنواعاً شتى من أغاني السعادة وعودة الأحباب بعد فراق. وأنتقل إلى الحداثة الشعرية ،حيث يستلقي خلال القصيدة العمودية متثآبا بين السطور أو ممزقا أسفل الكلمات. . ونذكر في السياق ما قاله الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري حين ألتقى في إحدى المناسبات المعمار الدكتور محمد صالح مكية(مولود في بغداد 1914) معقبا عليه : ) أنا انحت الحروف وأنت تنحت الحجر  [4] .

2. بنيوية مشتركة
اللّغة والعمارة حقيقتان شاخصتان في حياتنا، نحاول أن نأولهما نظريا إعتمادا على فلسفات ونظريات وتصانيف. ونجد أن ثمة الكثير مما يجمعهما وإن سياقات واحدة منهما تتطابق على حافر الثانية، حتى أن النظريات التي شملت الحالة اللسانية كان لها تطبيق معماري قي العادة، كما البنيوية والحداثة وما بعدها والتفكيكية والأخيرة اساسها لساني نقدي، حتى لنجدها تسللت برفق الى العمارة وأصبحت حقيقة وتيار معماري شاخص يكاد أن يأفل اليوم، وجدير إنتباه الباحثين الى ثيمة المحاكاة بين ألسنة الحضارات وعمارتها كمنتج للعقلية المشتركة.

ونذهب في البدايات الى أن اللّغة والعمارة جاءتا تقليدا للحيوان في بواكيرها الأولى قبل أن تأخذ مدى للتطوير والصقل والإرتقاء ، بيد ان اللّغة سبقت العمارة في ذلك ، ويذهب علماء اللّغة الى أنها ربما ظهرت منذ مليون سنة، بينما العمارة أقل من ذلك كثيرا، حتى أن نشوء العمائر التي بنيت خارج الكهوف لا يتعدى عمرها إثنا عشر ألف سنة، وهذا موعد تطوري متأخر، فالعمارة ظهرت آخر 1% من تأريخ الوجود البشري . وثمّة مقولات شهيرة كتلك التي تنسب لأرسطو تلميذ إفلاطون، وأقتبسها الفلاسفة العرب، حتى ابن خلدون أوردها في فكره المجتمعيّ نصاً: "الإنسان حيوان عاقل"، "الإنسان حيوان ناطق" . ويعتقد مؤسس اللسانيات الحديثة فلهلم هومبولت بأن اللّغة هي واحدة من "البدايات المؤسسة للإنسان": الإنسان يصبح إنساناً فقط من خلال اللّغة لكونها تخلق نظرة الإنسان للعالم, وهنا لا يقصد بذلك اللّغة بشكل عام بل لغة شعب محدد".ويؤكد "إن الفرق بين اللغات ليس فرقاً عابرا بل فرقاً في الجوهر بين اللغات في تأثيره على الوعي وعلى المشاعر وبذا يصبح فرقا في النظرة الى العالم" [5] . فاللّغة نشأت كوسيلة للتواصل البشري بينما العمارة ظهرت كمأوى يحمي الإنسان بعد أن هجر الكهوف الأولى التي تعدها بدايات تأملاته وممارساته المعمارية من خلال تنظيم الفضاء الداخلي للكهف.

ويذهب لغوي أخر وهو الروسي ايفانوف - الذي كان ينتمي إلى جماعة موسكو تارتو - إلى أن اللّغة تحمل في طياتها نسقاً للعالم. وأن البشر يودعون في اللّغة نظرتهم للعالم، وإنطلاقاً من هذه الأقوال قام بعض الباحثين بدراسة بنية اللّغة مقارنة مع بنية المجتمع المتكلم بها ومن ضمنها منتجها الفني والمعماري، و قام الباحث الألماني هينز باتشر بدراسة الألمانية وأبنيتها في المجتمع النازي وانتهى إلى أن الأشكال اللغوية في مجتمعات المساواة تركز على المحمولات والتقييمات التي يقوم بها الفاعلون بينما وجد أن لغة المجتمعات المتراتبة أي المجتمعات ذات البيروقراطية العالية تعتمد لغتها على الحث والتحريض وقواعدها كذلك ونحوها وتأخذ قالباً جامداً فظاً وتكون ذات صبغة شعائرية، و لها طابع الأمر والخضوع والإجبار بينما تكون لغات المجتمعات المنفتحة ملكاً لكل الناس تتطور بحرية تامة وتظهر فيها مساحة واسعة من حرية الأخذ والعطاء مع الاحتفاظ بشخصيتها ، وهذا ليس غريباً على لغتنا ونجده صريحا في عمارتنا. وفي عقود متأخرة ذهب أحدهم في المدرسة الألمانية المؤمنة بسطوة اللّغة على العقلية، بأن يلقن بعض الطلبة النابهين العربية كي يؤسسوا لجيل جديد من اللوغارتمات كون الجيل الأول ظهر في بغداد مبررا سطوة العربية على ذلك، والغاية من هذا المشروع هو إختراع جيل جديد من الحاسوب الذي يمكث جوهرة اللوغارتمات.

وهنا نقر بان اللّغة لا تمثل العرق كما ذهب الى ذلك الفكر القومي من اصله الألماني (ولدينا في الفكر العروبي والكرودي)، وإنها حالة متحركة في كنف الثقافة وإن العربية لسان وليس صفاء دماء وأصول عدنان وقحطان كما ذهب الى ذلك العروبيون ، وحميتنا تنشأ من حملنا أسفارها وكيف وكم مساهمتنا ومن سبقونا في نفس البيئة الثقافية إلى بنيانها والإرتقاء بها، ونتذكر حديث نبوي شريف يذكر (ليست العربية منكم بأب او أم ، وإنما هي لسان). وبذلك لا يجوز ان نتعصب إلا بسبب ملكاتها وتقادمها الزمني، بيد أننا نقر بأن العربية ليست كلمات وأصوات منقولة عن غابر الزمان بقدر كونها روح وموازين حسية غاية في التأثير بمنهجية التفكير ، لما ترسمه من ملامح نظاميه ومنطقية، ودلالات رمزية (سميولوجيه) ترتبط بالخيال . وقد بحث في تلك التأثيرات الفرنسي (بياجيت (Piaget بما يدعى (علم النفس التطوريDevelopmental psychology (الذي أضطلع بإعطاء الصفة الإبداعية موقعها المتميز في (علم النفس اللساني المعاصرPsycholingustcs). لقد فصلت العوامل من وراء ما يصدر من كلام إلى خمسة هي:
1. المرشح العاطفي الاجتماعي Socioaffective filter.
2. المنظم العقلي Cognative organizer
3. المراقب a monitor
4. الشخصية personality
5. التجربة الماضية والتراكم التأريخي.

وينتبه إلى تلك التأثيرات الفرنسي أندريه باكار في مؤلفه عن الحرف المعمارية الإسلامية في المغرب، و يقول بهذا الصدد ،(أن الاسترسال بتلك التأثيرات يمكن تشبيهه بالمنحى الفني للإسلام وتحاشي التصوير والتصريح التمثيلي في الفنون بما جعل ذلك جسرا عبرت عليه الأفكار إلى حالة من التأمل، ويضيف (وهو دليل يماثل تماما تلك الفلسفة التي أتاحت للعرب اختراع علم الجبر).

يمكن أن تكون حقبة الأنوار enlightenment في اوربا (1750-1820) قد فتحت الباب الى إنتقال الفلسفات الى التطبيق فكان المنحى التحليلي البنيوي قد ظهر في عدة مجالات ومنها في اللّغة والعمارة على حد سواء. ويمكن أن يكون منهج الفرنسي فيوليه لودوك في تحليل العمارة القوطية وإرساءه لمعجمه المعماري، نقله في التنظير المعماري وبداية لما دعي الوظيفية ثم العضوية وتيارات ومدارس معمارية مثل شيكاغو، التي وطأت تباعا الحداثة في عمارة القرن العشرين. أما في اللّغة فإن بحوث السويسري الفرانكوفوني دوسوسير (1857- 1913)، تعد فاتحة لعصر جديد في الدراسات اللغوية - المسماة باللسانيات البنيوية. وقد تصور بأن النظام اللغوي نظاماً ثابتاً مطلقاً متعالياً في عصر وزمن محدد. وهي تؤمن بأن من الواجب جعل دراسة اللّغة كأي علم منضبط أخر. فاللّغة كالرياضيات والهندسة وغيرها من العلوم العقلية المنضبطة، ويفترض ان يطبق عليها ما يطبق على غيرها. ويعتقد المصري فؤاد زكريا ان البنائية لها جذور فلسفية أقدم من أصولها اللغوية وان أهم هذه الجذور فلسفة (كانت) إبان حقبة الأنوار التي تبحث عن الأساس الشامل اللازماني ، والتي تؤكد على وجود نسق أساسي تتركز عليه كل المظاهر الخارجية للتأريخ، وهذا النسق سابق على الأنظمة البشرية ، كي تستند إليه تلك الأنظمة زمانياً ومكانياً، أي أن هذا النسق قبلي ، ولهذا ظهرت عند البنائيين فكرة النسق الشامل الذي تنتظم فيه العناصر ومبدأ السكونية هو من المبادئ المهمة في البنائية سواء كانت اللغوية او المعمارية ، فهي لا تدرس الحالات المتغيرة في زمان أو مكان متغير، بل تقوم بوصف الانساق الثابتة، في وحدة زمكانية محددة. وهكذا فهي عندما تصف الإنسان تصفه ضمن نسق محدد فيكون مفعولاً لا فاعلية له لأن النسق الأجتماعي او الاسطوري أو الاقتصادي أو اللغوي...الخ، هو المُسيّر له وهكذا وصفت البنائية بأنها منهج يؤكد على الجبرية المطلقة ويجعل النزوع الإنساني سلبياً وخاضعاً للواقع مهما كان، وليس له القدرة على التغير. وكذلك التأريخ فهو من وجه النظر البنائية مجرد (تعاقب لصور تظل في أساسها ثابتة وأن إختلفت مظاهرها التأريخية) ،وبذلك فالبنية واحدة عبر العصور وكل ما يضاف لها لا يغير منها في أصل تكوينها، ولهذا أعتقد مؤرخو الحضارة ان كثيراً من ظروب التفكير العلمي والإبداع التكنولوجي التي عرفها العصر الحديث ليست إضافة مطلقة لشيء لم يكن موجوداً من قبل بل هي تنمية لبذرة سبق زرعها في عصور ماضية، فالأفكار وفقاً لذلك لا تحمل جديداً ، بل هي نفسها في الكنهة، وهذا ما تبنته الماركسية جزئيا في تصانيفها لتطور البشرية، بما دعيت (الحتمية التأريخية)، بالرغم من قناعتنا أن ثمة حقيقة تتعلق بالتأريخ المعماري ، فالمنهج العراقي لهياكل الحيطان الساندة والطريقة المصرية للبناء بالاعمدة والجسور(الأطر) ما زالتا قائمتين حتى اليوم، بالرغم من الفذلكة التي أخذتها مديات أبعد، وأقترنتا بحضارات شتى. وعلى أي حال فأن اي حضارة تؤسس لمبادئ مشروعها خلال بداياتها، ثم تمكث تصقلها وتطورها خلال مكوثها الزماني. والعمارة الإسلامية ومنتج الألسنة والمعاجم في الحضارة الإسلامية، أنتجت الأساس خلال القرنين الأولين، ثم مكثت تطور وتصقل منتجها تباعا.

وعلى نفس السياق و"بحسب رأي الغربيين" نجد أن نظرية التطور التي ظهرت في القرن التاسع عشر على يد دارون في (أصل الأنواع)، ما هي إلا صياغة جديدة لفكرة ثابتة في العقل البشري جاءت منذ سومر وأسطورة التكوين ، ثم وردت في القرن السادس قبل الميلاد على يد (انما كسيندر) واتخذت اشكالا متعددة إلى أن صاغها دارون بعد قرون. وكذلك البارود الذي تداولته أوربا متأخرا، كانت الصين قد استخدمته من قبل ذلك بقرون، وسبق أن إنتبه الروماني هيرو إلى الطاقة البخارية قبل أن يوظفها جيمس واط في القرن الثامن عشر. وإخوان الصفا الى التفاحة قبل أن يرصدها نيوتن ليصيغ مفهوم الجاذبية وقوانينها وغير ذلك. كل ذلك بحسب إدعاءات "المركزية الغربية" غير النزيهة تروم إحتكار المرجعية والحقيقة والريادة بها ، بما يلغي بغباء وصفاقة المنتج الدهري للعراقيين والمصريين والشاميين والهنود والصينيين من قبلهم.

لقد اُنتقدت البنائية كثيراً وخاصة في موضوعة عدم مبالاتها بالنزعة الفردية والإنسانية مثلما الماركسية أيضا، فأختفت الذات في ظلها ، وأنطوت تحت النسق او البنية الشاملة فالفرد (ليس أكثر من شكل غير مستقر قابل للاستبدال ضمن نظام لا روح فيه)، وفي الوقت ذاته نجد أن لوسيان كولدمان يقول عنها (إنها فلسفة مجتمع ييسر لإفراده أحسن الظروف المعيشية ويتدج في إعفائهم من جميع المسؤوليات). ويرى الكثيرون أن البيئوية : آيديولوجية سياسية تعبر عن مصالح البرجوازية وتقع على نقيض الماركسية، وللأسباب السابقة، ولخلو البنائية من الأحكام القيمية، فقد رفضتها مجموعة من الحكومات رسمياً ، ولاسيما الحكومات الشمولية totaleriste ،إذ ادانت ألمانيا النازية وايطاليا الفاشية البنائية رسمياً لأنها تتناقض مع توجهها. ولم تجئ أي دراسة لسانية بنيوية في المانيا وإيطاليا في هذه الفترة ، وكذلك الحال في الأتحاد السوفيتي قبل سنة 1950 عندما حكم بعدم شرعيتها لانها نتاج للأيديولوجيا البرجوازية، بالرغم من سطوع ممارسة البنائية لاسيما في العمارة والفن التي دعيت البنائية كذلك أو كنّت لديهم (الواقعية الإشتراكية). وحدث الأمر عينه في الأنظمة التي تقول عن نفسها "ديمقراطية" مثل فرنسا فانها لم يكن لها التأثير الكافي خارج أسوار السوربون، مثلما الكثير من أبراج الأكاديميين العاجية، ولاسيما في الثقافة العربية والعراق. ولم تلق البنائية النفوذ الكافي إلا في بريطانيا والولايات المتحدة الأميريكية وذلك يرجع إلى عوامل منها ان دعاتها كانوا يظهرون أنفسهم بأنهم هم وحدهم الذين يمتلكون توجهاً علمياً للغة، مثلما من يدّعي الحقيقة المطلقة ، وما أكثرهم في عالمنا!. والعامل الاخر هو الإسناد المالي والتنظيمي الذي لقيته من السلطات الأمريكية. وخاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والسبب في ذلك - أي نجاح البنائية في الولايات المتحدة الأمريكية - يكمن في أن الحكومة الأمريكية ارادت تحليل اللغات العالمية كي تستغل ذلك في الصراع العالمي الجديد، وان البنائيين قد أقنعوا غيرهم بأن طريقتهم في التحليل (يمكن تطبيقها مباشرة في إعداد كتب تعليم اللّغة والقواعد التي ستصبح القوات الأمريكية بحاجة إليها). وهكذا فان الحكومة الأمريكية قد اتجهت إليهم - أي البنائيين - في وقت حاجتها بدلاً من اللسانيين ذوي الأتجاهات الأخرى)، الأمر الذي جعل الحكومة الأمريكية تخصص مبالغ كبيرة جداً لوضع البرامج اللغوية المكثفة. وهنا نشير إلى إن وراء كل تصور ومصنف وحضور تأريخي ،هو تصور مغيب لتأريخ أخر غير مرغوب فيه ، ومصنف جرى إستبعاده أو تهميش قيمته ، وغياب تأريخي لحقيقة أخرى، وهذا ما نعانيه حتى داخل الثقافة العربية نفسها من خلال المركزية المصرية أو الشامية مثلا التي عمتا الجزيرة والخليج لاحقاً، وجاءت على حساب ثقافات راسخة كالعراقية والمغاربية مثلا ،وهذا هو سبب النقد اللاذع للثقافة العربية المشرقية في مشروع محمد عابد الجابري كونه بربري مغربي. وهنا نقع على حقيقة إدغام حقيقة الأتروسكيين بناة إيطاليا الرواد السومرية (منذ حوالي العام 1000ق.م)، على الأقل لغويا، أو ان شعب الباسك القاطن بين فرنسا وإسبانيا لغته تطابق لغة البربر في شمال أفريقيا، بما يعني ان الشعوب وردت من الجنوب نحو الشمال وليس العكس ، اي عكس ما تطلقه المركزية الغربية، وهذا ما يجعلها تغض الطرف عنه وتسوفه، لكي لا يكشف عقبها.

وفي نفس السياق جدير بالتذكير أن مشروع دوكسياديس في تخطيط مدينة بغداد قد دعم كذلك من صندوق المساعدات الأمريكي لدول العالم الثالث، مما وجه إليه وابل النقد وأتهم بالتجسس من قبل بعض القوى "القومية" ولاسيما (العروبية والبعثية)، في حالة من تشتيت النظر عن حالة (المؤامرة) المتمرغين بها، وإذ نعد أن تخطيطه كان من أنجح الخطط المنقذة لحال بغداد التي عانت من نزق ومآرب الوافدين والمتفذلكين والغازين والبداة من امثال الولاة العثمانيين أو"العراقي" ارشد العمري، الحامل لنفس العقلية.

ونجد في نهاية حديثنا رأياً مبكراً وارد من عمق التراث الإسلامي يصف به الأدب الرفيع وماهية الكتابة، التي نجدها مادة مطابقة للمواصفات التي وردت بها العمارة الوظيفية التي تطورت الى العضوية والتي تحمل الكثير من سمات الفكر الواقعي في الإنحياز نحو المحتوى على حساب الشكل،والذي جعل الشكل محض نتاج مسترسل من سياقات الوظيفة. ونقرأ هنا ما كتبه أبو هلال العسكري في أول الباب الثاني من كتاب الصناعتين: " الكلام أيدك الله يحسن بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخيّر لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وتشابه أعجازه بهواديه، وموافقة مآخيره لمباديه، مع قلّة ضروراته، بل عدمها أصلاً، حتى لا يكون لها في الألفاظ أثر، فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه. فإذا كان الكلام كذلك كان بالقبول حقيقا، وبالتحفظ خليقاً." وهنا نلمس نصا يقابل الثنائيات التي توضح سلطة البنية، وظيفية أو شكلية على فنون القول. فمصطلحات التشابه والاستواء والتعادل والموافقة كلها تدل على علاقة ثنائية متكررة ، وكلمة تعادل علاقة ثنائية تشبه الميزان ذا الكفتين، لكن اللافت هنا أنه قال (أطرافه) ولم يقل طرفيه، والعلة في ذلك فهمه للبنية الشكلية على أساس بنية الشعر الثنائية المكررة تكرارا لا متناهيا. وهذا النص مفعم باثر وهواجس البنيان والربط المباشرة بين الهدف والإتزان الوظيفي والتماه بين البعدين الثاني والثالث في العملية التصميمية للمبنى.



[1] الصفوي وارد من منطقة (الصفا) في الجزيرة العربية.
[2] عبدالكريم الخطيبي-ترجمة فريد الزاهي-مقال: مقدمات في الفن العربي المعاصر- مجلة نزوى- العدد 29- الصفحة 64- سلطنة عمان.
[3] طه باقر- معجم الدخيل على اللغة العربية- ص 99- بغداد 1980.
[4] الدكتور محمد صالح مكية معمار عراقي (بغداد 1914) من الرعيل الأول للمعماريين الأكاديميين العرب،درس العمارة في ليفربول ثم كامبرج في بريطانيا وحصل على الدكتوراه عام 1946. أفتتح كليه للعمارة ضمن جامعة بغداد عام 1958 وكان أول عميد لها حتى خروجه من العراق عام 1968. وهو ذو مشرب محافظ يدعو إلى إحياء التراث المعماري الإسلامي.
[5] هومبولت 1985: ص 372).
 

 

 

 

free web counter