| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عبد جعفر

 

 

 

الأحد 15/1/ 2012



فكاهيات الجوع والجوعيات

عبد جعفر - لندن

الجوع بمختلف انواعه هو ثروتنا المعلنة التي تتباهى بها شعوبنا العربية ومنها العراق منذ الازل ولحد الان ، فلا يمر عام بلا جوع، كما قال سيابنا العظيم في انشودته، وقد يتفجر كعناقيد الغضب ليأكل الاخضر واليابس بل حتى الاجساد ، فلا غرابة ان يقدم الاهالي لاكل اطفالهم ، او ذبح بناتهم لتقليل الافواه الجائعة او الخروج عن قانون الطبيعة في التهام اكل الاطفال وتركهم جياع، ولا يتورع بعضهم من التهام بغلة الحاكم رغم انه يعرف ان مصيره الاعدام وان لحمه سيأكله جياع مثله. وكلما يتسع الجوع ويتكرر كمأساة تتزايد فكاهاته كمهزلة، حيث تصبح النكتة وسيلة للتنفيس ومعادل موضوعي للاحتجاج والسخرية من الحكام. فحين ينشب الجوع اظفاره تبدأ الشعوب بالنكات. وتنشأ ثقافة الفكاهة ومسمياتها الكثيرة.

بهذه الرحلة يأخذنا الكاتب القشطيني خالد في كتابه (فكاهات الجوع والجوعيات) الذي صدر مؤخرا في لندن عن دار الحكمة، عن المفارقات التي لازمت البلدان العربية وشعوبها حتى تميزت بها عن سائر الشعوب الاخرى ، ورغم ان الكتاب ليس بحثا عميقا في الظاهرة ولكنه يقف عبر حكاياته وتناولاته على ضفاف هذا النهر الجارف الذي يغمر شعوبنا بالحاجة والتسول والتكسب والطمع والبخل والقتال والنصب والاحتيال والفساد.

ويورد القشطيني ما تقوله بطون الكتب القديمة ، حيث نرى اين وصل سجل الجوع!
جاء في صحيح البخاري ما رواه عن جابر بن عبد الله قال ٠ خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا حتى كان الرجل منا يأكل في كل يوم تمرة. قال الرجل : يا عبدالله ، واين كانت تقع التمرة من الرجل؟ قال لقد وجدنا فقدها حين فقدناها).
ومن المعروف ان القوم كانوا يتقاسمون التمرة الواحدة وكان المحظوظ منهم من يحصل على النصف الذي يحتوي النواة فيظل يلوك بها ليله ونهاره.

ويروي ابن الجوزي فيقول ( في سنة 343 ذبح الاطفال وأكلت الجيف… وفي سنة 448 عم القحط فأكلت الميتة…. وفي سنة 462 اشتد الجوع والوباء بمصر حتى أكل الناس بعضهم بعضا… وخرج وزير فنزل عن بغلته فأخذها ثلاثة فأكلوها فصلبوا ، فاصبح الناس لا يرون غير عظامهم تحت الخشبة).

وكثيرا ما يربط الجوع بالنكتة ، واصبحت نوادر اشعب الطماع تعبر عن حياة الفقر والقلة والاتكالية والاستجداء التي شاعت في العصر العباسي الذهبي حيث تزامن الفقر المدقع - كما اليوم - مع الغنى المفرط.

سُئل اشعيب يوما عن طمعه وما اذا كان قد التقى بأحد يبزه في الطمع فقال نعم : (كلبة قوم شاهدتها تتبع شخصا يمضغ علكا وابتعدت بما يزيد من الفرسخ في أمل ان يرمي لها بشيء مما يأكل) وجاء في العقد الفريد انه سألوه : ما مبلغ من طمعك ؟ فقال ما نظرت الى اثنين يتساران الا ظننتهما يأمران بشيء لي!

الكرم والبخل
يعد نشوء صفتي الكرم والبخل جنبا الى جنب كنتيجة اساسية للتعامل مع القحط ، فالكرم صنو الحاجة ويزول بانتفائها، وقد يتحول كادأة للكسب والمنفعة والرشوة اذا استخدم في غير محله. ورغم وجود شخصيات اشتهرت بالكرم مثل حاتم الطائي، فان هناك الكثير من البخلاء، وقد عكس كتاب (البخلاء) لوذعية الجاحظ في وضع اصبعه كما يقول القشطيني على هذه الظاهرة العالمية المرتبطة بالفقر والجوع، فظاهرة البخل وما نشأ عنها من أدب الفكاهة والسخرية.

وذم بعض الشعراء البخل منها هجاء ابن الرومي بحق عيسى ابن منصور :

يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد

ووصف ابو نصر بن ابي الفتح المعروف في دنيا الشعر والشعراء بكشاجم حاله مع رجل بخيل :

صديق لي من ابرع الناس في البخل وافضلهم فيه وليس بذي فضل
دعاني كما يدعو الصديق صديقه فجئت كما يأتي الى مثله مثلي
فلما جلسنا للطعام رأيته يرى انه من بعض اعضائه أكلي
ويغتاض احيانا ويشتم عبده وأعلم ان الغيض والشتم من اجلي
فّأقبلت استل الغذاء مخافة والحاظ عينيه رقيب على فعلي
أمد يدي سرا لأسرق لقمة فليحظني شزرا فأعبث بالبقل
الى ان جنت كفي لحتفي جناية وذلك ان الجوع اعدمني عقلي
فجرت يدي للحين رجل دجاجة فجرت كما جرت يدي رجلها رجلي
وقدم من بعد الطعام حلاوة فلم استطع فيها أمر ولا احلي
وقمت لو اني كنت بينت نية ربحت ثواب الصوم مع عدم الآكل

وعلى جانب حالات البخلاء هنالك الضيوف الثقلاء والطفيليون ، فالضيف الثقيل باب من ابواب الفكاهة العربية كما يقول المؤلف (لا اعرف نظيرا له في الآداب الاوروبية، وربما ولا في آداب الاخرين. سبب تفردنا به تمسكنا بالأدب واللياقة والكرم والاحترام المفرط ، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى الفقر والجوع الذي يضطر المرء الى استغلال متطلبات الأدب والكرم واللياقة للتطفل على الآخرين الى حد الاثقال عليهم).

ويحكى : ان رجل عاد الى بيته في الموصل فسألته زوجته عما حمله للعودة بهذه السرعة بعد عشرين يوما من بيت عمه في بغداد. فأجابها قائلا : انا رجل لي احساستي وكرامتي مثل ما تعرفين. وتكفيني الاشارة الخفيفة. عدت لبيت عمي ووجدت الباب موصدة وكل شنطي وغراضي مرمية على الرصيف!

ويقف الكتاب كثيرا على التطفل كمهنة آخذة بالازدهار مع تفاقم البون بين الفقراء والاغنياء، وانواع الجشع ومفارقات الطفليين الطريفة.

وحين تطوي صفحات هذا الكتاب ال122 صفحة من القطع الصغير ، تشعر بالغصة من حجم (ثروتنا العربية الهائلة) من الجوع بأشكاله العديدة من الخبز والمعارف والجنس والاحترام وصولا الى الحريات العامة، رغم ما فيها ما يضحكنا، لكنه ضحك يشبة البكاء.
 





 

 

free web counter