نسخة سهلة للطباعة
 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالجبار السعودي

 

 

 

 

الأحد 19/3/ 2006

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 

 

حمامة " هنـــــــــــوة " المذبوحــــــــة !

 

عبد الجبــــــار السعودي
basrahahwar@hotmail.com

لم تكن الفترة التي تفصل بين الثامن من شباط الدموي من عام 1963 والثامن من آذار من نفس العام متباعدة في أيامها وشجون أحداثها وتفاصيلها المليئة بالأحزان والفجائع والدم المراق على أيدي الإنقلابيين وعصاباتهم المنفلتة التي راحت تعبث بأرواح بني البشر نساءً و رجالاً ، شيوعيون و وطنيون وكل الذين هتفوا لثورة 14 تموز وما حققته من منجزات لامست حياتهم المعيشية والثقافية والإجتماعية .
عصيبة و مريرة تلك الأيام وما تلاها ، ولمن عاشها ولا يزال يحتفظ في ذاكرته الخصبة في بعض من مجريات الأحداث ومعانيها ، وخصوصاً تلك التي ترتبط بالمناسبات الوطنية والعالمية التي ذاق طعم زهوهــــا عموم أبناء الشعب العراقي أيام الحكم الوطني ، بل وقد طبعت تلك المناسبات ومنها يوم الثامن من آذار ، يوم المرأة العالمي ، بصماتها الواضحة على حياة المرأة العراقية وتطلعاتها الطموحة في أن تنفض عنها آثار العقود الطويلة من التخلف والجهل والمحاصرة وآثار المفاهيم والعادات المتخلفة والعشائرية التي لازمت حياتها ومرارة الحدود التي رسمت لها مع سبق الإصـــرار !
عاشت " هنـــــــوة " شبابها الجميــــــل وهي يتيمة الأب مع والدتها في بيوت حارة شعبية في وسط مدينة البصرة وتلقت تعليمها الإبتدائي والمتوسط في مدرسة قريبة من المحلة الشعبية التي عاشت وترعرعت فيها ، ثم واصلت تعليمها في مدرسة الفنون البيتية في نفس المدينة .
ولم تكن " هنــــــوة " بعيدة عن أحداث ثورة تموز وما تلاها من نهضة شعبية عارمة .. وعامرة .. أضفت على حياة الشبيبة العراقية حينذاك روحاً من الأمل في يواكبوا حياة التطور العلمي والإجتماعي ، وأن يكونوا قدوة متعلمة وناهضة لأجيال متعبة من النساء والرجال ! ولكون " هنـــــوة " تعيش في كنف عائلة ليست بعيدة عن أحداث ثورة 14 تموز وما تركته من آثار كبيرة على حياة الناس العامة والخاصة ، فإنها واكبت كل تلك الأحداث العارمة التي عمت الوطن وساهمت بشكل كبير و واضح في رابطة المرأة العراقية و ساعدت الكثير من نساء محلة القشلة في أن يتعلمن مهنة الخياطة التي تجيدها بكل إتقان ، بل و تبدع فيهــــــا وترسم و تطرّز وتخيط بيديهــــا الطريتين الناعمتين أحلى الرسوم الملونة !
رسمت وهي تدندن بصوتها العذب على ورق شفاف صورة لحمامة السلام التي إبتدعها الفنان العالمي بيكاسو عام 1947 وأصبحت في بداية الخمسينيات رمزاً للسلام العالمي ، وأخذت أياديهـــــا تصنع نماذجاً من القماش الأبيض لتلك الحمامة الخالدة التي تغنت بها الشعوب من أجل عالم ينبذ العنف والحروب والإضطهاد وينتصر للإنسان ! وسهرت " هنـــــــوة " ليـــــــال .. لكي تخيط تنـــــورة خضراء طويلــــة ( كلوش ) تحيط حافتهـــــا السفلى تلك الرسوم والنماذج الجميلة لحمامة السلام البيضــــــــــــاء ! وكان وقع ذلك اليوم الذي خرجت فيه الى الشارع بتنورتها الجميلة والمميزة كبيراً لكل من كان يشاهدها وهي تسير في محلتها الشعبية ، في أوقات وأيام و سنوات لم يكن هناك فيها إنتهاك وقح و فض لحرية المرأة فيما تريد أن تتعلمه و تدرسه أو تنطق فيه أو فيما تسمح به الأحوال المنفتحة آنذاك في إرتداء الملابس المطلوبة . و رغم العيون المتربصة من هنا وهناك ، فإن حالة السلام الإجتماعي الذي عم الوطن حينذاك قد جعل من "هنــــوة " وغيرها تعيش أيــــاماً من الإطمئنان والسلام ، دون أن ينغص حياتها وحياة العائلات أي طارئ مقيت ومنبوذ أو أية أفكار ظلاميـــــة تمنع عليها حريتها الشخصية فيما تقول وفيما تتعلم ، حتى جاءت أيام 8 شباط السوداء وأحداثها المتسارعة لكي تقلب الصورة الوردية التي صبغت حياة الناس والمجتمع الى قتــــــامة سوداء أريقت في ثنايـــــاها دماء طاهرة وأنتهكت حرمات العائلات وعموم الناس في حرياتها الشخصية والعامة ، ولم يعد أمام تلك الهجمة المتوحشة والعابثة لميليشيات الحرس القومي إلا أن تنكفئ الكثير النساء والشابات عن ممارسة تعليمهن ومواصلة الدراسة وضاعت في خضم تلك الأيام الكثير من المكتسبات التي حققتها المرأة العراقية.
إعتكفت " هنــــوة " أيامـــاً و أشهراً طوال دون أن تخرج الى الشارع والمدرسة التي تواصل فيها دراستها التعليمية ، وسط قلق متواصل من والدتها التي أوجدت لها مكانــــاً آمنـــــاً في بيوت آخرى من الأقارب ، بعيداً عن عيون أزلام السلطة والمليشيات المسلحة التي أرادت الإنتقام ليس من تلك الشابة الوديعة والمسالمة والجريئة في وطنيتها ، بل ومن عموم السلام الذي عم الوطن آنذاك ومن السلام الذي تغنت بها شعوب العالم والذي جسدته " هنــــــوة " في تنورتهـــــــا الخضراء الموشحة بحمامات السلام البيضاء تلك . ولم يكن أمام والدتها و وسط التحرشات الوقحة لأفراد المليشيات المسلحة آنذاك و زياراتهم المقصودة ليلاً ونهاراً في السؤال عن إبنتها الوحيدة ، إلا أن تسارع في البحث عن التنورة الخضراء التي عـــُرفت بها " هنـــــوة " في المحلة والشارع والمدرسة .. وأخذت تنتزع منها حمامات السلام التي خيطت حول التنورة من حافتها السفلى وتجمعها في مكان آمن دون أن ترميهـــــا !
تسارعت الأحداث .. وغاب السلام عن وطن الرافدين منذ أن وطأت المليشيات المسلحة أقدامها و داست على السلام الإجتماعي منذ عقود مضت وحتى يومنــــــا هذا . أمـــــا " هنـــــــــوة " التي أسرت عقول الشباب والمحبين والتي تخرج الى شوارع مدينتها الآن مرتدية الحجاب والعباءة السوداء والمفروض عليها قسوة وعنوة ، فإنها لا تزال تحتفظ ليومنـــــا هذا ، رغم تجاوزها سنوات الستين من العمر بكل " حمامات السلام " البيضاء تلك في كنتورها الخشبي العتيق في زاوية من غرف البيت ، بل وتحتفظ بنفس تلك المهارة من مهنة الخيـــــاطة التي تعلمتها في سنوات شبابها ، بل وتمني العمـــــر وبكل ذلك الحماس الذي مضى .. في أن تعود لحمامــــات السلام نضارتها وعافيتها وهي توشح ملابس الفتيات والشابات العراقيات اللاتي أغتصبت حياتهن قسوة وعنوة من قبل أعداء الســـــــــــلام !