| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عبدالجبار منديل
Salal17@yahoo.com

 

 

 

السبت 20/9/ 2008



جمال عبد الناصر والعلاقة المعقدة
مع نوري السعيد و عبد الكريم قاسم
(3)

د. عبد الجبار منديل *

عند التصدي لدراسة العلاقة بين جمال عبد الناصر من ناحية ونوري السعيد وعبد الكريم قاسم من ناحية ثانية لابد من الإشارة الى حقائق لا تقل شأنا عن الحقائق التي ذكرناها فيما سلف من المقال. هذه الحقائق التي عملت على تأجيج حدة الصراع بين العراق ومصر من ناحية وزادت من حدة العنف في العراق من ناحية ثانية .
بعد تأميم قناة السويس في عام 1956 ثم العدوان الثلاثي من قبل ( انكلترا وفرنسا واسرائيل) الذي اعقب ذلك باشهر عدة تحولت شخصية جمال عبد الناصر الى شخصية اسطورية . واتذكر شخصيا كيف كان العراقيون من مختلف الإتجهات والفئات والطوائف مفتونين بشخصيته لدرجة الهوس خلال الفترة 1956- 1958 لدرجة انه حتى في التعازي الحسينية التي كانت تقام سنويا في ذكرى اربعينية الإمام الحسين ( ع ) وتذهب خلالها مواكب ومسيرات العزاء من مختلف محافظات العراق الى مدينة كربلاء حيث مرقد الإمام مرددة الهتافات والأناشيد الدينية التي تسمى ( الردات ) فقد تحولت كلها الى( ردات ) واناشيد سياسية . وكان اسم جمال عبد الناصر يتردد فيها دائما ومن ضمن هذه الردات التي اتذكرها والتي كانت تنشد انذاك خلال( اللطم ) الردة التي تقول مخاطبة جمال عبد الناصر ( نتمنى تكون قائدنا. وبيك انقوي ساعدنا. عبد الناصر. قائد ظافر. يا عنوان الأحرار. يا شبل حامي الجار.) وبالطبع فإن المقصود بالعبارتين الأخيرتين هو الإمام الحسين. حيث تبدأ الردة بداية سياسية وتنتهي نهاية دينية .
كان جمال عبد الناصر خطيبا مصنعا . وكانت خطبه الإرتجالية التي قد تستمر ساعة او ساعتين تشد العراقيين من مختلف الطبقات والأعمار. وكان يمتلك صوتا جميلا وقدرة على عرض افكاره بوضوح وبلاغة وبراعة مسرحية . كما يمتلك ايضا قدرة على استخدام المفردات اللغوية سواء الفصيحة او العامية في اماكنها المناسبة .ومن ذلك مثلا استخدامه للعبارة العراقية ( ماكو اوامر) التي يقال ان القيادة السياسية العراقية استخدمتها انذاك في منع الجيش العراقي الرابض في فلسطين خلال حرب 1948 من التقدم وتحرير المزيد من الأرض . وكانت تلك العبارة من اقوى الأسلحة التي استخدمها عبد الناصر ضد النظام الحكم في العراق وجعلها مشهورة على مستوى العالم العربي وادخلها التاريخ وادخل معها اتهامه للنظام الملكي بالضلوع في ضياع فلسطين .
اما نوري السعيد فلم يكن يمتلك اي قدرة خطابية . وهي موهبة ضرورية للسياسي الذي من ضمن مهماته ان يقوم بتسويق الأفكار والأمال والأحلام ومن خلال ذلك يقوم بتسويق شخصيته للمواطنين .
كان نوري السعيد لا يؤمن باهمية العلاقات العامة والإعلام وينظر اليهما على انهما نوع من التهريج الرخيص الذي يدغدغ عواطف الجماهير . وبالطبع كان على خطأ. وقد دفع ثمنا غاليا لخطأه ذاك.
وعلى العكس من ذلك كانت الماكنة الدعائية المصرية الجبارة الموجودة انذاك تزمجر من اقصى العالم العربي الى اقصاه . وكانت المرة الوحيدة التي خاطب فيه الجماهير هي تلك الكلمة اليتيمة التي خاطب فيها العراقيين من خلال الإذاعة – بعد ان لامه اللائمون كما يقال – وهي كلمة روتينة رتيبة في عام 1956 وختمها بالهوسة العراقية التي تقول ( يادار السيد مأمونة ) مشيرا الى ذلك ان لا خطر على الحكم الملكي . وبالطبع فإن المقصود بالسيد هو الملك الهاشمي .
اما عبد الكريم قاسم فعلى الرغم من الحماس الذي يبدو من خلال خطاباته ومن كونه كان يرصع خطاباته بأبيات شعرية بليغة من الشعر العربي القديم فإن قدراته الخطابية هي ادنى بكثير من قدرات عبد الناصر. كان يستخدم الجمل القصيرة والمركزة وفيها الكثير من التكرار احيانا دون ان يكون هناك تسلسل في المواضيع المطروحة . ولكنه من الجانب الأخر كان عف اللسان. لم يذكر عبد الناصر بسوء قط ولم يشتمه او يسخر منه مع ان عبد الناصر كان يهاجمه في خطاباته بقسوة وبشكل مستمر ويدعوه ( قاسم العراق ) ويطلق عليه مختلف الأوصاف والنعوت دون ان يتلقى الجواب من نفس المستوى .
اما سمة العنف في المجتمع العراقي التي برزت في تلك الفترة فهي ليست جديدة على هذا المجتمع فقد سادت روح العنف وتغلفت فيه وتمكنت منه منذ العهد الملكي وكانت سائدة بالطبع طيلة العهد العربي الإسلامي كما هو معروف وبرزت بشكل واضح بعد وفاة فيصل الأول في 1934 . حيث تم قمع حركات العشائر العربية الشيعية في الجنوب خلال الثلاثينيات وقمع الحركات الكردية في الثلاثينيات والأربعينيات. وبرزت كذلك بانقلاب بكر صدقي واغتيال جعفر العسكري ثم اغتيال بكر صدقي نفسه . ثم حركة رشيد عالي الكيلاني وما رافقها وتبعها من عنف واعدامات . ثم جاءت ثورة 14 تموز وما رافقها وتبعها ايضا من عنف رهيب . وقد رفع عبد الكريم قاسم بشكل متأخر شعار (عفا الله عما سلف) ولكن من سوء حظه وحظنا جميعا ان هذا الشعار لم يجد اذنا صاغية . وقد دفع ثمن ذلك غاليا .
واستمرت مطحنة الموت بالدوران في كل المراحل اللاحقة . بل ازدادت سعارا ودمارا وشرا كما هو معروف . فالعنف لم يقتصر على سياسي بعينه فالكل مارسه وان كان ذلك بدرجات ازدادت مع الزمن .
ان للتأريخ اطوار غريبة كما لتقلباته مسارات لا تصدق . ولعل ذلك هو سر الخلط في الأحكام على احداثه او اختلاط معايير الحكم عليه وعلى شخصياته مما يخلق نوعا من الغموض او نوعا من الأحكام الجائرة وحيدة الجانب والتي لا تأخذ الأحداث والصراعات والعلاقات في اطارها الكامل والشامل .
 

¤ القسم الثاني
¤ القسم الأول
 

* اكاديمي عراقي / كوبنهاغن

 

free web counter