| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبدالرحمن دارا سليمان
sulimaner@yahoo.fr

 

 

 

                                                                                     الأثنين 17/10/ 2011



المحنة العراقية وآفاقها المعتمة

عبد الرحمن دارا سليمان

رغم أنّ المحنة العراقية لم تصل الى خاتمتها بعد، ولا تزال ثمة حلول محدودة للخروج من الأزمة السياسية الشاملة في البلاد، بيد أنّها تكاد أن تكون حلولا مستبعدة من حسابات المحللين، لا لكونها تتنافى عمليا، مع المصالح الخاصة للقوى السياسية المتنفذة والمواقع الحكومية المهمة التي إحتلتها عن طريق المحاصصة الطائفية وبالتالي سيكون من العسير عليها التنازل عنها فحسب، وإنّما تنطوي الدعوة الى إنتخابات مبكرة على سبيل المثال، كأفضل مخرج "نظري" للأزمة القائمة، بدورها على مخاطر زعزعة التوافق الإقليمي والدولي الراهن حول العراق، في حالة نتائج قد لا تكون في صالحها، وبطبيعة الحال سيبقى العراق السياسي رهين المتغيرات الخارجية، وستظل أوضاعه العامّة معلقة في إنتظار التناقضات التي ستنشأ حتما، بين المصالح المتباينة، والتبدلات التي سوف تطرأ على موازين القوى الإقليمية والدولية . أمّا الأوضاع الداخلية المأساوية التي تهمل غالبا من الترتيبات الجيوسياسية وتأتي في ذيل إهتمامات القوى صاحبة النفوذ والمصالح الكبرى والتأثير الأقوى على صنع القرار، فهي ليست بنظرهم، في مثل هذه الأحوال، سوى شأن عراقي داخلي .

فالعراق"الديمقراطي" غارق اليوم، في أزماته المتناسلة، وهو مشلول الإرادة والفاعلية والتأثير في محيطه الإقليمي، والمعطيات الداخلية على الأرض تشير بوضوح تامّ، الى التفاقم المستمر للأزمة السياسية وما ينتج عنها دوريا، من أزمات عديدة أخرى تنعكس مباشرة، على ميادين الأمن والخدمات والإنتاج والإقتصاد والصحة والتعليم والثقافة وغيرها من قطاعات الإدارة المدنية العامة ذات العلاقة بحياة المواطنين اليومية وبأمنهم وسلامتهم، وأسباب ذلك لا تعود فقط الى التركة الثقيلة للنظام الديكتاتوري، ولا الى مبادئ التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وإعتماد التمثيل للإرادة الشعبية التي قامت عليها الأوضاع الجديدة إفتراضا، ولكنها تعود الى العجز الداخلي عن توليد قوى وقواعد إجتماعية وسياسية تؤمن بالفعل بالمنهج الديمقراطي بإعتباره سياق سياسي وإجتماعي وإقتصادي وثقافي متكامل، وعملية تاريخية طويلة تبدأ بصناديق الإقتراع ولا تتوقف عند نتائجها، بل إنّ نتائجها الحقيقية هي ثمرة النضال الطويل والعمل الدؤوب والتراكم المستمر للخبرات والجهود الجماعية والإدراك العميق للأبعاد الوطنية والإنسانية والأخلاقية في الفكر الديمقراطي والتي ستصبّ في النهاية في المصالح العليا للبلاد .

فبدلا من تحديد مكانة الديمقراطية وإعلاء شأنها نظريا وعمليا، وإتخاذها كمرجعية فكرية قادرة على جمع الفرقاء وتعلمهم أسلوب الحوار الصريح والمكاشفة والتوصل الى تسويات وتنازلات متبادلة حول الملفات والأمور العالقة بينها، كان وما يزال العمل جاريا في أوساط النخبة السياسية الحاكمة، وفق أساليب المراوغة والمماطلة والخديعة والنوايا المبيتة والردّ على الدسائس بالدسائس، وهي بمجموعها من بقايا الثقافة السياسية القديمة التي لم تجر إطلاقا أية محاولات جدّية لمراجعتها وإعادة النظر فيها وتأسيس علاقات جديدة على أنقاضها . وهو مايدفع المراقبين للأوضاع السياسية منذ إنهيار النظام الديكتاتوري عام 2003، الى الشكوك المتزايدة ومن ثمّ التوقعات الأكيدة، حول مآل التجربة العراقية الراهنة التي كانت ومنذ البداية، مثار جدل وصراع واسعين، في أوساط القوى الإجتماعية والثقافية والأحزاب السياسية المعارضة، وبين الأجندات الخارجية والمحلية، المتباينة والمتنافرة في المصالح والإرادات ومشاريع بسط النفوذ لوراثة النظام السابق، بدون أن يجمعها في واقع الأمر، جامع سياسي واحد، سوى العمل السريع والعاجل، على إسقاط النظام والتخلص من براثن الديكتاتورية وبأي ثمن، حتى وإن كان الأمر يتطلب تفكيك ما تبقى من معان للفكرة الوطنية وإعادة تركيبها على ضوء الأجندات الخاصة وتحويل البلاد الى ميدان مفتوح على كلّ الصراعات والتناحرات الكبيرة والصغيرة للمصالح الدولية والإقليمية والمحلية، والى عنوان عريض للفساد والتزوير وإنعدام الشعور بالمسؤولية، كمقدمات لتحويل السياسة ذاتها بعد إفساد نخبها، الى ساحة مغرية لرجال المال والأعمال وأمراء الطوائف والمليشيات، بعد إرساء اللبنات الأولى لزواج السياسة بالمال والتجارة والسمسرة والإمتيازات الخيالية، في عرس كوميدي وتراجيدي يندر إجتماعهما معا، ليكون فاتحة العهد الديمقراطي الجديد تحت ستار الدخان وضجيج طبول الحرب والدبابات وضحايا الإرهاب والإغتيالات بكواتم الصوت الناطقة بالخيبة والعار والعهر السياسي .

مصدر الشكوك في نوايا القوى السياسية المتنفذة هذا اليوم، نابع من دراسة البنية الفكرية للنخبة السياسية الحاكمة والعوامل التاريخية التي لعبت في تكوينها ولا تزال تلعب الدور الأكبر في تطورها وتشكيلها على الصورة الحالية، وهي صورة الإكتفاء بوصف الواقع القائم وتكريسه وعكسه آليا، لا محاولة التدخل في هذا الواقع وإعادة ترتيبه من أجل تغيير تاريخ سياسي طويل من العجز والإنحطاط والتخلف والتبعية والهزائم المتواصلة والكشف عن مصادر العلل والعطل والبحث عن الأسباب العميقة، لكي يصبح واقعا قابلا للفهم والسيطرة والإدراك والتغيير الجوهري للمسار السياسي الذي أنشأه وخطه الحاكمون من قبلهم وما كان عليهم إلاّ أن يسيروا بدورهم عليه . أمّا مصدر اليقين، فهو لا ينبع في الحقيقة من المثل القائل : الكتاب يقرأ من عنوانه، ولا من مبادئ المنطق الصوري في التفكير والتحليل الذي يقول أن البدايات الخاطئة لا يمكن أن تقود الى نتائج صحيحة، ولا حتى من نزعات التشاؤم والحكم على النوايا ونظريات المؤامرة المدبرة، وإنّما هي حصيلة الواقع المعاش والتجربة المريرة لسنوات "التحرير" العجاف التي مرّت فصولها ولياليها الطوال على محطات الدمّاء والخيبات والإنتظار الطويل ثمّ على فواصل الفساد والنكران وإدارة الظهور للوعود والعهود التي قطعتها النخبة السياسية الحاكمة على نفسها والتي أحالت الحلم الديمقراطي المنشود للمجتمع العراقي الى كابوس يومي نعيشه أفرادا وجماعات، قبيل اليقظة وقبيل الوصول للمحطة النهائية التي ستتساقط فيها أمام الملأ، جميع الأقنعة السياسية .



 

 

free web counter

 

=