| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالآله السباهي

 

 

 

 

الخميس 14/1/ 2010

 

نصائح منسية

عبدالآله السباهي

في أيام الحقبة الستالينية شيدت عشرات المباني الشامخة في موسكو تعكس شموخ الدولة والقائد ستالين.

كانت البناية التي خصصتها الدولة لإقامة جامعة الصداقة فيها واحدة من تلك البنايات، والتي كانت مخصصة أصلا لمدرسة عسكرية.

كي تصل إلى باب تلك البناية عليك أن ترتقي سلما عريضا انتصبت أمامه أعمدة مرتفعة بشكل تجعلك صغيرا مهما أسرعت في ارتقاء السلم، وليس لتلك الأعمدة أي وظيفة هندسية غير التعبير عن العظمة.

كنا قد غادرنا العراق ونحن شباب مشبعين بالشعارات والأفكار الماركسية وبالطموح الجامح من أجل التحصيل العلمي، ولكن كانت تعوزنا بجد المعرفة بالحياة الجديدة وبعادات الشعب السوفيتي الغريبة عنا.

كنا منبهرين بكل ما نراه ومنذ يومنا الأول في هذا البلد العظيم .

سبقتنا بعام دراسي مجموعة من الشباب العراقيين إلى تلك الجامعة، فأخذنا نتمسك بأذيالهم كأطفال صغار في يوم عيد متمسكين بثياب أمهاتهم .

كانوا شبابا كرماء حقا فلم يبخلوا علينا بخبراتهم وتجاربهم في الحياة الجديدة، فعقد لنا مسئول المنظمة الحزبية(الحزب الشيوعي العراقي) اجتماعا فور وصولنا ضم كل الطلبة الجدد بغض النظر عن مدى علاقتهم بالحزب.

استهل المسؤول الاجتماع بشرح مستفيض للحياة الجديدة، مذكرا بالواجب الوطني الملقى على عاتقنا في (تبييض وجه العراق أمام السوفيت بالدراسة الجادة) معرجا على السلوكية التي يجب أن نتبعها في حياتنا اليومية الجديدة، محذرا من الاندفاع بالملذات:

خذوا كل شيء بهدوء وروّية يعني على (كيفكم) حتى رفيقاتنا السوفيتيات ( لما تكونوا وياهن فعلى كيفكم ).

طبعا أصبحت تلك نكته نتذكرها بمرح إلى اليوم، فكلما تتعرف إلى فتاة لابد أن تسمع تعليقا من أحدهم (على كيفك ويه رفيقتنا !).

مرّت سنين الدراسة مشحونة صعبة. فالمناهج الدراسية كانت مكثفة والدروس صعبة و الجو قاس، وفوق كل هذا كانت تحاصرنا معاملة الإداريين المتشددة في الجامعة، وفي القسم الداخلي الذي نسكنه .

كان في الجامعة عدد من الموظفين مخصصين فقط للعمل معنا .

مهمتهم الأساسية هي مراقبة سلوكنا وتحركاتنا، فكانوا يضيقون علينا بحجة الإرشاد وتقديم النصائح .

لكل مجموعة منا لها موظف مسؤول تحت تسمية المدرس الأقدم .

قضيت سنين وأنا في تلك الجامعة ألاقي الأمرّين من الفاقة والبرد ومن مضايقات (المعلم الأقدم) .

وذات يوم وقبل أن ينتهي الدوام اهتم المدرس الأقدم في البحث عني سائلا كل طالب عراقي يصادفه، وقد ساعده بالبحث عني عدد كبير من هؤلاء المدرسين بما فيهم مساعد عميد الجامعة لشؤون الطلبة، وتبرع عدد من طلبتنا العراقيين من باب الفضول بالمساعدة أيضا في البحث عني .

عثروا على (عبد الإله) أخيرا في أحد الصفوف الفارغة حيث كنت أحضّر لامتحان الرياضيات مع إحدى رفيقاتنا السوفيتيات!

أخذوني إلى الباحة الرئيسية في الجامعة، وهم يحيطون بي من كل جانب وكأنني في زفة عرس، وعيون الطلبة في الجامعة شاخصة تنظر إلي مستغربة هذه الزفة .

ناداني أحد العراقيين من بعيد مرعوبا :

- ها عبد شكو؟

لم أستطيع الرد عليه إلا غمزا وأظنه قد فهم أنها كبسة !

في باحة الجامعة وقفت سيارة تعود للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي من نوع (جايكه) وكان ذلك حدثا فريدا في الجامعة .

من هو هذا الطالب العراقي الذي تهتم به اللجنة المركزية، وترسل له إحدى سياراتها ؟

فتح لي المدرس الأقدم باب السيارة والذي كان يضطهدني بالأمس مناديا :

- تفضل رفيق، الرفاق في اللجنة المركزية يطلبونك!

جلست في المقعد الخلفي الوثير وأنا في حيرة من أمري، فلم يسعفني خيالي في تفسير هذا الإجراء. ما علاقتي أنا باللجنة المركزية؟

صحيح إنني كنت حينها رئيس رابطة الطلبة العراقيين في تلك الجامعة، ولكن ما علاقتنا بقمة هرم السلطة السوفيتي؟

حاولت فهم الموقف من سائق السيارة بسؤاله عن الوجهة التي سنذهب إليها، ولكن دون جدوى فهو أخرس أطرش.

بعد ما يزيد على الساعة، خرجنا من المناطق السكنية في موسكو إلى غاباتها الجميلة الخضراء التي لا تنتهي.

شق وسط الغابة طريق بين أشجار البتولا راحت السيارة تقطعه بكل هدوء. فوصلنا دون ضوضاء إلى بناية جميلة وادعة تظللها الأشجار التي ابيضت سيقانها، مختلف أنواع الزهور زرعت بعناية لتضفي على المكان سحرا لا ينسى.

- تفضل رفيق .

فتح السائق باب السيارة بكل أدب وظهر أنه رجل لبق، لا أخرس ولا أطرش كما كان في داخلها.

قادني إلى غرفة الاستعلامات في تلك البناية وتركني هناك ملمحا لي أنه سيكون في انتظاري متى شئت.

في الاستعلامات تبين لي إنني في مستشفى اللجنة المركزية، عندها هدأ روعي وخمنت أن أخي الشيوعي المخضرم أو احد معارفه من قادة الحزب الشيوعي العراقي راقد هناك وطلب رؤيتي لغرض ما.

صدق ظني تقريبا، ففي إحدى غرف المستشفى المؤثثة كفندق ذو نجوم خمسة التقيت بشاب يصغرني قليلا ولم أكن أتوقع رؤيته إطلاقا.

نهض من سريره وراح يضمني بعناق صادق سالت دموعنا خلاله.

إنه قريبي وصديق طفولتي بهجت [1].

لم أكن أعرف أنه قد ارتقى في منصبه الحزبي إلى هذا الحد بحيث تستضيفه اللجنة المركزية السوفيتية وتلك قصة أخرى.

بعد الاطمئنان على صحته، وقد صعب عليّ حقا كونه يعاني مشاكل جدية في الكبد.

وبعد السؤال عن أهلنا في العراق والذين كنت أشتاق لهم بكل كياني وغيرها من الأسئلة، وبعد أن طمأنني عليهم. قضينا ساعة نستعيد فيها ذكرى أيام قلعة صالح واللطلاطة وأيام الشواكة .

الضيافة التي حظيت بها شملت على أنواع من المشروبات التي لم نكن نراها في حوانيت موسكو ولا حتى في السوق الحرة الوحيدة في المدينة والتي كنت أزورها بفترات متباعدة برفقة بعض الطلبة الميسورين .

بعدها تناولنا الفواكه الناضجة وغيرها من الطيبات التي غطت المائدة التي توسطت الغرفة .

تخرج بهجت حمد الشيخ زهرون من الكلية العسكرية بعد ثورة 1958 وأرسل من قبل حكومة عبد الكريم قاسم إلى الاتحاد السوفيتي لدراسة اللاسلكي .

قبل أن ينهي تلك الدورة حدث انقلاب 63 الأسود فاستدعي من قبل حكومة البعث وحين رفض العودة خوفا من القتل فصل من الدورة وقطعت عنه المخصصات.

على أثر ذلك وفرت له الحكومة السوفيتية فرصة إكمال دراسته في معهد خاص جدا للاسلكي. أي أن الأجانب لا فرصة لهم في دخول هذا المعهد نظرا لسرية الأبحاث فيه عدا أفراد محدودين استثنوا من ذلك وكان بهجت واحد منهم بسبب التزامه وذكائه المفرط .

تفوق بهجت على أقرانه في دراسته في ذلك المعهد في قسم الاتصالات بالفضاء الخارجي ولم تبقى له إلا سنة واحدة ليكمل دراسته في المعهد ويحصل على اختصاص لم يسبقه عراقي إليه.

دعته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي للعودة إلى العراق، ربما لتأسيس إذاعة للمعارضة لها، أو لمهام أخرى.

عاد إلى العراق بشكل سري مضحيا بفرصة العمر، وهناك استخدم اسما حركيا هو أبو عبد الله .

بعد أن ساءت صحته أرسل إلى موسكو من جديد للعلاج على حساب اللجنة المركزية السوفيتية حيث التقيت به.

بعد أن انتهينا من سرد أهم الأحداث، وبعد أن أتخمتنا الضيافة السوفيتية الكريمة سألني أبو عبد الله إن كنت أرغب في لقاء خالد بكداش [2]؟

من منا لا يتمنى لقاء ذلك القائد الأسطورة؟

اقتادني بهجت عندها إلى غرفة قريبة من غرفته حيث يرقد بكداش للعلاج .

في جناح خاص ملحقا بالغرفة استقبلنا رجل كث الشعر رأيته حينها جميل الوجه جاوز الخمسين من العمر وراح يرحب بنا بكل أدب وصدق.

أخذ بكداش يمدح الشيوعيين العراقيين دون أن يعرف علاقتي بهم.

ثم دار حديث عام عن العراق والجوع الذي يعيش فيه الفلاح العراقي.

قدم خالد هنا نصيحة لأبي عبد الله في محاربة الجوع الذي يعيشه الفلاح العراقي وخاصة في الجنوب وطلب منه أن ينقل النصيحة لرفاقه في الحزب عند عودته، وكانت كما يلي:

رفيق أبو عبد الله عندكو في المنطقة الجنوبية مسطحات مائية شاسعة وهناك ثروة أهم من الثروة السمكية وهي الدفادع (الضفادع) ثقفوا الفلاحين وعودهم على أكلها وتحل مشكله الجوع عندهم!

ولكون أبو عبد الله يعرف عدم التزامي بالأدب في مثل تلك الحالات راح يتطلع بوجهي بخوف ليرى ردة فعلي التي لم أستطع لجمها إلا بآخر لحظه.

سألته غير مصدق ما سمعت:

- رفيق هل تعني أن الشيوعيين في العراق سيطلبون من الفلاح العراقي أن يأكل (العقروق) الضفادع ؟

- نعم أيها الرفيق الشاب.

تذكرت تلك النصيحة الآن وقلت ليتنا علمنا العراقيين حينها على أكل الدفادع كما نصحنا الرفيق خالد بكداش لكان خير لهم من أكل ال........... هذه الأيام !

خرجنا من عنده متمنين له الصحة.

تمنيت لأبي عبد الله الصحة وودعته شاكرا محمله أطنان من التحيات والتوصيات لأهلي وأصدقائي في العراق، وعدت إلى القسم الداخلي الذي أعيش فيه قرب الجامعة في سيارة اللجنة المركزية بكل أبهة.

راح الطلبة المجتمعين دائما عند الباب أو تجمعوا خصيصا لرؤية النجم الجديد وموظفي الاستعلامات وراحوا جميعا يرمقونني بكل تقدير بعد أن ترجل سائق (الجايكه) فاتحا لي الباب ومودعا بكل احترام .

حظيت بعدها بمعاملة خاصة من قبل جميع المسؤولين في الجامعة وخاصة من قبل المعلم الأقدم وحراس القسم الداخلي!.

 


[1] توفي بهجت رحمه الله في العراق في 1993 من القرن الماضي ولكنه لا يزال يعيش معي وفي قلبي.
[2] خالد بكداش هو رئيس الحزب الشيوعي السوري اللبناني قبل أن ينفصلا عام 1964 منح وسام ثورة أكتوبر السوفيتي بمناسبة بلوغه الستين من العمر عام 1972. وكان أحد قادة الحركة الشيوعية في العالم العربي والعالم أيضا. ولد عام 1912 وتوفي عام 1995 وهو من أب وأم كردية وقد مثل الوفود العربية للكومنترن عام 1935 درس الحقوق في دمشق. استلمت قيادة الحزب الشيوعي السوري بعده زوجته الرفيقة وصال فرحة بكداش زمن بعدها ابنه الدكتور عماد بكداش!





 

free web counter

 

كتابات اخرى للكاتب على موقع الناس