| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالجبار السعودي

basrahahwar@hotmail.com

 

 

 

                                                                                     الجمعة 20/7/ 2011

 

جَدّتي (دهوا) و جرائد.. طريق الشعب!

عبد الجبار السعودي

هي جدّتي أم والدتي، أسمُها (دهوا) و باللغة المندائية تعني (عيد) والعيد الكبير (دهوا رَبـّا) يمرّ هذه الأيام على الصابئة المندائيين وسط أماني كبيرة بأن يعمّ السلام ربوع الوطن لكي يعيشوا و يهنئوا و يُبدعوا من جديد..

هيَ أمّ لأربعة بنات و ولد وحيد، أسموه عند ولادته (هلال) لكنه في السنوات الأولى للمدرسة و لكونه مجتهداً و ذكياً، أقترح معلّمه آنذاك في إحدى مدارس قضاء سوق الشيوخ على والديه أن يسمّونه (طالب) لأنه طالبٌ و شغوفٌ في التعلّم والدراسة بشكل ملفت للنظر، فتحقق للمعلم ما أراد !

ولِدَتْ (دهوا) في أهوار الحمـّــار وتحديداً في ناحية الفهود في العقد القبل الأخير من القرن التاسع عشر،  لكنها عندما رحلت وغادرت عالمنا  في عام 1978 في مدينة البصرة، كان عمرُها يقارب التسعين عاماً. وكبقية نساء تلك العقود العجاف التي شهدت عائلاتهن ترحالاً و هجرات في بقاع الجنوب بحثاً عن الأستقرار و طلباً للرزق، كانت (دهوا) وهي واحدة من أربعة أخوات، أكثرّهن نباهة و فطنة و ذكاءً وفطرةً في قول الشعر و نظمه، و حيثُ كانت تـُسمعنا بعضاً منه من حين لآخر عند أصغاءنا لحكاياتها الشعبية الممعة و البليغة، و تنهرنا لاحقاً حين نضحك على مفرداته الساخرة واللاذعة!

كان يُقال عنها أنها أمرأة (هَبــّة ريح)  أي تتدبر كل شيء ولا تفوتها شاردة ما أو واردة تقال أمامها إلا و تقف عندها وتقول فيها ما تريد بجرأةٍ تضاهي بها جرأة الرجال!  ولأنّ وحيدَها (طالب) قد أبتلى بملاحقة سلطات العهد الملكي البائد له، يوم كانَ طالباً في كلية الحقوق و يكادُ لا يُفارق مخفر الشرطة في قضاء سوق الشيوخ إلا و يزوره كل أسبوعين و يحلّ ضيفاً على منتسبيه، فقد أنهكها شيئاً فشيئاً عذابُ تلك الأيام و الهموم و الخوف و القلق في كل مرّة يطأ فيها عتبة البيت الكبير رجال الشرطة  وهم يستدعون أبنها الوحيد و يقتادوه أمام أنظارها و أنظار والده بتهمة تحريض الفلاحين على السلطات آنذاك وقيادته لتظاهراتهم! و لهذا فقد إعتادت في تلك الأيام أن تضع البطانية و الوسادة (المخدّة) بالقرب من باب البيت من الداخل، حتى لا ينسى إبنها أن يصطحب معه تلك (الرزمة) المطوية و الضرورية لنومه في باحة موقف الشرطة، والتي كانت تعطـّرها له على الدوام بالبخور حتى لو كان ضيفاً مؤقتاً على أهلهِ في البيت!

لا زلتُ أتذكر وأنا مستيقظ في تلك اللحظات من فجر ليلة الجمعة التي هرب فيها أبنها المحامي مع مجموعة من رفاقة من دارهم الواقعة آنذاك في محلة (أم الدجاج) في العشار صوب بساتين البصرة بأتجاه إيران بعد أيام من أنقلاب 8 شباط الدموي عام 1963 حاملاً معه (صرّة) ملابسه وحيث أقلّتهم سيارة ما... صوب تلك الوجهة المسكونة و المتحفزة مع الأحداث.

كنتُ حينها في العاشرة من العُمر، لكني لم أزل أتذكر تلك اللحظات و ذلك العناق وتلك الدموع التي أنهمرت حينما غادرت تلك السيارة في رحلةٍ الى المجهول، و أتذكرُ تمتمات شقيقته و أمّه وهي ترمي خلفه (طاسة تلو الأخرى) من الماء دُعاءً لسلامته أملاً في عودته! و دون أن أدري في تلك اللحظات العصيبة  وجدتُ نفسي لاحقاً في أحضان جدتي وهي تذرف دموعها بألمٍ كبير وسط صمتٍ يلفّ البيتَ ومن فيه من أحياءٍ في ساعات الليل الباردة تلك!

توالت السنين والأحداث وهي تحمل مخاضات عسيرة على الناس و الوطن و عاد أبنها حيـّاً سالماً بعد عمليات التسليم التي قامت بها سلطات الشاهنشاه الأيراني الحاكمة للشيوعيين العراقيين الى السلطات العراقية الحاكمة بعد ألقاء القبض عليهم في مواقع مختلفة في إيران ، ليقضى بعدها ما يقارب الأربعة أعوام في سجون مختلفة حتى صدور العفو العام عنهم في عام 1968.

السنوات اللاحقة عاد فيها الخال (طالب بدر) لممارسة مهنة المحاماة في البصرة وفي دور المحاكم فيها، ولأن عذابات و فراق السنوات الصعبة كانت أليمة عليه وعلى أمـّه وهو وحيدها، فقد سكنت عندهُ في البيت الى جانب زوجته و أطفاله، لا تقوى على فراقه هذه المرّة مهما بلغت الأحوال، تاركة تلك البقاع الغنية من الأرياف التي تربّت وعاشت فيها!

كنتُ ألازم الخال أبو سلام خلال أيام العطلات الصيفية و غيرها في مكتبه الواقع في سوق التجار الموازي لشارع المغايز الشهير في العشار، وكانت رحلاتي معه الى المحاكم صباح كل يوم، ممتعة في تفاصيلها، وفيها تواصل و أطلاع وتعارف على كبار المحامين و القضاة وما يتداولوه من أمور قانونية لم أكن أفقه منها الشيء الكثير سوى أصغائي لها وما تفرزه أيام مهنتهم تلك  من متاعب و شجون .. وما تقدمه من دروس بليغة وسط أجواء تختلط فيها هموم الناس الشخصية و العامة مع هموم من يدافع عنهم وهموم الشارع البصري وأحداثه التي كانت تغلي بهدوء!

ظهيرة إحدى أيام الصيف اللاهبة عُدنا معاً الى الدار بعد جولة لمتابعة عدد من الدعاوى في محكمة بداءة البصرة في محلة البصرة القديمة . كانت أجواء البيت الباردة تستدعيك بعد تناول طعام الغداء الى أن تخلد الى النوم مسرعاً، دون أن تلتفت الى ما يوضع تحتك من فراش للنوم، ففي تلك اللحظات و في ذروة ساعات الظهيرة و حيث تنتعش أجواء البيوت وسط هدير المبردات أو مكيفات الهواء دون أي قطع للتيار الكهربائي، تسارع لكي تلقي بنفسك في ذلك النعيم المنعش وأنت تضع رأسك على الوسادة أستعداداً لجولة أخرى من ساعات المساء التي يختلط فيها العمل مع المتعة لاحقاً فيما يتبقى من ساعات الليل حيث يتم قضاءها في نادي التعارف في منطقة الخورة الغنـّــاء بشوارعها و نواديها!

تحسّسّ أبو سلام (الجودلية) الدثيرة و السميكة التي وضعت تحته لكي يخلد للنوم لساعات معدودات و شعر أن حشوة ذلك الفراش وهو يتقلب عليه يميناً و شمالاً، يُصدر (خرخشة) و (أصواتاً) خافتة لم يكن ليشعر بها من قبل في سابق الأيام! ألتفت لحظتها الى شقيقته (فضيلة) متسائلاً عن سرّ هذه (الجودلية) وما تحمله حشوتها، فأجابته:

خويــه .. أمـّك نايمة، مِن تفز من النوم أسألها ، هيّه اللي خيطتلك هاي الجودلية! أكتفت شقيقته بهذا الرد دون مزيد من التفاصيل والتي كانت تعرف عنها بكل تأكيد!

في ساعات العصر وقد أستيقظ جميع من كان راقداً وقت القيلولة، أنتبه أبو سلام فجأة وهو يهمّ لدخول الحمّام، الى تلك الزاوية الضيقة تحت سـلــّم البيت وحيث كان يضع في إحدى الصناديق أعداداً كبيرة من جريدة طريق الشعب التي كانت تصدر أيام السبعينيات من القرن المنصرم و التي كان يختار الأهم منها لأحتواءها على مطالعات و شروحات قانونية و كتابات لمحامين و قضاة عراقيين معروفين يتولاها هؤلاء، فوجد أن ذلك الصندوق فارغ ٌتماماً من محتواه ! فأسرع مذهولاً  بسؤاله وهو في حال من الأرتباك :

فضيلة خويـــه، وين الجرايد اللي جوّه الدرج ؟! فأجابته وهي تهيأ صحنـــاً كبيراً من ( الرگـّي ) البارد :

مو گتلك من تگعد أمّك أسألها !

  لم ينتظر أبو سلام كثيراً، فأسرع عائداً الى (الهول) وحيث كانت أمه ( دهوا ) تنتظر مجابهة مع أبنها الوحيد الثائر دوماً منذ أيام ريف سوق الشيوخ وحتى هذه اللحظات :

أم طالب يُمـّه، خو ما ذبيتي الجرايد بالزبالة ؟ أجابته وهي تلف عصّابتها على رأسها :

و شلون چانت يُمــّـــه نومتك اليوم الظهر؟

أعاد عليها السؤال ثانية بإنزعاج واضح هذه المرّة :

وين صارن الجرايد أريد آخذ قسم منهن ويّاي للمكتب؟

في هذه اللحظات شدّ الجميع في تلك اللحظات هذه الأحاديث المتبادلة التي كانت تحمل مفاجأة و مفارقة لنا، حيث تدّخلت شقيقته حينها قائلة:

خويـــه جرايدك اللي جامعهن كل هاي السنين نِمِت عليهن الظهرية وأنت ما تدري!

لحظات ترقب و ذهول عَلَتْ وجوه أهل البيت. صمتَ و سكتَ فيها الخال أبو سلام، حتى أطلق الجميع ضحكات مدوّية في الهول وهُم يشاهدون الجودلية مرفوعة أمامهم، متلمّسين لما بداخلها من حشوةٍ صنعتها جدّتنا (دهوا) من جرائد طريق الشعب العزيزة في محتواها عند الخال أبو سلام ! وعندها ، نطقت لأبنها قائلة:

- كل هاي السنين يا يُمّه وأنت شايل وجع ضلوعك .. و رِدت اليوم أذكرك من چنت تنام عالگاع بالسجون! هاي حصّتكم من الجرايد .. مو بس تقرون بيها وعيونكم أمبحلگه ، يجي يوم وتفيد روسكم و أرواحكم و حتى ضلوعكم!

رحلت جدتنا (دهوا) بعد عام من تلك الحادثة ومعانيها والتي صنعتها في آخر سنوات عمرها، ولم يكن وحيدُها حاضراً مراسيم دفن والدته و مراسيم العزاء، فقد كان في ترحالٍ دائم لعلاج عيونه المريضة و المتعبة ولم يهنأ لسنوات طوال في صحةٍ وعافية دائمة و مستقرة، حتى رحل مغتربـــاً عنا في بلاد المهجر كندا في مقتبل عام 2007 مودعاً رحلة عمرٍ شقيةٍ وغنيةٍ و بليغةٍ لم ننسَ أحداثها!

 

تمـــــــــوز 2012
 

 


 

Counters