موقع الناس     http://al-nnas.com/

الى الذين نهبوا وينهبون الوطن كل يوم ويستبيحون نعمته ، أهدي حكايتي ..

أبو جبــار .. أبو تحسين ، نبض الأمانة والوطنية الصادقة !
 


عبد الجبار السعودي

basrahahwar@hotmail.com

الجمعة 7/4/ 2006

لم يكن إبن ذلك الريف الجنوبي وأهوار الجبايش ، سياسياً محترفاً .. ولا حتى هاوياً يسعى الى فهم المبتدأ والخبر في عالم السياسة ، فقد كان يقول دوماً ، عندما يُسأل عن انتمائه السياسي : أنــا وطني .. ثم يبتسم !
بدأ يكدح وهو صغير ٌ ، متنقلاً مع والده صائغ الذهب بين القرى والمدن التي تقع على ضفاف الأنهر والأهوار في جنوب العراق ، طلباً للرزق والعيش الشريفين ، عارضين بضاعتهم من المصوغات الذهبية والفضية والمصنوعة بأياديهم الماهرة على سكان القصبات والمدن التي يمران بها. كانا يقضيان أسابيعاً وشهوراً متنقلين بمركبهم الشراعي الكبير قبل أن يعودوا ثانية الى الجبايش حيث يعيشان هناك. وقد طبعت تلك البداية القاسية بصمتها الواضحة على شخصية وطباع وسلوك وأخلاق ذلك الشاب الصابئي المندائي الجنوبي الأصل ، وأثـّرت لاحقاً في سيرة حياته . وحين انتقل بعد ذلك بسنوات الى المدينة لكي يمارس مهنته بمهارة كبيرة وملحوظة ، ظلت تلك السمات التي فرضتها الطبيعة والعلاقات الاجتماعية الريفية السائدة من عفة واستقامة وعزة نفس وإباء وشهامة ، كما هي لم تتغير وبقيت ملاصقة لشخصيته ، حتى بعد أن ضاقت أمامه سُبل العيش والرزق في مرحلة ما من مراحل العراق السياسية ، ففي عام 1964 وبعد أن اشتدت أزمة الوطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، غادر الى مدينة كركوك ليعيش هناك مع أسرته طلباً للرزق ولتوفير لقمة العيش الكريمة ، وبقي هناك لست سنوات عاد بعدها الى مدينته البصرة ، وظل يعمل هنا وهناك وسط صاغة الذهب من أقارب ومعارف لكي يوفر مصروف البيت اليومي ، ورغم خبرته الكبيرة في عالم الصياغة، فقد سكتت يداه عن العمل .. بسبب تعب السنين وضنك العيش واعتلال الصحة وتقدم العمر ، وعندما اشتدت أزمة العراق السياسية في نهاية السبعينيات .. واشتعلت بعدها الحرب مع إيران، ازداد الأمر سوءاً .. وأصبحت لقمة العيش مُرة وهزيلة .. وتكاد صعبة المنال بالنسبة الى شخص مثل أبو جبار لا يملك سوى تاريخاً مجيداً في صنعتهِ ! وفي المقابل ، وكما هو الحال في كل الحروب ، فقد اغتنى الكثير من التجار وعلى اختلاف صنوف أعمالهم من الفوضى التجارية السائدة آنذاك .. ومن مضاربات السوق وشراء البضائع المنهوبة من المدن الايرانية الحدودية المحتلة ووجدها البعض فرصة كبيرة لا تعوّض للإثراء السريع بأي شكل من الأشكال ! وانتعشت فئات اجتماعية عديدة .. لم يكن يخطر في حسبانها وفي تصوراتها المستقبلية أن تثري وتنمو بهذا الشكل السريع والمذهل ! وأصبح أفراد ٌ من تلك الفئات ( وجوهاً اجتماعية ) بين ليلة وضحاها ، بما أضفته عليهم عمليات شراء الأموال والبضائع المسروقة والمنهوبة والمباعة بأبخس الأثمان من ثروات هائلة ، ما كانت لتتوفر لولا ( نعمة الحرب ) التي أشعلها طغاة العراق ضد الجارة إيران ، والذين كان لأذنابهم حصة الأسد من كل الثروات التي نهبوها واغتنوا من خلالها ! أما فئات الشعب الكادحة والمسحوقة فقد أجبرت على دفع أبناءها عنوة الى ساحات القتال ليكونوا وقوداً لمحرقةٍ وجحيمٍ أسود عاشهُ العراق آنذاك ، ولتضيف اليهم معاناة جديدة وقاسية الى جانب ضنك عيشهم وفقرهم المدقع !
جاءت الى ( أبو جبار ) فرصة ثمينة ( حسب مفهوم السوق السائد ) ووسط تلك الأجواء التي كان يعيشها ، لكي يقول وداعاً للعوز والحرمان وللصراع النفسي والمعيشي الذي كان يعانيه مع أسرته الكادحة ، ففي يوم صيفي وحار من أيام البصرة ، والحرب في أوج بدايتها واشتدادها ، وحيث كان يقف عند زاوية من سوق الصاغة في العشار من مدينة البصرة ، جاءه إثنان من منتسبي القوات الخاصة بزيّهم العسكري المعروف ، عارضين عليه حقيبة من الذهب لا يقل وزن حمولتها عن( 25 ) خمسة و عشر ون كيلوغراماً من الذهب مقابل ( حفنة من المال ) قدرها 5000 خمسة آلاف دينار عراقي فقط ، يعطيها لهم لكي يخلـّصهم من ( شرّها ) كما قالا له ، ولكي يصبح هو بعد ذلك مالكها الشرعي ! وبعد أخذ و رد واستفسار عن طبيعة الذهب ومصدره و وسط إلحاحهم على بيعه إليه هو وحده ، حتى ولو بنصف المبلغ الذي طلباه في البداية ، رفض أبو جبار ذلك ( العرض الثمين والغريب ) ، وقال لهم بالحرف الواحد :
( ما أريد أن أكون حرامي تالي عمري ) ، وطالبهما بإعادة المال الى أهله لأنه ( حلال الناس ) ولا حق ولا نعمة ولا بركة لمن يبيعه أو يشتريه ، ولا يرضى بذلك ، لا الله ، ولا الدين ولا عباده ! وبعد أن غادر الضابطان ( بحمولتهما ) وهما مستغربان ومستهزئان الى وجهة أخرى ، مستقلين سيارة عسكرية ملطخة بالطين ! عاد ( أبو جبار ) ظهراً الى البيت بعد أن أغلقت المحلات أبوابها ، لكي يأخذ قسطاً من الراحة ، بعد عناء من الوقوف والتجوال هنا وهناك .
حكى لنا والدي تلك الحكاية بعد أن عاد الينا سيراً على الأقدام لأكثر من نصف ساعة ! جلسنا نتناول أكلة الغداء الشهية المعروفة بـ ( المسموطة ) * ، وكان يتحدث الينا بحماسة شديدة ممزوجة بغضب وانفعال شديدين وبعزة نفس عالية ، وكيف أنه نهرَ أولئك الحرامية كما سمّاهم وكيف أسمعهم وهم يقفون أمامه باستغراب ، كلمات عن الحق والحلال والأمانة ! وعندما انتهينا من وجبتنا الشهية تلك ، كانت دموع ( أبو جبار ) تسيل على خديه لتمتزج مع العرق المتصبب من جبهته بسبب الحر وانقطاع التيار الكهربائي ، وقال بهدوئه المعروف عنه وهو يمسح وجهه بمنديل :
لقد كنت في سنواتٍ خلت ْ ، أيام الحكم البريطاني والعهد الملكي .. أصوغ كثيراً لأناس أصدقاء لنا في المحمرة وعبادان في إيران ، وكانت مصوغاتي المعروفة ( بالفلكري ) ** تذهب اليهم عبر صاغة آخرين كانوا يحفرون على تلك المصوغات إسم صياغة ( شامي ) حيث كان إسم أبو جبار . وأضاف : وعندما جاءني اليوم ذلك الضابطان وعرفت أن الذهب المحمول بحوزتهما كان مسروقاً من بيوت الناس الأبرياء ، والذين تركوا بيوتهم طلباً للنجاة بأرواحهم دون أموالهم وحلالهم ، تذكرت كل أولئك الناس الضحايا .. وكل الذين كنت يوماً ما أصوغ لهم بكل ما ملكت يديّ من فن وخبرة ومهارة !
عاش ( أبو جبار ) عفيفاً ومكافحاً من أجل قيم وأخلاق تعلمها في خضم الحياة وصراعها ومن الطبيعة الوادعة التي تربى وعاش فيها ، وأبى أن لا تلطـّخ تلك القيم النبيلة بما فرضته قيم وأخلاق السوق وتجار الحروب ومشعليها من فاشيين وطغاة مجرمين !
غادرنا خلال تلك الحرب السوداء المشؤومة وهو يُمـّني النفس بأن يرى نهاية لها وللطغاة المستبدين وبقيت ذكراه طيبة وغنية وحية في نفوسنا حتى يومنا هذا .. نستمد منها ما هو نقي و نبيل وأصيل ! وفي هذه الأيام تنهض ذكراه الأبية ومأثرته الأخلاقية الرفيعة في الأمانة والصدق والوطنية من جديد ، لتتجسد في شخصية ذلك الإنسان المكافح والكادح ( أبو تحسين ) الذي أصبح يوماً بعد يوم متصدراً لصفحات الجرائد و وسائل الإعلام المرئية وعبر كل القنوات التليفزيونية العالمية ، حينما أمسكَ بصورة الطاغية المنهار بعد دخول القوات الأمريكية البريطانية الى بغداد يوم التاسع من نيسان / أبريل 2003 أمام إحدى المؤسسات المدنية في بغداد .. وانهال عليها ضرباً بنعلهِ صارخاً بأعلى صوته :
( هذا اللي دمّر العراق .. هذا اللي قتل شبابنا ) ، في حين كان هناك وفي نفس اللحظات ، ممن أضنته سبل العيش وحمل في قلبه حقداً ونقمة على الطاغية ونظامه أن ْ سارع بكل ما أوتي من قوة وقدرة على حمل كل ما وقعت عليه يديه في إحدى مؤسسات الدولة التي وظفها الطاغية لخدمة نظامه وحاشيته ومرتزقته .
وقف ( أبو تحسين ) ثابتاً في مكانه بجرأة أمام كل الكاميرات التي كانت تمر أمامه ليعبّر بصوته العفوي الثائر عن صورة العراقي الحقيقية بعيداً عن التشويه والتحريف الذي لجأت اليه بعض وسائل الإعلام على مختلف صنوفها ومشاربها . وقف ، لكي ينطق بضمير العراقي المظلوم الذي عانى الظلم والحيف والجور والعوز والحرمان في زمن الطاغية وزبانيته .. ولم يهتز أمام كل المغريات المتاحة له حينها من حاجيات وبضائع وأموال .. ولكي يرسم لنا من جديد صورة حية عن ابن العراق الذي تربى في كنف تربة وطنية مخلصة وصادقة وأفكار نبيلة وعريقة تمتد جذورها عميقاً في تاريخ وكفاح الشعب العراقي.
صورتان رائعتان لا تختلفان في معنييها العميقين بعد كل هذه السنوات الطوال .. صورة ( أبو جبار ) ابن الجنوب العراقي وأهواره الأزلية منذ القدم .. وصورة المناضل القديم والابن البار للوطن ( أبو تحسين ) و وقفته البطولية الشامخة بكل معانيها الإنسانية والنضالية الرائعة، وصوته الهادر الذي سيبقى خالداً يتردد صداه في كل أرجاء الوطن والمعمورة معــاً !!


 


* ( المسموطة ) أكلة شعبية معروفة لدى عامة الناس في جنوب العراق ، تصنع مرقتها من السمك المجفف .
** ( الفلكري ) صياغة معروفة ومشهورة لدى الصاغة المندائيين تتطلب مهارة ودقة عاليتين لا يجيدها إلا القلائل .


المقالة هذه سبق وأن نشرت لعامين متتاليين في العديد من المجلات و المواقع الألكترونية إحياءً لذكرى التاسع من أبريل 2003.