| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالجبار السعودي

basrahahwar@hotmail.com

 

 

 

 

الثلاثاء 17/4/ 2007

 

 

( صوغة ) من جنوب الوطن !
 

  عبد الجبار السعودي  *

تتلاعب الأفكار ويتداخل الفرح في داخلك مع أية مفاجأة سارة ، بسيطة كانت أم كبيرة ، عندما يتقدم اليك أحدهم وعن طيب خاطرو محبة ، بما حملت يديه من ( صوغة ) أثناء زيارته لك ، وبدون موعد مسبق . ويأخذ طعم تلك ( الصوغة ) مذاقاً آخراً ، فيما لو أرتبطت بالموروث الشعبي واليومي لديك ، حتى وإن كان ذلك لسنوات طويلة خلت و لذكريات عذبة تلامس الماضي المنصرم بكل ألوانه الجميلة.

كان لموعد زيارة الصديق ( أبو ضامن ) ترتيب مسبق غير بروتوكولي كالعادة ، فهو من بين الأصدقاء القلائل الذي عاش بين المندائيين لسنوات طوال في جنوب الوطن وعرف عنهم وعن عاداتهم وطقوسهم الكثير ، بل أنه لا يزال يحتفظ بصور جميلة للعديد من أصدقاءه المندائيين هناك في القرى الملامسة لأهوار الحويزة والحلفاية والمشرّح ! ولهذا فإن زيارته لي في البيت جاءت متزامنة مع عودته هو أولاً من زيارة قصيرة لأرض الوطن ، وثانياً مع خروجي من المستشفى بعد أجراء العملية الجراحية لي مؤخراً .. وبلغة بسيطة يمكن القول أن الترحاب الذي أبداه ( أبو ضامن ) بنفسه وبأبيات الشعر الشعبي التي ألقاها بصوته الجهوري وهو يدخل البيت ، قد أعادت لي بعض من البهجة والفرح الداخلي والمتعة الشيقة للقاء أحد الأصدقاء و لسماع أخبار الوطن المذبوح .. وليس أخيراً لأبيات الشعر الشعبي التي يجيد نظمها وألقاءها بشكل متميز ومحترف ! وفعلاً فقد طبع اللقاء ضحكة وتحية وعناق حار على سلامة العودة .

لم يكن أنتباهي منصباً لما كان يحمله ( أبو ضامن ) بين يديه من حاجيات ، بل كان الحديث العابر عن الحال والأحوال هو الذي أخذ من وقتنا دقائقاً معدودات .. تخللتها أحاديث عن شجون وأحزان الأهوار وما تعيشه ويعيشه الناس هناك ! ولم يطل الحديث كثيراً حول كل الهموم التي نعرفها كثيراً ، إلا فيما يخص المعيشة اليومية للناس هناك والتي رواها الصديق العزيز بكثير من التفاصيل اليومية المحزنة والمفرحة معاً ! وبعد ذلك كانت المفاجأة التي أرادها الزائر العزيز أن تكون ملح جلستنا و أحاديثنا و زيارته لقرى مدينة العمارة ، وبالتالي أن تكون موضوعاً شيّقــــاً أنقله للقراء الأعزاء !

دفع ( أبو ضامن ) نحوي بكيس صغير من الورق الأسمر الجذاب ، كالذي نعرفه أيام زمان في أسواق العراق الشعبية من فئة وزن ربع كيلو غرام ، وقال بلهجته الجنوبية المحببة .. (( راح ترد روحك وتشفه خلال ربع ساعة )) ! ومع عبارته تلك التي رددها لمرتين ، وجدت نفسي ممسكاً بالكيس الأسمر ومحتواه الطري الذي تلمسته بأصابع يدي ، دون أن أعلم شيئاً عنه . وبين سؤالي له عن محتوى الكيس وضحكاتنا معاً و حشرجة صوتي المتعب ، فتحت ببطأ نهايات الكيس الورقية المطوية بشكل ملتوي فوق بعضها البعض ، وكما كان يفعل البقالون عند شراءنا لحاجة ما من دكاكينهم الشعبية. وفي لحظات قد يشتاق لها الكثيرين ويسترجعون معها طعم و نكهة كل ما مضى ، أنبعثت رائحة شجية وعبقة وذات نكهة فريدة وخاصة ، لا يضاهيها أي عبق طبيعي لنبات معروف . وكانت الدهشة كبيرة وأنا أفرغ بعض من محتويات الكيس في اليد الأخرى لتقع حينها أبصاري على الألوان الدافئة والحارة والمتموجة والممتزجة مع بعضها البعض لثمر ( النبق ) أو ما نسميه ( النبك ) ! أما الرائحة النفاذة التي ملأت المكان و سرت الى داخل صدري ، فقد أعادت لي شعوراً من الأحساس بنجاح العملية التي أجريتها لمجاري التنفس العلوية ، ووجدت نفسي أتحسس هذا الشذى الطبيعي بكل حرية وأمان ، دون عطاس أو مضايقة تذكر ! وما بين هذا وذاك وأختلاط وقع المفاجأة وضحكات ضيفنا العزيز ، تناولت حبة واحدة من ( النبكات ) ومضغتها بهدوء ، متوقعاً أن يلي ذلك إخراج نواتها ( الفصمة ) ، لكي أتناول الثانية بعدها . لكن المفاجأة الثانية كانت من أني قد وجدت حبات ( الصوغة ) من النوع ( المَلاّســــي ) ، كما يطلق عليه في مدن وقرى الجنوب ، وبدون نوى ( فصم ) ، وهو الأشهر والنادر والغالي ما بين باقي الأنواع .. !  وما أن مرّت الدقائق ممتعة ومفرحة لمن حولي  في البيت وهم يلوكون ويذوقون ولأول مرة ومنذ عقود مضت ثمر ( النبك ) و ( المَلا ّســــــي ) منه بشكل خاص ، حتى وجدنا أنفسنا مجتمعين وقد تناولنا وبشراهة غير معتادة ، ما في نصف الكيس من محتوى !

قال لي صديقي صاحب ( الصوغة ) وهو يتحدث عن أحوال ما تبقى من هكذا أشجار في قرى ومدن جنوب العراق تحديداً ، حيث تعيش تلك الأشجار المثمرة بكثرة عن غيرها من المدن العراقية ، أن ما وجده من ثمر ( النبك ) في أسواق البصرة والعمارة ، ليس كما كنا نجده في أيام خوالي مضت ، حيث يقل المعروض كثيراً بسبب قلة زراعة شجرة النبق ( السدرة ) وكثرة عمليات الجرف والأندثار للكثير من المزارع طوال الحروب التي مضت على العراق ولازالت منذ بداية الثمانينات وما صاحبها من أهمال واضح للزراعة والبساتين وما تحتويه من أشجار ومنها أشجار السِدر.

طالت زيارة ( أبو ضامن ) لساعتين مشهودتين بالمودة والمذاق الطيب ، لا زالت عالقة في أذهاني ، لما حملته من مفاجأة ( الصوغة ) التي أعادتني الى ذكريات وأحداث ترتبط بالماضي الجميل الذي عشناه صغاراً وصبية و شباباً ، قبل أن تجرف معاول الأرعنين والمجنونين وحروبهم الطائشة تربة العيش الشريف والنزيه الذي عاش عليه العراقيون لعقود طويلة من تأريخهم . أعادتني تلك الحبات من
(
النبك ) الى ذكريات مدننا التي عشنا فيها بسلام وألفة مع الأنسان والطبيعة وكل ما تنتجه من خيرات وثمار ومع كل الذين أرتبطنا معهم بوشائج من العلاقة اليومية المصيرية من باعة ( النبك ) و
(
الجمـــــّار ) و ( العكــّيــــــد ) و ( الخرّيط ) و ( طلع ) النخل وماءه العذب ( ماي اللكــّـــاح ) و باعة ( الشونذر والشلغم ) والباصورك و الجقجق ( حبة خضرة ) و ( التكي ) و ( العنجكــــة ) وغيرها من الثمار التي لم تفارق ساعات وأحداث الأيام التي عشناها بعنفوان وبراءة تحسدنا عليها أجيال هذا الزمان!

أعادتني حبات ( النبك ) الى أحداث أرتبطت بشقاوة الطفولة وسخونة أحداثها إن صحّ التعبير ، فما من بيت يحوي في حديقته على شجرة سدرة ، حتى يكون عرضة لهجوم الصغار و تسلقهم لحيطان البيت بحثاً عن ثمرة ناضجة لذيذة و طرية متسلقة من هذا الغصن أو ذاك ، وإذا أقتضى الأمر فإنهم يضطرون الى رمي الأغصان بالحجارة أو بما يتوفر لهم تحت أيديهم ! وكم من كرة قدم بلاستيكية محلية الصنع قد علقت بين أغصان شجر السدر ! كل هذا و غير آبهين بالمخاطر التي تواجههم من أصحاب الدار وشكواهم !

أعادتني تلك الحبات الى المعتقدات والأساطير التي سمعناها من أهالينا ونحن صغاراً من أن شجرة النبق تحوي على روح أحد الأنبياء الصالحين ، ومنهم من قال أنها روح ( يهيا يهانه ) ، وأن قطع أغصانها أو إيذائها ، سيتسبب في إيذاء البيت وساكنيه ! وكيف أن شجرة الســــدر التي تقطع سوف تنتج دماً أحمراً يسيل منها ، هو دم تلك الروح المقدسة التي تسكنها !

أعادتني تلك الحبات الى باعة ( النبك ) في سوق المغايز الشهير والمعروف في مدينة البصرة والذي يربط نهاية سوق الصياغ ( سوق الصيادلة ) و بداية سوق ( حنا الشيخ ) عبر جسر ( المغايز ) . أولئك الباعة الذين أفترشوا الأرض عند مداخل الأزقة المتفرعة من سوق المغايز بإتجاه محلة البجاري ، عارضين منتجات أشجار منازلهم وبساتينهم في أقضية شط العرب والسيبة والفاو وأبو الخصيب وحمدان والهارثة من ثمار ( النبك ) في ( كوشر ) كبير الحجم مصنوع من ( جريد ) سعف النخيل ، وآحجام أخرى أقل حجماً تحتوي على الأنواع الأخرى المتميزة من ( النبك ) ومنها ( الملاسي ) و
(
الجوزي ) و( البمباوي ) و( الخستاوي ) و( الزيتوني ) وغيرها من الأنواع . تذكرت تلك الأكوام الجميلة والرائعة من ( النبك ) في تلك ( الكواشر ) مزينة بأزهار الجوري الحمراء والوردية والصفراء التي تتوسط حبات ( النبك ) باعثة فيها نكهة لرائحة عطرة تملأ المكان وما حوله !

أعادتني تلك ( الصوغة ) التي جلبها ( أبو ضامن ) معه ، الى تلك ( الصوغات ) اللذيذة المتوالية التي كانت تردنا من حين لآخر من ( معاميل ) أهلنا وهم يستلمون أجور مصوغاتهم  مع ( صوغة ) غالية على شكل ( كوشر تمر خستاوي ) أو ( كوشر نبك ) أو ( تنكة دبس ) أو ( قناني من الدهن الحر الذائب ) أو حتى ( طحين ثمرالخريط ) الذي تهيئه الوالدة لاحقاً بطريقة خاصة لا مجال لذكرها الآن ، ليخرج بعدها بالشكل المعروف والذي يباع في الأسواق! وما أكثر تلك ( الصوغات ) التي وردت من أقضية أبو الخصيب ومهيجران وحمدان والسيبة و سوق الشيوخ و كرمة بني سعيد والهارثة أو أقضية الجبايش والفهود رغم بعدها عن مدينة البصرة ! يحملها أصحابها معهم بكل طيبة ومحبة وألفة الى صاغتهم المفضلين لديهم ، دون عناء أو مشقة و دون أي تمييز ، كالذي عرفناه وشاهدناه في سنوات ما بعد الحروب التي عصفت بالوطن وحتى يومنا هذا.

أنقضت زيارة صاحبي وأنقضى بعدها بيوم أو يومين حبـــّات ( النبك الذهبية ) ، ولم يبق من الطعم اللذيذ إلا طعم الزيارة الجميلة وطعم الذكريات التي نتطفل عليها من حين لآخر أملاً في أن نبقى !   

بصرة - أهـــــــوار في 17 أبريل 2007

* عضو رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الصابئة المندائيين