| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي ثويني

 

 

 

                                                                                   الأربعاء 26/10/ 2011

 

أزمة الأغريق بين التصديق والتلفيق

د.علي ثويني

أثارت أزمة اليونان الإقتصادية وإفلاس الدولة المتصلة مشيميا بكتلة اليورو الكثير من اللغط وكشفت المستور مما يضمر ولم يظهر إلا في الأزمات مثلما هي سطوة الغرائز الماكثة اصدق أخبار من واه النفاق والإصطناع والتمظهر.وقد دعت تلك الحيرة أن يعلن الاوربيون طمعهم باليونان، حتى جغرافيا، فقد اعلن الألمان مثلا بأن لليونان جزر غير مأهولة في بحر ايجه يمكن بيعها والإستفادة من ريعها في ترميم الفخ الأوربي لليونان. واليوم يمكن ان يضحى باليونان فترمى من سفينة النجاة الأوربية طعما لأسماك القرش الشرهة المتربصة، ويضحى بها توخيا لسلامة اليورو. ويبدو ان الغربيين تعاملوا مع اليونان مثلما تعامل أهل الجاهلية مع آلهتهم الذين صنعوا لها أنصاب من تمر، ياكلوها حينما يجوعون.

أكتسى اسم اليونان رومانسية معرفية ، وروجت له "المركزية الغربية"، حتى أمسى عندنا من المسلمات ، وفحوى المسوغ ان جذر حضارة الغربيين هي من اليونان والرومان. حيث أشاع القوم في لجة البحث عن (عمام) ، مصدر للفخر والتفاضل، واصل عرقي مشرف ، وذلك منذ تأسيس مشروع النهضة الأوربية (
renaissance). وسلكته العقلية الرعوية والإقطاعية الالمانية إبان ما دعوه (حقبة الأنوار enlightenment 1750-1820) ،وأنطلت على المغفلين، ومنهم الشاعر الإنكليزي بايرون الذي أحرق وقودا في لظاها، ونحر إبان حرب تحرير اليونان من العثمانيين عام 1822، والتي أثمرت من إفتكاك أثينا فقط من ربقة الدولة العثمانية لتتحرر اليونان تباعا في الحرب الأولى، بعد خمسة قرون ونيف من الهيمنة.

لقد أترعت الاروقة البحثية والمناهج الدراسية بهذا الخطاب ووجه بدهاء إبليسي ، وفحواه ما لفضل اليونان على البشرية ، وإيحاءه بان الدنيا قد نفقت من العقول إلا منهم . وقد شارك في تلك الحركة مستشرقين ومستغربين وأفاقين ودجالي ثقافة، ولعبت بعض مدارس الثقافة العربية كالمصرية والشامية دورا بارزا في الترويج لذلك في الثقافة العربية، فكان رعيل فيليب حتي وقسطنطين زريق وطه حسين دالاتها. وكان المراد من ذلك بأن إرتقاء الأمم مرهون بنفر مصطفين من البشر، ولا يشملنا نحن حتما، فكل منتج الدنيا الحضاري منبثق من البؤرة الأغريقية، وأستكثرت على الآخرين شحيح المساهمة. وتصاعد ذلك إبان صعود الفكر القومي منذ اواسط القرن التاسع عشر وأنتهى بعد قرن، و صنف الشعوب الى الآرية وهي صانعة للحضارة ، والسامية المستهلكة لها ، وهذا التصنيف الواه لسامية وحامية وآرية جاءت في سياقات أسطورية اعتمدت تآويل توراتية لا تمت للعقل بصلة. ومن الطريف أن الألمان الذين سرقوا بوابة عشتار من بابل على يد المعمار (روبرت كولدوي 1855-1925) ، كان مبرر بحثهم في آثار المدينة العراقية، أن يعرفوا سبب وجود الطوطميات الناتئة المنحوته في آثار برسيبوليس، كونها رمز إبداعي (الآريين) ، فوجدوا في بابل خيبة كبيرة نسفت كل نظرية الأعراق القومية التي أنتجوها (وهي أساس الفكر القومي) ، والتي صنفت أهل بابل من الشعوب المقلدة، فأثبت بحثهم أنهم شعوب رائدة.

وهكذا بني على الباطل أباطيل، وشاركت الحفريات (الأرخ - لوجيا) في إنقلاب السحر على الساحر، فاثبتت دون دحض أو تدليس إن الشرق القديم كان المتن والمصدر وإن أفوله بعد ثلاثة آلاف عام سمح لبؤرة اليونان أن تثمر من فروعها وهوامشها، فكان العراق ومصر والشام سابقين لليونان.وسيرت الأمور بما جعل السوري والمصري يفضل أن يقول أن أرثه الحضاري محض يوناني وروماني قافزا على أرثه السابق له في نزعة من (الدونية) الملتبسة، وذلك إذا قدّرنا ببساطة أن سومر نهضت بحدود 3500 ق.م ومصر بحدود 2800 ق.م والشام بحدود 2400 ق.م، والهند حوالي 2200 ق.م وفارس بحدود 800 ق.م ، فان اليونان لم تنشأ مشروعها الحضاري الحقيقي إلا بحدود 700 ق.م ، واليمن بحدود 600 ق.م ، والرومان بأقل من 300 ق.م. وبيزنطة بحدود 400 م . وما يخص الرومان وفسيلتها بيزنطة، فإنـهم بنوا صرحهم الحضاري على أثر أرث شرقي محض ، بدأه شعب الاتروسكيين وهم حمولة سومرية هاجرت من سواحل الشام بحدود العام 900 ق.م ، وبنوا روما نفسها حوالي العام 735 ق.م ، وحملوا معهم منهج إنشاء المدن وطرائق العلم في الكتابة والري. اما اليونان فلم تطرق الحضارة أبوابها بعد إضمحلالها منذئذ اي بحدود القرن الثاني قبل الميلاد حتى اليوم ويؤكده وضعهم المأساوي، بما يعني أنها إستثناء وليس قاعدة.

لقد تنكر الرومان لليونان ،وفضلوا الميراث الشرقي عليهم، و تعاملوا بإزدراء مع موروثهم كونه "عهد مباد" أو "جاهلية" سابقة لهم. والأمر عينه حدث مع المسيحية البيزنطية التي عدّتها من موروث الوثنية البائدة. بينما وقف المسلمون موقف منصف وحملوا حمية على الأرث اليوناني وأمطروه بحثا وتدوينا وشرحا، وما فضل وصول الفلسفة والتاريخ اليوناني الى أوربا في الحقب المعاصرة إلا من خلال محفوظات ومترجمات الحضارة الإسلامية العربية. و يعّد الإقرار بفضلهم في بقاء ذلك الأرث اليوم معيارا لمصداقية التوجهات . فالمسلمين كانوا أولى بالفلسفة اليونانية من أبناء جلدتهم وورثتهم من الرومان وبيزنطة كونها نبعت من سياقات فكر الشرق القديم في الثابت الثقافي. و تنكر المشروع الغربي بصفاقة لهذا الفضل والإقتباس اللاحق من مصادر جنوب ووسط اوربا وإسبانيا والبلقان.

وهنا نشير إلى أن اليونان بدأت نهضتها أول مرة من مصدرين أحدهما من آسيا الصغرى والحيثيين المتماسة مع الرافدين والأخرى من كريت (المانويون) المتماسة مع مصر وكنعان، إذا استثنينا الإقتباس المباشر الذي حدث دائما. ومن الطريف أن اسمهم أورده إبن خلدون بصيغة (الغريقيون)، وربما يتعلق الامر بأسطورة الغرق المتعلقة بإختفاء قارة (اطلانطس)، التي ربما تكون لها صلة بإنهيار البرزخ الفاصل بين بحر إيجه والبحر الاسود، الذي تشير الدراسات إلى انه كان بحيرة عذبة فراتا، حتى اتصل بالمتوسط فأصبح ماءه أجاجا. ومن المعروف وفق الكلاسيكيات اليونانية أن أشهر كتاب اليونان في المسرح والتاريخ والفلسفة ذكروا بشكل متواتر وملفت للنظر أن الكنعانيين والمصريين القدماء وفدوا إلى اليونان وعلموا أهلها الحروف الأبجدية وفنون العمارة والتجارة، ووضعوا التشريعات، و في المراحل المتأخرة كان اليونانيون ، يرحلون إلى بلاد كنعان ومصر ليتعلموا الهندسة والطب والرياضيات والدين، حتى أن فيثاغورس نفسه عاش عقدين في بابل واقتبس منها نظرية المثلثات التي أصبحث فضيحة على الغرب حينما وجدوا ان بابل سبقته بأكثر من ألف عام في تدوينها.

إن هجوم الأسكندر على الشرق حوالي العام 330 ق.م فتح الباب على مصراعيه في إقتباس الكثير من المفاهيم والمفردات الفكرية و اللسانية إلى اليونان وليس العكس، ودليلنا إننا لم نجد اليوم في اللسان العراقي ما يؤشر على الإقتباس من اليونانية بالرغم من حكم أسكندري وسلوقي دام قرنين ونيف، وربما مكث في تسمية كلب الصيد(السلوقي) فقط. ونذهب الى أن ثمة الكثير من الكلمات التي وردت في اللغات الغربية من مصدريها اليوناني واللاتيني جاءت من ضمن سياق الإقتباس الذي أملته مجاورة الحيثيين للرافدين ، وربما كانت لغتهم أصل تلك اللغتين. حدث ذلك في أعالي الفرات بعد هزيمتهم أمام الآشوريين في القرن السابع قبل الميلاد ، ورحيلهم نحو الغرب إلى البلقان وما ورائها. حتى أن كلمة (أوربا) وردت من كلمة (غروبا) الأكدي أي منطقة الغرب، والتي اقتصرت في البداية على غرب آسيا الصغرى ، ثم إنتقلت إلى اليونان غرب بحر إيجه، ثم أتسع أثرها. ولا يغيب عن عين الراصد بأن الآثار اليونانية في آسيا الصغرى هي الأصل والأكثر من البر اليوناني. لذا فأن تسمية (غروبا) الأقرب إلى التصور اللغوي (الإيتومولوجي) بالمقارنة مع الإسطورة التي تناقلها الإغريق من أن (قدموس) شقيق أوروبا مضى إلى بلاد اليونان باحثاً عن أخته هناك، و وصل إلى (بيوتيه) وأنشأ مدينة (قدميا) شمالي أثينا، وقام هناك بتعليم الناس أبجدية الكنعانيين ، وأن (أوربا) بنت الملك (أگينور) ملك صور شاركت مع النساء في معركة (طروادة) المشهورة. وأن (زيوس) رب الأرباب في أثينا، علم بجمال وكمال أوربا ، فجاءها على هيئة ثور وكانت تلعب مع أترابها على شواطئ البحر ، فأغراها ودفعها إلى إمتطاء ظهره وعبر بها عباب البحر، حتى إذا وصلا إلى اليونان أعلن زواجه منها، وهكذا حملت القارة إسم أوربا....الخ ، وهي أسطورة ساذجة، تعكس فراغ في ملموس الأمور ونزعة الى غيب بعيد عن الواقع.

ومازالت حروف اليونان والرومان تحمل في رسومها أشكال تمت لأصل الشرق القديم (الأكدي حصرا)، في المعنى. إبتداءاً من هجائها الأبجدي (ألفا – بيتا – گاما)، فالفا تعني البقرة وبيتا البيت وﮔاما، الجمل ، وكل رسم له مجاز وتسلسل تصويري وارد من كلمات أكدية او كنعانية ،ومازال رسم المثلث بقرنين مقلوب يوحي برأس بقرة ، ورسم مربعين فوق بعضهما B يوحي بأنه بيت ، و k ويعني كف ويوحي بأنه أصابع، أو m ويعني ماء ويوحي بسطح الماء المتموج، وR ويأتي من رأس ويوحي بذلك ..الخ، وعين (آي بالإنگليزية وأوكين بالشمالية واوگي باللاتينية) وهي حرف (O) الدال على شكل العين.

ولا يمكن التغاضي عن كون جل آلهة اليونان عراقية وشامية، ولاسيما (ديوس) الذي يرد بصيغ ذو او ذي (Do-Dy) بالكلمات اليونانية بما يوحي بـ (ذو) الشرقي كما ذو الشرى وذو العزى عند العرب تباعا. ونجد مثلا أبولو الذي ورد (هبل عند عرب الجزيرة) و(مينوتا) وهي مناة الأكدية آلهة الغلة والحساب والوزن، ومازال العراقيون يتداولون معيار (المن) في أوزان الغلة وهي واردة من الأكدية ،حتى أنها مصدر كلمة (
money) الإنكليزية.وهنا لا نستغرب أن المسيحية القادمة من الشرق قد ولجت اليونان بغير عناء ، ولم يرحل لها الحواريون من فراغ ، حتى أوحت المسيحية برمتها للسذج منا أنها يونانية الأصل.

وبالعلاقة بين اليونانية وحضارات الشرق إجمالا والعراقية خصوصا أشار الإنكليزي مارتين برنال في نظريته (أثينا السوداء) التي أطلقها العام 1989 بأن ما يقارب من 70 % من ألفاظ اليونانية شرقية ، مقسمة بنسبة 50 % أكدية و كنعانية و20 % مصرية وأما ما تبقى منها (30%) فهو هندو- أوروبي". وأهم أمر، أن الألفاظ العربية في اليونانية هي مفرادات الحضارة، أي المفردات السياسية والتجارية والزراعية والدينية والمعمارية والفنية، إضافة إلى مفردات المفاهيم المجردة الضرورية لنشأة الفلسفة والعلوم الرياضية. أما المفردات ذات الجذور "الهندو- أوربية "التزاما بتقسيماته، فتتعلق بمجالات أخرى مثل الضمائر وحروف الوصف، ومعظم الأسماء والأفعال المتعلقة بالحياة العائلية. وهذا في رأي برنال أمرٌ مألوف حين تعطي لغة المسيطرين مفردات ثقافتها إلى الأهالي الذين يحتفظون بالقواعد اللغوية والمعجمية للغتهم. و أن مفردات مثل العربة والسيف والقوس والموكب والدرع والمعركة في اليونانية شرقية الإصول. ولا نريد أن نعيد سرد ثلثي الأصل الشرقي للجذور اليونانية، بل نختار منها أمثله بسيطة مثل (ناسيو) التي أمست (
Nation) بمعنى الأمة في اللغات الغربية ومصدرها كلمة (ناس) العربية و(ناشون الأكدية)،والعقلانية (Rational) يطلق عليها (راسيو) ،واصلها من (الراس) العربية، حتى آلهة الجبال (كاسيوس)، جاء من قساوة صخور وجبال الشرق، ومنها ورد (قاسيون) الجبل المتاخم لدمشق، من الكلمة (قاسي)، وغير ذلك الكثير.

لقد طفق الشماليون في أوربا (الألمان والهولنديون والأنكليز والفرنسيون) إستثمار صعودهم الحضاري للدق على هذا المقام، والترويج بان حضارتهم لها جذور يونانية رومانية، بالرغم من البون بين بيئتهم والبيئة المتوسيطة التي تكتنف الحضارتين اليونانية والرومانية، من ناحية الجوار والإقتباس غير الظروف البيئية من جوية وارضية، مخالفة تماما لبيئة الشمال. وهذا ما يمكن ان يتجسد في العمائر والفنون وعقلية المجتمع. ففي الشمال تشح الشمس ويكفهر الجو وتغلب الغابات الجليدية، بينما اليونان مشمسة حارة بغطاء غابي شحيح وصنوبري وشطآن وأفق مفتوح على البحر..الخ، الذي تمخض عنه أناس وعقلية ومنتج حضاري ومنها عمارة وفنون مخالفة لما سجي عليه اهل الشمال. وفي تلك المفارقة ، فان الدجل قد وصل أقصاه، وان التحريف لم يعد ينطلي حتى على أنصاف الواعين.

كثير منا لم يطلع على نظرية (اثينا السوداء) ولم تهتم الثقافة العربية ، وهي زاخرة بالتطبيل للحكام والدجالين من علمانيين ومعممين أن تترجم تلك النظرية وتنشرها وتبشر بها، بعدما إتسعت إلى أربعة مجلدات، ولم يترجم إلا قبس منها. وحسبي ان ذلك يرتق ما فتقته المركزية الغربية في إشاعة دونية تأريخية سرت وشاعت بين السذج منا. فكتابتهم لتاريخنا إعتمادا على وثائقنا التي تفردوا وأحتكروا قراءتها وتأويلها وترويجها، يدل على مقاصدها في ديمومة تسييرنا دونياً، ويبقى عدم العناية بتلك الطروحات دليل على نأينا عن الوعي حتى بذاتنا الثقافية.
 

 

 

free web counter