| عبدالجبار السعودي |

لَحْســَــة .. خروف

عبد الجبار السعودي

كان في يوم ٍ ما .. و ربما قد يعود ثانية، أن إعتاد المندائيون وكتقليد متبع ومتوارث منذ القدم .. فرضته طبيعة حياتهم من حولهم وطقوسهم وتواجدهم وملازمتهم للطبيعة التي عاشت وعاشوا معها منذ آلاف السنين في بلاد الرافدين وما جاورها، أن (يجنوا) خروفاً صغيراً لأعيادهم الدينية المختلفة ( عيد الخليقة ) أو ما يسمى بالعامية عندهم بعيد البنجة، وكذلك العيد الكبير ( دهفا ربـــّا ) والعيد الصغير ( دهفا حنينا ) أو لمناسبات أخرى لاعلاقة لها بهذا اليوم أو ذاك، وذلك قبل أشهر من حلول هذه المناسبة أو تلك.

وكانت تلك الضحية ( المدللة ) التي تنحرُ لاحقاً إحتفالاً بالمناسبة السعيدة، تلقى رعاية خاصة في المأكل والمشرب والظلال في أيام الصيف اللاهب، لكي تغدو وتصبح لاحقاً و بمرور الأيام ممتلئة و مكتنزة تماماً باللحم الطري الذي لا يضاهيه أي لحم ٍ لخروف معروض في محلات (القصابين)، التي لايرتادوها على الأطلاق مفضلين عملية النحر بأياديهم تجاوباً مع الموروث الديني القديم الذي ساروا عليه ليومنا هذا! أو أن ذلك ( الطلــــي ) لاتجده حتى في أماكن بيع الأغنام المسماة عامية ً بـ ( الصفاه ) !

وتزامناً مع كل ذلك الإهتمام وتلك الرعاية، كان هنالك تناغماً وغزلاً تفرضه طبيعة المكان والتواجد والرعاية ما بين المالك والمملوك !

غزلٌ غير واضح المعاني وإيماءات .. و حركات .. من المملوك، لا تترجى الرحمة والعطف التي لا يعرفها ولا يفهمها بطبيعة الحال، بل تتعداها الى المداعبة أحياناً والى العراك و (المناطحة) أحياناً أخرى ! ومن تخونه الشجاعة في لحظة ما .. أمام هجمة (الطلــــي) المدلل ، تراه يهرولُ مسرعاً الى أقرب زاوية أو جدار ٍ يحتمي به من ذلك الغضب وتلك الرعونة الحيوانية !

وسط هذه الإجواء التي كانت تلفُ حياة الناس، إكتفى (أبو جبار) وعائلته بواحدة من تلك ( المملوكات )، لكي تتواجد معهم و تحيا و تتربى في زاوية ٍ أعدّت خصيصاً ومؤقتاً في سطح البيت العلوي الكبير الذي كان يتسع للجميع !

وفي ليلة ثقيلة برطوبة المناخ .. ومثقلة بهموم الأيام وقسوتها في البحث عن لقمة العيش الهنية ، والأمل الذي طال إنتظاره بأيام آخرى أكثر أماناً وسلاماً للباحثين عن أحلامهم وسط معترك مشوار الحياة وهي تمـرّ وتنساب برتابة غير معتادة، يقلقها ويعكـّر صفوها بشكل شبه يومي غزوات فاشيي السلطة المفاجئة و زوّارالليل وتخرصاتهم الوقحة وأسئلتهم العفنة كعفونة عقولهم حتى يومنا هذا! وسط تلك الأجواء، ألقى (أبو جبار) بجسده النحيل والمتعب منذ صغرعمره والسنين التي أمتدت لما بعد الستين عاماً على وسادة مصنوعة من ريش الطيور، في ليلة من ليالي صيف البصرة وبكل ما تحمله ساعات تلك الليالي من ندى ً بارد ٍ (يــُــثلج) الخدود والجبهات المتعبة .. الملقاة على تلك الوسائد التي يتفــنن المتعبون و نسائهم في صناعتها، في تقليد قديم يمتد لمئات وربما لآلاف السنين، والتي لايتضجــّر من يضع رأسه عليها ويحاكيها بكلمات نابية، إلا آلام تلك الوخزات الصادرة من أنصال ريشها الوقح والمشاكس، والذي يستفز النائمين الحالمين .. في ليل ٍ يضفي عليه برد الندى و صفاء السماء ونجومها وعطر الجنوب المتميز برحيق النخيل و حرائق الحشائش المنبعث من بساتين البصرة وأريافها التي تطوق المدينة من كل مكان، لوناً وأجواءً خاصاة تكاد تنفرد به، لا الأرض والطبيعة وما حولها، بل تشابك حياة البشر وتقاليدهم وطقوسهم التي يؤدونها طوال مراحل ومشوار العمر الذي يحيوه و يعيشوه !

إنبثقت خيوط الفجر ليوم ما من أيام الصيف الندية، ولاحت ساعات الصباح الأولى وما بعدها ، وترك أسرّة النوم من كان على سطح البيت من أفراد العائلة، سوى (أبو جبار) الذي بقي مستغرقاً في نومه لوقت لاحق غير محسوب في دقائقه .. عاش خلاله لحظات متعة و خيال كاذب ، ما بعده من خيال ، صاحبه الى أيام خلت .. جمعته مع العشيقة التي مضى معها وأحيا سنوات عمره الشيقة والمتعبة معاً !

شعرَ وهو يغفو مع ندى الصباح، أن شيئاً ما دافئاً .. يُداعب إذنه وما تحتها من رقبته المنكشفة من الغطاء الذي به يلتحف ! وفي لحظات نشوة ومتعة وإبتسامة مع النفس والروح والخيال الذي لايوازيه خيال، إرتخى كثيراً في نومته، وأسلمَ جسده المتعب أكثرفأكثر الى تلك (اللحمة) الدافئة التي راحت تتمادى بكل وقاحة في إندفاعها وشغفها الكبيربما هو أمامها، حتى تساءل وهو مغمض العينين في غفوته تلك التي طالت، عن السر الذي دفع (أم جبار) في مثل هذه الساعة من الصباح في التمادي بهذه الطريقة التي لم يألفها منذ زمن مضى ..! وهي التي تنهض مبكراً كل يوم وبكل العنفوان المعروف عنها، لكي تعد فطوراً لذيذاً لأبناءها المتوجهين صوب صحاري البصرة وما تكتنزه من ثروات حيث كانوا يعملون !

مضت دقائق معدودات، حتى تطور الحال في أن يتلقى أبو جبار ( عضّة ) مؤلمة هذه المرّة في إذنهِ و ( نفخة ً) لصوتٍ غريب وغير مألوف في ساعات الصباح تلك، أفزعه وجعله يقفز مرتعداً من سريره المصنوع من (جريد النخل)، دافعاً وجه خروفه المدلل بيده بعيداً عن وجههِ، ولاعناً إياه بكلمات تذمرٍ وشتيمة في ساعات الصباح الملعونة تلك التي جمعته مع مخلوق ٍ يبحث عن باقة برسيم طازجة أو حفنة شعير، لكي يطعم بها معدته الخاوية، لا عن إذن ٍطرية خلقت لكي يداعبها ويستمتع بها بني البشر، لا حيوان ٍ كالخروف معدودات أيامه !

وفي تلك اللحظات العصيبة، وبدلاً من أن يتراجع خروف البيت المدلل و يرتد هارباً و خائفاً من مالكهِ الذي دفع به بعيداً وهو ينهض من سريره، بادرَ بكل الوقاحة، وبرغم الدلال الذي تلقاه من أهل البيت، بهجوم شرس و وقح وبــ (نطحة) قوية من قرنيه الفتيين بإتجاه ذلك الإنسان المسالم، أصابت راحتي يديه المدافعتين ببعض من الخدوش والجروح ..!

وبدلاً من أن يهنأ بلقمة خبز التنورالحارالمعد للفطور بأيدي زوجته و رفيقة حياته، أمضى (أبو جبار) ساعات الصباح الأولى يداوي الجروح و روحه الحالمة من كل ما أصابها من ضررٍ ومن أوهام ٍ خادعة .. ذهبت به بعيداً وكلفته الكثير في أيامه اللاحقة التي لازم من خلالها البيت، متوعداً فيها (خروفه) المدلل بقادم الأيام من أعياد ومناسبات .. وسط دلال حقيقي هذه المرة من زوجته التي لم تبخل عليه بكلمات المودة والمحبة والعناية بهموم قلبه المجروح ، قبل يديه !

مضى أكثر من ثلاثين عاماً على تلك الحادثة الطريفة و (الخالدة)، في أذهان من يتذكرها جيداً ومن عاشها ومن سمع بأحداثها من المقربين وهي تحاكي فيهم معاني ما عاشوه ويعيشوه من (نعمة) و (طمأنينة) زائفة، كلفتهم ولا تزال، لا آذانهم الطرية المتلهفة لمداعبة المحبين الحقيقيين و لسماع تغاريد الصباح ونغمات فيروز الشجية الغائبة، ولا رقابهم المتطلعة للآفاق المشروعة للعيش الرغيد، بل و ربما أكثر وأكثر...

في حياة ٍ لم يعد فيها للـ (الخدر) و (التشتت) و (السكون) و (المداعبة الزائفة) مكاناً ومعنىً و ذوقاً .. و حيث تسحقُ فيه عُـقب وأفكار الظلاميين بقسوة وهمجية و رعونة متخلفة كل يوم ، كل الأحلام والأماني اليومية المشروعة للعراقيين الكادحين المتعبين !
08 – 06 – 2007