| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالجبار السعودي

basrahahwar@hotmail.com

 

 

 

 

الثلاثاء 8/5/ 2007

 

 


الشلغم .. وما يــُثلجُ من صــــــدور !

 

عبد الجبــار السعودي

ما شدني للكتابة عن الشلغم بالذات ، هو ردود الأفعال الغير متوقعة والطريفة التي وردتني من هذا الطرف أو ذاك من الأصدقاء بعد أن أطلعت الكثيرين منهم بتاريخ الأول من أبريل / نيسان 2007 نقلاً عن أحد المواقع الألكترونية عن تحقيق علمي يتحدث عن الفلفل الحار تحت عنوان (( الفلفل الحار .. يفتح الشهية ويعزز إفرازات اللعاب )) وما ترتب عليه لاحقاً من ذهاب البعض منهم لشراء الفلفل من الأسواق مباشرة بعد قراءته للتحقيق المنشور و وقوعه في ورطة حريقهِ اللاسع للـّســــان ، وما يليه من آثار جانبية .. آملاً في تحقيق بعض فوائده الطبية المعروفة التي تحدث عنها التقرير ! ولم أكن حينها لأتهرب من الأستماع الى بعض من تلك الشكاوي الطريفة التي رواها أصحابها بنوع من النكتة والغرابة .. وكنت أوعدهم ضاحكاً وأقسم لهم بحرارة أشدّ من حرارة الفلفل نفسه ، من أني لن أكتب ثانية عن الفلفل الحار ومشتقاته ، بل سوف أتعداه الى ما يطيب له اللسان ومذاقه وما تحلو له الذاكرة الطرية ، فشاءت الصدف بتناولي لموضوع ( النبك الملاسي ) الذي أوصله لي أحد ألأصدقاء كــ ( صوغة من جنوب الوطن ) !

  ولأن التجارب والأحداث المتسارعة التي نعيشها بشكل غريب ومؤلم ، تأخذ منا الوقت والهمة والذاكرة ، وتلهينا كثيراً عن تسطير بعض من حكاياتنا الشعبية المرتبط بحياتنا اليومية التي عشناها لعقود مضت  ، فقد أرتأيت ومن ( باب الأعتذار ) لكل من أحترق لسانه ومعدته وغيرها ( .... ) جراء تناوله بشراهة الفلفل الحار ، أن أعيد له ومع الممنونية حلاوة الماضي ومذاقه عبر هذا الشلغم ( المايـــــع ) الذي يثلج الصدور ويشفيها كما يقول العلم ويزيد من حيوية الجسم ونشاطه ، والذي تردد أسمه بلغتنا الشعبية الدارجة على أسماع الكثيرين وهم في طريقهم للمدرسة أو للتسوق أو في جولة لهم مع صديق أو عزيز ، من أولئك الباعة المتجولين و صيحاتهم الشهيرة ( مايــــــــع .. مايــــــــع .. ) أو ( شلغـــــم مايــع و حلـــــو ) ، وكأن تلك النغمة الجميلة والساحرة التي كان يرددها بائعي الشلغم من الكادحين والمتعبين والمبتلين بمرارة الأيام والحكام ، لا زال صداها يصل أسماعنا رغم آلاف الأميال التي تفصلنا عنهم والتي نشتاق اليها والى ترنيمتها العذبة .

   وليس ذلك وحسب ، بل أن الذكريات عن الشغلم وباعته يَسحبنا و يُعيدنا الى ذكريات الطفولة ونحن في طريقنا للمدارس أو عند الخروج منها ، حيث نسرع لدفع مصروفنا اليومي الذي نحتفظ به لتلك اللحظات المنتظرة ونحن نقف أمام ذلك البائع وشطارته و خفة حركة يدية في تقطيع راس الشلغم ، وكأن سحره يدعونا اليه غير مبالين بتلك الصحون المصنوعة من معدن ( الفافون ) الرخيص فيما إذا كانت نظيفة أم لا والتي يملؤها بقطع الشلغم ، ولا بأيادينا الملوثة التي يحلو لنا أن نتناول من خلالها قطع الشلغم رغم وجود الشوكة ( الجطـــل ) الذي يقدم الينا والذي غالباً ما يكون قد علاه الصدأ والزنجـــــار !! وأستمرت حكايتنا مع الشلغم كذلك حتى في أيام صبانـــا وشبابنا ، فكنــا نختار محطات الأستراحة التي يحلو لنا أن نقف عندها ونحن نتجول في أزقة مدننا العراقية المتعبة في موسم البرد والشلغم ، لنتوقف نساءَ و رجالاً معاً في سنوات الأنفتاح النسبي في الحياة الأجتماعية خلال سنوات السبعينيات عند تلك العربة المزينة غالباً ببعض من الزخارف والخطوط الجميلة والتي تشدك اليها عن بعد ، إضافة الى ما تضفيه رائحة الشلغم المطبوخ والمصفف بطريقة هندسية يعلو ويسند بعضه البعض كجدار متلاحم لا يتزعزع رغم إنتقال العربة من مكان لآخر وسط ( طســّات ) الشوارع  ، فيما يتواجد في ( القدر ) الكبير الذي يتوسط العربة ما متبقي منه ، لكي ينضج بهدوء على نار هادئة و يتصاعد منه بخار عطر وحلو الشم ، يبعث فيك الدفء  والحماوة وأنت تقف في أجواء البرد الذي يلف المكان في تلك الأوقات !

  وأزاء هذا الحديث المقتضب ربما سيندفع البعض الى اللجوء الى الأسواق ثانية والبحث عن الشلغم وسط أكوام الخضروات الزاهية والجميلة التي تزخر بها الأسواق .. ويشرع بطبخه على الطريقة العراقية المعروفة والتي لا يشتهر بها سوى أبناء بلاد الرافدين ، حيث يُـــحلـّى عند طبخه بالدبس أو التمر بطريقة ذكية وبمقادير محسوبة ، حتى لا يتجاوز الحد المعقول من الحلاوة .

  وأشهر ما صادفني من أحداث عن الشلغم وصلابته ، هو ذلك الشجار الذي حدث ظهيرة أحد الأيام في سوق الخضارة في العشار بمدينة البصرة في نهاية الستينيات من القرن المنصرم ، حينما أختلف إثنان من الحمالين الفقراء اللذان كانا يتجولان في وسط السوق المذكور مع غيرهم الذين ينتظرون حمولة ما أو رزقاً ( مسواكاً ) ما ..  وهم يحملون سلالهم ( الجلــــّة )  المصنوعة من سعف النخل بحثاً عن رزق يسدون به رمق عائلاتهم المعدمة ، حينما أختلفا على الأولوية في نقل بضاعة أحد المتبضعين الأغنياء الى بيت الأخير وسيراً على الأقدام ، أملاً في الحصول على أجرة ( كروة ) مقبولة وربما مضاعفة إزاء خدمته تلك ، فما كان من زميله الآخر الذي خسر ( الصفقة المأمولة ) إلا أن يلجأ غاضباً الى زاوية ما من زوايا السوق المتفرعة .. وحيث ترمى بقايا الخضروات التالفة ، ويرمي زميله عن قرب في هامته من الخلف بـ ( راس ) شلغم ، جعل الأخير يلقي بــ ( الجلــــّة ) المليئة بـ ( المسواك ) أرضاً ويسرع متناولاً من أقرب محل خضروات رأســـاً آخراً من الشلغم ليرد به على زميله المعتدي ! وما هي إلا لحظات دراماتيكية متسارعة ، حتى أمتدت المعركة والتراشق بالشلغم الى أطراف أخرى ، ناصبت هذا الطرف أو ذاك من المتخاصمين ، حتى أن الكثير من المتسوقين والمارة قد أحتموا بالمحلات المتواجدة وسط صيحات الناس و تراكضهم وأنبطاح البعض منهم أرضاً ومنهم بطبيعة الحال صاحب ( المسواك ) ، خوفاً من تلك الضربات الموجعة التي قد تصيبهم من رؤؤس الشلغم النيئ المتطايرة !! حتى علق أحدهم حينها بعد أن أنفض الحدث بتدخل الخيّريـــــن على ذلك بقوله .. ( لو العركة صايرة بالشلغم المايـــــع .. جان نارهم تاكل حطبهم ) !

  أما ما حفظه لنا تأريخ العراق الحديث عن الشلغم وأهميته في الأحداث السياسية والأقتصادية معاً ، هو تلك البرقية التي بعث بها كما يقال أحد العاملين الساخرين في إحدى المجلات الفكاهية الصادرة أيام العهد الملكي ، من قرار حكومة نوري السعيد في تسعير البعض من المواد التموينية .. ومنها بعض الخضروات والفاكهة ، ولكن ليس الغالي منها بطبيعة الحال ، وكان الشلغم من أحد تلك الخضروات المسعــّرة ، حيث جاء في تلك البرقية الساخرة و المرسلة الى رئيس الوزراء المذكور :  تسعيركم الشلغم أثلج صدورنا !! وقد أذيعت تلك البرقية في حينها في نشرة الأخبار إبتهاجــــاً بالقرار الحكومي الفذ آنذاك والذي يبدو أن الحكومات المتعاقبة حتى يومنا هذا لم تنفك في أن تجد في ( لعبة التسعيرة ) لهواً وضحكاً على ذقون الفقراء والكادحين ، أملاً في أنتفاخ جيوب أخرى !  

  ربما أكون قد أوفيت بعض الشيء من عتاب الأصدقاء الذين أشتكوا من لسعات الفلفل الحار و الذي سيبقى حاراً على أمد الدهور .. رضوا بذلك أم لم يرضوا ، وأثلجت صدورهم بهذه المقالة الغير مسعـــّرة عن الشلغم وأحواله عبر تأريخ وأحداث الأيام ، والتي ستمر كسابقاتها دون رقيب أو حسيب أو تمحيص ، وليس كما يحلو للبعض الذي إعتاد على ثقافة التسعير لكل الأشياء ، حتى ولو على الكلمة وصانعيها ! 

بصــــــــــــــــرة – أهــــــــــــــــــــوار
مايس – آيـــــــــــــــــــــــــــار 2007