| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عبدالجبار منديل
Salal17@yahoo.com

 

 

 

الثلاثاء 15/4/ 2008

 

محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم – ذكريات شخصية

د. عبد الجبار منديل *
salal17@yahoo.com

بغداد - شارع الرشيد – يوم 7 تشرين الثاني 1959 – الساعة السادسة والربع مساء . كان مساءً رائعا من امسيات بغداد الساحرة. كان الصيف قد ولى وابتدأت قزعات من الغيوم البيضاء المدهشة تغزو سماء بغداد مثل اسراب من الطيور المهاجرة مبشرة بحلول بدايات الخريف الذي هو من اجمل فصول السنة في العراق .
كنت قد ابتعت تذكرة من سينما شهرزاد الواقعة في فناء داخلي ( مع دار سينما اخرى ) مقابل ( اورزدي باك ) القديم في شارع الرشيد . وكان امامي حتى السابعة ثلاثة ارباع الساعة قبل بدء الفلم الذي لا اتذكره . لذلك فقد كنت اتسكع في ساحة حافظ القاضي مقابل جسر الأحرار الذي كان يحمل اسم ( جسر مود ) قبل ثورة 14 تموز . وافكر فيما يجب عليً القيام به من استعدادات قبل سفري الى موسكو ضمن بعثة وزارة المعارف ( التربية ) وكنت قد قبلت في البعثة مع مجموعة من الطلبة بعد حصولي على معدلات عالية في بكلوريا الثانوية . وقد استطاعت وزارة المعارف ان تحصل لنا على موافقة استثنائية بان تقلنا طائرة الخطوط الجوية العراقية الى موسكو مباشرة حيث لم يكن هنالك خط مباشر بين بغدلد وموسكو . وكان كل ما لدى هذه الخطوط في حينه هو اربع طائرات صغيرة انكليزية من نوع ( فايكاونت ) من ذوات المحركات المروحية والتي تتسع لأربعين راكبا فقط . فلم تكن المحركات النفاثة قد دخلت في خدمة الطيران المدني بعد . وقد حدد لنا موعد السفر في 18/10/1959 . وكان ينبغي عليً في الغد ان اسافر الى اهلي في الديوانية لأقضي معهم الأيام الأخيرة قبل السفر فضلاً عن شراء التجهيزات الضرورية المطلوبة . وعلى رغم اني كنت قد اشتريت بعض التجهيزات الا انه كان ينقصني اهم شيئ وهو شراء المعطف الثقيل والحذاء الثقيل والملابس الصوفية السميكة التي تلائم جو موسكو . وفي ذلك الزمن لم يكن احد يعرف ما هو المطلوب سوى بعض الأحاديث المتناثرة والأخبار الغامضة فقد كانت موسكو من ضمن عالم ما كان يطلق عليه ( خلف الستار الحديدي ) .
في ظل الغسق الذي بدأ ينسج خيوطه على المدينة وعلى شارع الرشيد انطلق من قلب العتمة قادما من جهة ( رأس القرية ) شبح رجل يولول ويصرخ ( قتلوا الزعيم ) . ونهره بعض المارة واصحاب المحلات مستنكرين الخبر وصرخ به اكثر من شخص ( انجب حقير ... إشاعة مغرضة ... هاي مؤامرة .. ) ولكن موجات من الجمهور بدأت تنداح بشكل متواتر وبدأ اللغط يتزايد وحدثت حركة جماهيرية معاكسة باتجاه رأس القرية . واتجهت مع الجمهور الى مكان الذي قالوا انه حدثت فيه عملية الإغتيال . وحدث هرج ومرج في الشارع وبدأ الناس كما لو كانت قد اصابتهم هستيريا جماعية . كل واحد يصرخ بطريقته الخاصة في هتافات وهلوسات غير مفهومة . ولم يكن لأحد ان يصغي لأحد اويسمع احد . كان كل واحد يصغي لما في داخله من ضجيج الغضب والهلع والثورة . وصلت الى المكان . كان الجمهور قد تزايدت اعداده بشكل رهيب سواء القادمين من الباب الشرقي او من الباب المعظم او من الأزقة الكثيرة التي تصب في شارع الرشيد . كان ثمة فيضان جماهيري يتصاعد دون ان يعرفوا ما ينبغي عمله .
في موقع رأس القرية كان هناك سيارة الزعيم الستيشن السوداء التي يعرفها اهل بغداد وقد مزقها الرصاص من كل جانب . وقد قيل ان الزعيم قد تم نقله في سيارة تكسي . كما كانت هنالك سيارة ( البلايموث ) الطويلة والتي كان يقودها ( كما عرفنا فيما بعد ) سليم الزيبق احد المشتركين في العملية والتي كان من المفروض ان تعترض سيارة الزعيم لكنها تعطلت . ولم اشاهد جثة عبد الوهاب الغريري الذي عرفنا فيما بعد انه قتل في العملية وانه كان احد افراد الزمرة المنفذة . ولا ادري ما حلّ بها . ومن المعروف ان صدام حسين كان احد افراد الزمرة إلا ان دوره كان ثانوياً فقد كان شابا قرويا قليل الخبرة وليس مثل شبان بغداد . وإن حاولت اجهزة النظام فيما بعد ان تضخم دوره وتبالغ فيه كثيراً . بعد دقائق وصلت مدرعات مسرعة قيل انها من معسكر الرشيد وان الذي يستقلها هم وصفي طاهر والمهداوي وغيرهم من رجال الثورة .
بدأ الجمهور كما لو ان يداً سحرية تحركه وتحرك الناس كالمنومين مغناطيسياً وبشكل لا إرادي باتجاه وزارة الدفاع في باب المعظم . وبعد قليل اطفئت الأنوار في شارع الرشيد واستمر الجمهور يزحف في الظلمة دون ان يعلموا لماذا ؟ ولأي غرض ؟ البعض يقول لقتل البعثيين الذين اتهموهم بالعملية والبعض يقول للقضاء على المتأمرين . ولم يكن احد يعرف هل ان الزعيم عبد الكريم قتل في العملية ام لا ؟
بدأت اشعر ان ثمة مجموعات منظمة ولكنها غير مسلحة نزلت للشارع واخذت توجه الجمهور وتحثه على الهدوء وضبط الأعصاب وان الوضع مسيطر عليه وكان واضحا انهم من الشيوعيين الذين سيطروا على الشارع وعلى الجمهور التائه سيطرة كاملة . وصلت الى وزارة الدفاع كانت الشوارع التي تحيط بها تغص بالجماهير التي تتعلق بالجدار الخارجي للوزارة .
في الساعة السابعة والنصف اذاع راديو بغداد بياناً قال فيه ان الزعيم بخير وانه لم يصب الا بخدوش بسيطة . ثم اعلن الحاكم العسكري العام احمد صالح العبدي ( الذي قيل في الكتب التي صدرت في السبعينات والثمانينات انه كان متواطئا مع البعثيين والقوميين ) اعلن بيانا يفرض فيه منع التجول لتلك الليلة وان على الجمهور ان يخلد الى الهدوء والسكينة وان حياة الزعيم ليست في خطر .
أخذت الجماهير تهدأ وتتفرق ورجعت انا بدوري الى الفندق الذي اسكن فيه والواقع قرب ساحة الشهداء في الكرخ وقريبا من الجسر العتيق .
في اليوم التالي سافرت الى اهلي في الديوانية وانا لا اعرف ما هو مصير البعثة او السفر . بعد اسبوع عدت الى بغداد .كانت الأمور بدأت تتكشف . وبدأت الدولة بالإمساك برؤوس الخيوط التي اوصلتها الى الجناة . اخذت بعض اجهزة الإعلام تتحدث ان البعثيين هم وراء العملية وان بقيت بعض الجرائد المتعاطفة مع البعثيين مثل جريدة الفجر الجديد وجريدة بغداد تنكر قيام البعثيين بهذه العملية وتتهم الشيوعيين .
تأجلت سفرتنا لمدة اربعة ايام فقط حيث اعلمتنا الخطوط الجوية ان تذاكرنا ما تزال نافذة وان السفر سوف تكون في يوم 22/10 بدلاً من 18/10 . وهكذا استأنفت مشترياتي الضرورية وفي يوم 22/10 اقلعت بنا الطائرة لتصل الى موسكو بعد ثلاثة ايام . ومن هناك تابعنا محاكمة البعثيين المشاركين مثل اياد سعيد ثابت وسمير النجم وغيرهم والذين اعترفوا بجرمهم . وقد اصدرت محكمة المهداوي حكمها عليهم بالإعدام ولكن لم تمضي سوى فترة قصيرة حتى اصدر الزعيم عفواً عاما عنهم تطبيقا لمبدأه المعروف ( عفى الله عما سلف ) ليعاودوا العمل ضده مرة اخرى وليجهزوا عليه وعلى ثورته في 8/2/1963 .
 

* اكاديمي عراقي / كوبنهاغن

 

Counters