| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالآله السباهي

 

 

 

 

الأربعاء 7/10/ 2009

 

أحلام الشتاء

عبدالآله السباهي

سافرت ذات يوم إلى اسبانيا أبحث عن شمس تدفئ عظامي التي نخرتها ظلمة وبرد الشمال عسى أنّ أجد في طريقي، ظلي الذي اختفى ولم أعد مشاهدته منذ وصولي إلى الدنمارك.

لم تغرني زيارة الأندلس هذه المرة فقصدت جزر البليار المرمية وسط البحر الأبيض المتوسط. بعيدا عن ابن زيدون والولادة بنت المستكفي وإن كنت ولا أزل مغرما بهما، مبتعدا عن ضوضاء صوت اجترار الماضي وعن هوس الخائبين باسترجاع أمجاد ولتّ، وهم يتفرجون على بلدانهم تضيع منهم الواحدة بعد الأخرى منشغلين بأحلام الماضي.

جزيرة (مايوركا) أكبر جزر البليار الخمسة، جزيرة رائعة الجمال، والشمس فيها على مدار السنة تحرق أجسام آلاف البشر رجالا ونساء الذين افترشوا رمال شواطئها شبه عراة. وهناك وعلى تلك الرمال الناعمة رميت كيس عظامي كيفما اتفق ولم يلتفت أحد لوجودي، وهكذا رحت أقضي الأيام بهدوء واسترخاء.

لم يترك لي مندوب السياحة تلك النعمة. فذات صباح فوّت عليّ فرصة اللحاق بحجز مكان لي على الشاطئ، وراح يقنعني بلغة انكليزية ركيكة في التعّرف على معالم الجزيرة.

الحقيقة إنني لم أكن أعرف أن في تلك الجزيرة معالم تستحق أن أترك الشاطئ والسباحة في المياه الدافئة من أجلها.

لكنه قطع ترددي بعرضه المغري بزيارة أحد الكهوف المنتشرة في الجزيرة. و كلمة كهف لها وقع خاص وخاصة أن نومنا نحن العرب فاق نوم أهل الكهف.

وكأي سائح، يبحث عن كل ما هو جديد ومثير ذهبت مع مجموعة من السياح، وكانوا من أقوام وأجناس مختلفة. أقلتنا عربة سياحية مكيفة ذات فرش وثيرة وراحت الموسيقى الأسبانية تطربنا.

لم يكف المرشد السياحي عن الرطانة التي لم أفهم منها إلا الشيء اليسير. وكل ما فهمته منه أن العرب كانوا هنا أيضا. وقد شيدوا مدينة - وكان يشير إلى قرية ليس فيها أية معالم تاريخية - كقاعدة لجيوشهم فسميت تلك المدينة بالقاعدة ليومنا هذا .

سأترك الحديث عن قصة العرب على تلك الجزيرة لحين عودتي إلى جهاز الكومبيوتر والبحث عن ذلك التاريخ في محرك (نبي الله غوغل). وأعود لأنقل لكم مشاهداتي في تلك الرحلة الفريدة.

المناطق التي ظل يشير إليها الدليل السياحي ليس فيها ما يثير الدهشة أو المتعة غير جبال قليلة الارتفاع غطتها أشجار الزيتون المعمرة، والتي تتصل بالبحر بمسالك مائية حفرها المطر بمثابرة لآلاف السنين حتى شق دروبا في عمق الجبل ليوصلها بالبحر لا يعرفها غير السكان الأصليين وقراصنة الأيام الغابرة والتي كانت تشكل لهم قواعد لعيشهم بعيدا عن الأعداء.

بعد أن وصلنا إلى كهف (التنين!) أخذ القيمون على ذلك المعلم يصّفون الناس بطوابير محددة العدد، لا يخرج منها أحد فالكل منضبطين. حشرت في هذا الصف متبرما بين سيدتين اسبانيتين لم ينقطع حديثهن طيلة مدة انتظارنا والتي امتدت لبضع دقائق. لم تلتقط أذناي من حديثهن الصاخب غير كلمات اسبانية مبعثرة لم تفسر ذلك الحديث الجاد الذي يكشفه تعبير الوجوه ونبرة الصوت المرتفعة .

أخيرا دخلنا الكهف أو المغارة سميه ما شئت، والذي تدخل الإبداع الأسباني في وضع لمسات حضارية رائعة عليه منسجمة مع طبيعة المكان.

أنارت الكهف الذي حفرته الطبيعة على عمق ثلاثين مترا، مصابيح كهربائية وضعت بطريقة هندسية خاصة فبدا وكأنه ممشى على سطح الأرض وكأن الشمس هي التي كانت تنيره.

كنا نسير برهبة بمحاذاة سياج مدّ من أنابيب حديدية منبهرين بما نراه من جمال ساحر.

فقد رسمت الطبيعة السقف بمجسمات من الكلس تدلت فوق رؤوسنا بأشكال مختلفة واستدقت نهاياتها وكأنها أقماع البسكويت التي يباع في (الأيس كريم) فكنا نخشى أن نرفع رؤوسنا.

صادفتنا من حين لآخر سواقي وبحيرات صغيرة من مياه البحر الصافية جدا، فكنا نرى قاعها وكأننا نحدق فيه من خلال زجاج شفاف.

وهكذا قطعنا خمسمائة متر تقريبا في ممر من العالم الآخر كله رهبة وجلال.

استقبلتنا في نهاية المغارة بحيرة جرت فيها قوارب عدة لا أعرف كيف دخلت لتلك الأعماق. جلس فيها ممثلون وعازفون، ونصب هناك مسرحا من الضوء والموسيقى، وعلى ألحان (موزارت) خرجنا من ذلك الكهف بزوارق وسع كل منها عشرة من السياح مذهولين من عظمة الطبيعة وإبداع الإنسان.

عدنا إلى عالمنا المكتظ بالناس، و إلى دكاكين الباعة التي ازدحمت ببضائع الهدايا التذكارية الصينية المنشأ ومطبوعات لذلك الكهف.

تناثرت هناك المطاعم بين أشجار النخيل والزيتون لتسد جوع تلك الجموع الغفيرة من السياح.

دخلت مجموعتنا أحد تلك المطاعم ووقفنا في طابور أيضا ليأخذ كل منا ما يشتهيه.

الفتاتان اللتان كانتا قبلي أخذتا صحونا من أكلة ( البيئية ) الأسبانية المشهورة غطتها ثمار البحر من محار وسرطانات وغيرها وكان الرز الأحمر فيها يلمع من كثرة الزيت الذي طهي به.

أما أنا فأخذت ما يناسب بقايا معدتي التي عبثت بها مشارط الجراحين. دفعت ثمن وجبتي المتواضعة وكان زهيدا وقصدت الباحة المكشوفة لأتناول وجبتي تحت أشجار النخيل وقد سبقني إليها الفتاتان الايطاليتان. جلست إلى طاولة مجاورة لهن أتناول الطعام بملل ومن دون شهية وكأني أقوم بواجب. جلست إلى يساري امرأة اسبانية وابنتها المراهقة، أظنهما من بقايا أصول بدوية فقد ميزتهما سمرة غير سمرة الشمس الذي تتسابق عليه الأوربيات، فرحت أراقب ما تأكلان دون أن أهمل الغذاء الدسم الذي تأكله تلك الفتاة الإيطالية بشهية واضحة.

تدلت سعفة نخيل فوق رأسي وكان خوصها قد اصفرت أطرافه، تتبعت أصل السعفة فوجدته قد استقر على جذع سميك على غير عادة نخلنا الرشيق والذي يتباهى بطوله الفارع وكأنه فتاة بغدادية رشيقة وراحت أعذاق الطلع المصفرة والتي سوف لن تنضج بعدما ضمرت حباتها بعد أن يئست من أن تنال لقاح فحل.

زادت شجوني لتذوق رطبا قد نضج نصفه مع قدح من اللبن البارد، وليس أي رطب وإنما من نخلة صديقي الذي أشتاق له دائما طارق سعد العبيدي والذي يحاول عبثا الآن هو وزوجته الرقيقة الدكتورة بشرى العبيدي تربية نخلة تبرزل في أرض غريبة.

راحت ذكريات بغداد وأصدقائي الكثر الذين فارقتهم تلح بإصرار وخشيت حقا أن تعكر عليّ صفو الأيام الجميلة التي أقضيها الآن تحت شمس اسبانيا فتركت النخل وبغداد ورحت أشغل نفسي بمراقبة الجنس اللطيف الذي أحاطني من كل جانب.

راقبت أولا المرأة السمراء الأسبانية التي غطى لباسها الفضفاض الغريب كل جسمها رغم حرارة الجو، وابنتها التي جلست لصيقة بها وكأنها تخشى شيئا وقد حبست نفسها بسروال ضيق صنع من النايلون الرخيص أسود اللون.

راحت الأم تخرج من حقيبتها الكبيرة المصنوعة من القماش الملون سندويجات لم أعرف بماذا حشيت. وكانت اليافعة في هذه الأثناء تشرب الكوكا الكولا بتلذذ، ثم أخرجت المرأة بيضة مسلوقة وناولتها لأبنتها بعد أن قشرتها فخرجت كاملة وكأنها كرة بيضاء. قضمتها الفتاه بدون تلذذ وبدون تذمر أيضا وعيناها لم تفارق صحن تلك الايطالية التي جلست بجوارنا ببنطال قصير جدا فصلّ من القماش الناعم. وقد لفت انتباهي إصرار الفتاة الأسبانية في التحديق في سيقان الايطالية البيضاء والتي لم يسترها شيء تقريبا. فرحت أنظر أنا أيضا إلى تلك السيقان البيضاء البضة ناسيا إن ربيع العمر وصيفه أيضا قد انقضى فتذكرت بيتا من الشعر:

( لم تبق للسيقان ما يمكن ستره سوى جزأ صغيرا يحرجني ذكره) وحتى ذاك لم تستره كما يجب فكانت تطالعنا بعض أجزاءه كلما تحركت تاركة في النفس رغبة الاستمرار في التحديق مع شيء من الرغبة والرهبة والقرف أيضا.

انتهت ( الوليمة) وذهبنا إلى عربتنا التي ركنت قريبا ولم أشاهد المرأة وابنتها بعد ذلك، ولكن أن الايطاليتان كانتا معي بذات العربة غادرنها عندما وصلنا إلى عاصمة الجزيرة بالما دي مايوركا.

تركت مايوركا عائدا إلى برد الدنمارك وفي النفس حسرة على ذلك الفراق ورحت أبحث عن تاريخ تلك الجزيرة الساحرة وإذا بها حافلة بتاريخ العرب.

دخلها العرب بقيادة عبد الله بن موسى بن نصير عام 707 وطردوا الرومان منها. وأصبحت اللغة العربية فيها هي اللغة السائدة وفي عام 1014 سقطت بيد الملك أراغون و(كونت) برشلونة عام 1228 وهي الآن تتمتع بالحكم المحلي وعدد سكانها زاد على المليون نسمة. أنصحكم بزيارتها والاسترخاء تحت أشعة شمسها والسباحة في مياهها الدافئة ولابد من زيارة تلك الكهوف والتلذذ بأكلة البئية .




 

free web counter

 

كتابات اخرى للكاتب على موقع الناس