| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالآله السباهي

 

 

 

 

الأثنين 28/1/ 2008



الراحلون

عبد الإله سباهي

أحاول الكتابة عن عزيز فقدته حديثا .
سرحت مع الذكريات منذ انطباعها الأول في ذاكرتي المتعبة ولكنني فشلت .
بمجرد جلوسي معه على انفراد تدفقت الأحداث بشكل غزير وعشوائي فلم أستطع رصها بشكل منسق ورحت أبحث عن طريقة أخرى لأكتب عنه.
أكتب الآن عن صبري وصوره أمامي. أخذت أرّتبها حسب قدمها ابتداء من الصور الشمسية ثم الأسود والأبيض والملونة حتى توقفت عند آخر صورة له قبل أن يرحل في صباح 20/1/2008 وصلتني عبر البريد الالكتروني من ابنه الوحيد من موسكو.
توقفت عند تلك الصورة وأخذت أمعن النظر فيها طويلا وإذا بي أجد ذاتي فيها .
لا بل وجدت صورتي تطابق تلك الصورة. لم أكن أعلم أننا متشابهان إلى هذا الحد. فأخذتني رعدة وأنا أطيل النظر فيها.
أدركت عندها حقيقة أنه رحل وإني لن ألقاه ثانية. فسالت قطرات من عيني وراحت تنساب من خلال لحيتي البيضاء لتستقر على الحروف التي رحت أضرب عليها بقسوة.
كنت أحسب عيوني لن تجود بالدمع بعد فراق بغداد التي لم أدرك قبل اليوم أن هناك عزيز بعدها يستحق دمع الرجال. ولكني أدركت الآن أن بغداد هي أنتم ورحيلكم يعني رحيلها.
قبل أيام فقط تحدثت معه عبر أسلاك ظلت باردة رغم دفئ حديثنا . وكان يطمئنني على عادته ، ويستفزني بالسؤال عن صحتي !.
حلمنا بلقاء بعد أن ينقشع الثلج ورحنا نتحدث عن الفيزا والحجوزات وغيرها من الهموم التي لم نكن نعرفها من قبل في وطن ضائع .
عندما كان يشتغل في العراق كان يعود لنا من سفراته الشهرية للمشخاب ، من مزارع الرز التي كان يناضل فيها بصمت ليزيد من وزن حباته ،علها تشبع شعب جائع على مدى التاريخ رغم ثراء أرضه .
حينها ، كان يأتي على هواه ، لا حاجة للفيزا ولا للحجوزات ليجلس تحت شجرة اليوكالبتوس التي كانت تظلل نصف الحديقة . فنحتسي الجعة المثلجة ، ومن القنينة مباشرة قبل أن تشوي لنا أم صبحي سمكة قطان طازجة جاءت بها من سوق الوشاش .
غريبا ذلك التواضع المسرف وتلك الضحكة التي لم تفارقه في كل الظروف. والتي راح يذكرها بإعجاب ومحبة كل من يتصل بي مشكورا ليعزيني برحيله. مكررين أن بساطته وضحكته الدائمة هي (العلامة المميزة ) له.
من منا لا يحشر عشرات الألقاب قبل أن يكتب اسمه في أي مكان حتى لو على باب داره أو في غرفة نومه ؟
من منا لا يغضب لو ناديت عليه باسمه فقط دون كنية أو لقب ؟
ولكن (الدكتور البروفسور) صبري سباهي كان يكتفي بكلمة (صبر) وهي تصغير لكلمة صبري .

                     ملئ السنابل تنحني تواضعا              والفارغات رؤوسهن شوامخ

لقد عمل بجد ولسنين عدة في تطوير نوع من القمح فكبرت على يده حبات السنابل دون أن تنحني.
كرّمه قسم الوراثة في أكاديمية العلوم الزراعية في موسكو في أيام الاتحاد السوفيتي بمائة وثمانين روبل (30دولار !) . أحيا بواسطتها حفلة للعاملين معه في حينه وصرفها كلها مرة واحدة وهو يضحك .
رأيته مرة أخرى بعد عقد من الزمن وقد سقط الاتحاد السوفيتي. فكرمته الدولة الروسية الجديدة بشهادة شكر وإشادة بجهوده في تطوير ذلك الصنف من القمح مما أتاح زيادة كبيرة في الإنتاج . شهر هذا التكريم أمامي فرحا وبكل حماس وكأنه يهتف في مظاهرة :
وأخير عاد لي حقي . رغم ذلك التكريم قد لا يعلم أحد بذلك الانجاز غيرنا .
وعلى ذكر المظاهرة، هل يعلم أحد منا أن هذا الراحل المتواضع كان أحد القادة العماليين في العهد الملكي ؟ وكان رئيس لنقابة عمالية في عهد الجمهورية ؟.
حتى أن رفاقه لم يذكروه بكلمة وفاء بعد أن أعاد مع رفيقه بهاء الدين نوري تشكيل الحزب الشيوعي العراقي من جديد بعد أن قضت علية أجهزة القمع في العهد الملكي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.
قص عليّ تفاصيل تلك الفترة بعد أن ذكرت له أن بهاء الدين نوري قد كتب اسمه في مذكراته. فراح يسرد تلك الأحداث وكيف كانت الشرطة تطاردهم وهم في قطار الموصل مع جهاز الطبع (الرونيو) .
كان منفعلا ولكنه كان يضحك ونحن نحتسي مرق لم أميز طعمه . طبخه على عجل ونحن نجلس في مطبخ شقته الصغيرة ذات الغرفة الواحدة في الطابق العاشر في شمال موسكو .
كنت أتصور رغم معرفتي الجيدة به ، أنه سوف يغضب عندما يحدثني عن الفترة التي ترك فيها اللطلاطة ، قاصدا مدينة البصرة وهو لا يزال غلاما . ليعمل هناك من أجل أن يشبع بطنه بعد أن عجزت الأم الأرملة في إطعام كل الأفواه التي كانت لم تعرف الشبع يوما .
روى لي عن تلك الفترة من المعاناة والحرمان وكأنه يسرد فلما هنديا.
كان يضحك فلم أحزر قدر ألمه عندما روى لي كيف أن الذين عمل صانع عندهم في البصرة. يضعون مائدة الغداء ظهرا بعد ساعات من العمل الشاق . فتمتد العديد من الأيدي القوية إليها مسرعة . أما هو فكان يجد صعوبة في الوصول إلى قلب المائدة التي توسطتها سمكة مشوية تناهشتها أيدي الكبار . فيلملم ما كان على الأطراف منها في لقمته .
وقبل أن يشبع بطنه يأمره الأسطى بجلب كوب من الماء ليدفع به الغصة . فيعود صاحبنا بالماء وعندها تكون المائدة أخليت تماما . فيأمرونه برفعها ليتكرر ذلك في اليوم التالي والذي بعده إلى أن هرب من عقاب (تعلم الصنعة) .
لم ينقطع شريط الذكريات ولكن صبري قد اختفى منها وكأن الرقابة قد قصت تلك الفترة من سيرة حياتنا.
لم يكن معنا طيلة سنين طويلة وكأنه لم يكن موجودا أصلا . كان ذلك في نهاية العقد الرابع من القرن الماضي وبداية الخمسينيات منه.
كان يقال لي عندما أسأل عنه أنه مكلف بمهام. ما هي تلك المهام ومن كلفه بها ؟ لا أعرف والكل يصمت عن الإجابة. ولكن من هم الكل؟ هم أنا والأرملة البائسة وراحل آخر. والكل يعارك الزمن ليظل فوق تراب ذلك الوطن لا تحته.
في الخمسينيات عاد ليعمل في سوق (الآلوسي) في بغداد صائغا للذهب للمحلات وأحيانا للبيع بالجملة .
اذكر صوت شعرات المنشار التي كانت تتكسر وهو يقص سوارات (الدبابة) . لم يكن يرسمها ولا ينقشها وإنما يقصها مباشرة وكأنه يرسم وشما من الحنة على كف حسناء . كانت مهمتي هناك أن أجمع تلك الأساور (بالنقارة) على جذع من الخشب ثم أجليها وألمعها.
كانت أياما حلوة على بساطتها . كان همنا فيها كيف نعيش وكيف ننهي الدراسة المسائية .
وكيف أوفق بينها وبين أوقات العرض لأفلام شادية وسامية جمال وأفلام سلفانو منكانو الايطالية التي كانت فتنة للمراهقين المحرومين أمثالي في ذلك الزمان .
انقضت تلك السنين وتركته مسافرا إلى موسكو لأكمل دراستي فيها.
رحت أعد نفسي لغربة لم يخفف كابوسها إلا مجموعة من شبابنا شاركوني فيها وسرنا سوية نقضي درب تلك السنين . ثم جاء صبري بعد سنة يتبعني إلى هناك وكانت فرحة .
كانت أيام موسكو هي فترة حياتنا الذهبية . لن أكتب عنها الآن فقد كانت حميمة وخاصة جدا .
مرتّ السنون سهلة وسريعة في موسكو رغم صعوبة الحياة والدراسة . ولم يؤرقنا فيها غير الوطن وهموم الوطن وشعار العودة للوطن.
هذا الوطن الذي لم يبادلنا الحب يوما . يبعده عنا حكام طغاة فيرحل عنا كلما قصدناه بلهفة وحب . كلما جهد الناس لإبدال عهد ظلم فيه جاء الذي بعده أظلم منه وأتعس .
عدنا أخيرا للوطن . وعاد صبري إليه حاملا مشاريعه وطموحاته في جعل حياة العراقيين أفضل
ولكن خيبتنا في الوطن كانت أكبر من أن تحتمل . وبقينا وأظنكم مثلنا ، وأغلب العراقيين كذلك .غرباء ونحن في الوطن وغرباء ونحن بعيدين عنه . ليمتد بنا العمر ونحن نعيش الخيبة ونتمثل قول الطغرائي:

              ما كنت أؤثر أن يمتد بي زمني               حتى أرى دولة الأوغاد والسفل
              فيما الإقامة في بغداد لا أهلي                  بها ولا ناقتي فيها ولا جملي


وهكذا سرقوا منا العمر وسرقوا الوطن وسرقوا كل أحلامنا وطموحاتنا . لنظل أمام هذه الشاشة نجتر الذكريات "وندردم" كالعجائز . نتلهف لأخبار أغلبها لا يسر.



 

Counters

 

كتابات اخرى للكاتب على موقع الناس