| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عبدالجبار منديل
Salal17@yahoo.com

 

 

 

 

الأثنين 25/2/ 2008

 

العولمة بين انصارها وخصومها

د. عبد الجبار منديل *
salal17@yahoo.com

يثير مصطلح (العولمة) في العراق والعالم العربي الكثير من الخلافات والتجاذبات . وكما هي العادة دائماً في العالم العربي، ما ان تثار قضية خلافية حتى تتبارى الأقلام في قدحها او مدحها، وتعقد الندوات في ذكر مثالبها ومعايبها او بالعكس ذكر محاسنها ومفاتنها دون التأني قليلا والنظر الى جوهر المشكلة وهل القضية تستحق كل ذلك الصراخ؟ وهل ان المناقشات سوف تؤدي الى نتيجة او بالأحرى هل تؤدي الى استجلاء فكرة العولمة وبالتالي قلع انيابها اذا كانت متوحشة او ترشيدها اذا كانت قابلة للتعديل والتطوير ؟ ومن الغريب ان البعض عندما يتصدى لمناقشة موضوع العولمة يتصدى لذلك بإنفعال وحماس وكأنه يتصدى لعقيدة او ايديولوجية لأن الصراع الأيديولوجي هو موضوعنا الأكبر والمفضل والذي تحلو فيه قعقعة السلاح .
وفي حقيقة الأمر فان العولمة ليست عقيدة ولا ايديولوجية بل هي مجموعة آليات وظواهر بعضها دخل حياتنا دون ان نعلم وبعضها نمارسه بمتعة ونحن نشتم العولمة وبعضها بعيد عنا وبعضها نسعى اليه بكل توق ورغبة . والعولمة والبعض يسميها ( الكوكبة ) نسبة الى كوكب الأرض ليست جديدة ولا طارئة مع ان المصطلح جديد . فما ان شاع هذا المصطلح حتى انبرى جميع المهتمين والمتابعين الى شحذ اقلامهم واصواتهم والمساهمة في ( حفل ) ولادة العولمة سواء مدحاً ام قدحاً .
البعض في العالم العربي والإسلامي يقول عن العولمة بأنها (امركة) اي فرض القيم الأمريكية واساليب الحياة الامريكية والموسيقى الأمريكية والفن الأمريكي وكل ما هو امريكي على العالم وتحويل العالم الى الوجه الأمريكي . ولكن في المقابل فإنه في امريكا وفي اوربا هناك من يتهم المسلمين بانهم يستغلون آليات وتسهيلات العولمة من اجل ( اسلمة ) العالم ولاسيما في اوربا حيث تفرض على مجتمعاتها تدريجيا قيم الإسلام من خلال الجاليات التي يتزايد عديدها سنة بعد اخرى كما انها تأبى ان تتمثل قيم المجتمعات الجديدة وتقاليدها وقوانينها بل انها تفرض قيمها على مجتمعاتها الجديدة وتحاول تغيير قوانينها وقيمها من خلال رفع لافتة حقوق الإنسان ومقاومة العنصرية .
ان العولمة لها مظاهر متعددة وكثيرة الوجوه . فالعولمة هي عملية الغاء المسافات بين البشر اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا من خلال انتقال الأفراد والجماعات ورؤوس الأموال بكثافة عبر الحدود . ومن خلال الثورة المعلوماتية والتدفق الإعلامي غير المسبوق بين البلدان العالم بحيث اصبح العالم بفضل التطور الهائل لتكنولوجيا الإتصالات والنقل بيتا صغيراً لبني الإنسان يؤثر ويتأثر ببعضه البعض ويأخذ ويعطي لبعضه البعض يوماً بيوم وساعة بساعة وليس كما كان الأمر في السنين الخوالي .
ويتذكر كاتب هذه السطور اننا ابناء المحافظات في العراق كنا في سنوات الخمسينات من القرن الماضي نحصل على الصحف القادمة من بغداد ليلاً واحيانا في اليوم التالي . اما الصحف العربية فحتى في الستينات والسبعينات كنا نقرأها بعد عدة ايام من صدورها. اما الان فانني اطلع على صحف بغداد وبيروت والقاهرة ولندن في نفس يوم صدورها من خلال تصفح الشبكة العنكبوتية واحيانا قبل يوم من طبعها وتوزيعها داخل بلدانها وانا على بعد آلاف الكيلومترات من الوطن . وهذا كله بفضل كثافة تدفق المعلومات التي هي مظهر من مظاهر العولمة . بل نحن كأفراد اصبحنا جزءً من العولمة . فوجود العراقيين والعرب والمسلمين عموما في اوربا بهذه الكثافة انما هو من افرازات العولمةالتي شجعت على تدفق الأفراد بالإنتقال عبر حدود مختلف البلدان .
في الخمسينات كان اقصى مكان تصله النخب الحاكمة او الطبقات الثرية العراقية هو لبنان او سوريا واحياناً نادرة لندن . اما سائر الطبقات الفقيرة فموضوع زيارة هذه البلدان لم يكن يخطر لهم حتى في الأحلام . ولكننا نرى الان ابناء واحفاد تلك الطبقات من شمال العراق الى جنوبه يملأون شوارع المدن الكبرى في العالم .
في بداية الستينات عندما كنت طالبا في اوربا وحين كنت ابعث الرسائل الى اهلي في العراق فإنني كنت اتلقى الرد بعد ستة اشهر وعليه ختم الرقابة العسكرية اما الان فلا يكاد يمر اسبوعا دون ان ارفع التلفون واتصل بهم مباشرة او يقومون هم بالإتصال . هذا هو الفرق بين ما كان عليه العالم وما اصبح فيه .
ان العولمة هي هذا التقارب الكبير بين البشر الذي احدثته الثورة التكنولوجية في ظل التقدم العلمي العظيم الذي لم يسبقه حدث بمثل هذه الضخامة وهذا الشمول، ولكن هل العولمة هي ذلك النظام الموعود الذي يقود البشرية الى الفردوس المفقود؟ بالطبع لا فالعولمة مثل اي نشاط انساني فيه الرابح والخاسر، فيه البلد الذي يقود مركبه بمهارة وسط الأمواج المتلاطمة للعولمة وفيه البلد الذي لا يجني من العولمة سوى حصرمها . العولمة نشاط انساني كثيف ومعقد في ظل متغيرات عالمية متسارعة، والخاسر فيه من يشغل نفسه برجمه بالحجارة او مناقشة امور خيالية عن الملائكة وهل هم من الذكور او من الإناث كما كان بعض اسلافنا يفعل في بداية عصر التنوير في اوربا في حين كان الأوربيون يرسون دعائم الثورة الصناعية الكبرى ويمهدون لإرهاصاتها . ويخسر ايضاً من يعتاش على انجازات العالم العلمية دون ان يساهم فيها وتخسر الدول التي تعتاش على الإقتصادات الريعية دون ان تبني قاعدتها التكنولوجية ، وتخسر التي تنتج سلعاً منخفضة الجودة لا تمتلك القدرة على منافسة السلع ذات الجودة العالية التي ينتجها الاخرون .
ان العولمة هي سباق لا يرحم, يخسر فيه من يجلس على التل يتفرج ولا يساهم بفعالية ونشاط في الإقتصاد العالمي من أجل التفوق .
قد يتصور البعض ان الدول المتقدمة تربح على طول الخط والدول النامية تخسر على طول الخط . وهذا تصور غير سليم . فامكانية الربح والخسارة لا علاقة لها بتقدم الدولة او تخلفها بل بقدرة قياداتها السياسية والإقتصاديةعلى لعب دور فعال واستغلال ايجابيات العولمة لصالحها . فعندما تغلق بعض الشركات الكبرى في اميركا مثلا او في المانيا مصانعها في بلدانها وتنقلها الى جنوب شرق اسيا او الى الصين لتخفيض كلفة الإنتاج فان من يخسر في هذه الحالة هو العامل الأمريكي او الالماني الذي تلقي به الشركات في الشارع لينضم الى جيش العاطلين عن العمل في حين تربح الصين او دول جنوب شرق اسيا لأنها حصلت على استثمارات جديدة وخبرات تكنولوجية وادارية جديدة . ان رأس المال في ظل العولمة ليس له وطن . انه يهدف الى تخفيض الكلفة وزيادة الارباح بكل الوسائل .
يبقى بعد ذلك موضوع الهوية الثقافية التي يدّعي البعض من العرب بأن العولمة سوف تؤثر عليها . ان الهوية الثقافية ليست ابدية ولا خالدة . فهويات الدول والشعوب تتغير من مرحلة الى اخرى . فمثلا هوية ارض الرافدين تغيرت عدة مرات عبر تاريخها الطويل من سومرية الى بابلية الى اكدية الى اشورية الى عربية اسلامية، ولكن ذلك لم يمنع هذه الأرض من ان تساهم مساهمة عظيمة في رفد الحضارة الإنسانية بأروع الإنجازات التي غيرت تاريخ الجنس البشري برمته . ان الهوية الثقافية اذا كانت متحجرة فانها اما ان تكون عدوانية او منغلقة ومتخلفة . وهكذا فأن العولمة ليست خياراً بل هي تيار عالمي جارف فلابد مما ليس منه بد . ولابد من صنعا وان طال السفر كما يقول المثل العربي القديم . فاما اللحاق بالركب العالمي او التخلف والجلوس في مقاعد المتفرجين على العالم الذي ينطلق الى الأمام .
 

* اكاديمي عراقي / كوبنهاغن


 

Counters