| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عدنان حسين
adnan255@btinternet.com

 

 

 

الأحد 22 / 9 / 2013                                                                                                   

 

شنــاشيــــل :

ملا عمر في انتخابات كردستان

عدنان حسين       

تعود حكاية العلاقة ما بيني وملا عمر وانتخابات إقليم كردستان العراق الى ما قبل عشرين سنة، والى يوم التاسع عشر من أيار 1992 تحديداً، وهو اليوم الذي شهد فيه الإقليم أول انتخابات في تاريخه لاختيار مجلس تشريعي لا تديره ولا تختار أعضاءه حكومة بغداد.

تلك الانتخابات كانت حدثاً كبيراً في تاريخ الكرد جميعاً، لهذا جرى الاحتفال بها كما لو كانت عيداً قومياً في مستوى يوم نوروز.. يومها كنتُ هناك، وشهدت بنفسي ذلك الاحتفال، فقد وصلت الى مصيف صلاح الدين قادماً من دمشق قبل ذلك اليوم بأيام مع عشرات من الصحفيين العرب والأجانب الذين أرادوا أن يسجّلوا تلك اللحظة التاريخية الفاصلة وأن يكونوا شهودا على تجربة فريدة من نوعها لشعب خرج للتو من واحدة من أقسى المحن في تاريخه.
قبل تلك الانتخابات بسنة واحدة، كان ملايين الكرد قد نزحوا في ربيع 1991 باتجاه تركيا وايران بعد تعرض مدنهم الرئيسة الى هجمات جيش صدام الذي قضى على انتفاضة الجنوب والوسط وأراد أن يُجهز على انتفاضة الكرد أيضاً.. وكانت ذكريات القصف الكيمياوي على حلبجة ومجازر الأنفال طرية وماثلة بقوة في الاذهان.. خشي الكرد أن يتعرضوا الى حملة إبادة جديدة، فنزحوا في طوابير طويلة عبر سلاسل الجبال العالية الوعرة في ظروف مناخية شديدة الريح غزيرة المطر.
شخصياً شهدت يومذاك جانباً من مسيرة الكرد على دروب الجلجلة تلك.. مشيت وزملاء آخرون معهم ليلتين ونهارين من رانية حتى قرية (قاسمه ره ش) الإيرانية على الحدود. وقد اهتزّ العالم لمشهد الاكسودس الكردية فتحرّك جزئياً ليقيم لهم ملاذاً آمناً في وطنهم وعلى أرضهم حماية لهم من بطش صدام حسين.

في غضون أقل من سنة بعد عودة الكرد إلى ديارهم المؤمنة نجحت الجبهة الكردستانية في إدارة المناطق المحمية وتنظيم أول انتخابات حرة لتشكيل حكومة للاقليم وبرلمان يراقبها ويشرّع القوانين. كان في الواقع إنجازاً كبيراً في فاصل زمني قصير، بيد ان الحماسة مكنت الكرد من اختصار الزمن ومواجهة التحدي الكبير باقتدار، والسر كان يكمن في وحدة قواهم السياسية.

ملا عمر بين انتخابين

ربما تبادر الى الذهن انني سأكشف عن سرّ كبير، لكنني لست أقصد بـ "ملا عمر" الملا محمد عمر مؤسس حركة طاليبان الافغانية في العام 1994 وزعيمها حتى الآن، وإنما هي قرية ملا عمر الواقعة الى الشمال الشرقي من مدينة اربيل على الجهة الشرقية للطريق بين أربيل وبلدة صلاح الدين الجبلية. هذه القرية كانت أول مكان أشهد فيه، مع مجموعة الصحفيين العرب والأجانب، عملية التصويت خلال انتخابات 1992. كنّا نقيم في مصيف صلاح الدين، وكان هوشيار زيباري مسؤول مكتب العلاقات الخارجية في الحزب الديمقراطي الكردستاني آنذاك، فساعدنا في الإقامة في صلاح الدين التي لم يبق فيها يومذاك فندق أو بيت فارغاً لكثرة النازحين اليها.. رتّب لنا هوشيار في يوم الانتخابات زيارة إلى قرية ملا عمر والمركز الانتخابي فيها قبل الانتقال إلى أربيل لمتابعة معركة انتخابية حامية الوطيس لم تنته فصولاً إلا بعد شهر ونصف الشهر بتشكيل حكومة الإقليم في 4 تموز.

اكثر ما لفت انتباهي في يوم الانتخابات ذاك، أن أهالي القرية الصغيرة البائسة خرجوا عن بكرة أبيهم للإدلاء بأصواتهم.. ارتدوا جميعاً، الرجال والنساء، الملابس الجديدة بألوانها المزركشة المشرقة.. كان موسم فرح حقيقياً.

يومئذ كانت القرية تتشكل من بضعة عشرات من البيوت المتواضعة المبنية بخليط من الحجر والطين والخشب، ولم تكن تتوفر فيها الخدمات العامة.

منذ بضعة اشهر أثناء رحلة لي بين أربيل وصلاح الدين خطر في بالي أن ازور القرية التي بدت لي في 1992 منسية تماماً برغم قربها من الطريقة العامة، لأتعرف على ما آل اليه مصيرها خلال عقدين من الزمن. الفكرة تولدت لأنني كلما زرت اربيل وصلاح الدين والسليمانية وسواها من مدن الاقليم ومناطقه، لاحظت تغيّراً ملموساً على الارض. وعلى الطريق العامة بين اربيل وصلاح الدين، كما في اربيل نفسها، كانت تلوح لي عشرات المباني الحديثة التي ربما لم يكن أحد في قرية ملا عمر يحلم بها قبل عشرين سنة، بل حتى قبل عشر سنوات.

عرس متواصل

أمس زرتُ ملا عمر.. جئتها من بغداد خصيصاً، فقد اخترت المناسبة عن عمد وسابق إصرار.. انه يوم انتخابات آخر، ولا أنسب من هذه المناسبة لاشباع فضول الصحفي.. كل شيء داخل القرية وحولها قد تغيّر تماماً.. الطريق العامة الصاعدة من اربيل الى صلاح الدين التي كانت ضيقة صارت الآن بمواصفات الطرق الدولية، وعلى امتدادها ارتفعت صفوف الاشجار والشجيرات اليانعة، وعلى طولها أيضاً من الجانبين بُنيت القرى الحديثة وارتفعت العمائر الكبيرة من فنادق وأسواق ومعامل وورش عمل وفيلات فخمة للسكن على هذه الارض التي كانت في ما مضى حماداً.(بعض اصدقائي ومعارفي في اربيل يقولون ان هذه العمائر بعضٌ من مظاهر الفساد المالي والإداري في الاقليم. لابد ان هذا صحيح بدرجة ما، لكنني أرغب في أن يحذو فاسدونا، العرب وبخاصة الإسلاميين، حذو نظرائهم الكرد فيستثمرون ما تمتد اليه ايديهم في عمائر كهذه ومنشآت كهذه، لا ان يستولوا على الجمل بما حمل ويهرّبوا بالجمل والحمولة الى الاردن والامارات ولبنان واوروبا واميركا وشرق آسيا).

القرية ذاتها صارت بلدة كبيرة عامرة بالأسواق والمطاعم، تخترقها الطرق المبلطة. والطريق المتفرعة الواصلة اليها من الطريق الدولية أعرض وأفضل مما كانت عليه طريق اربيل – صلاح الدين قبل عشرين سنة، هذه الطريق التي كانت الرحلة عليها تستغرق في بعض ايام المطر والثلج نحو ساعتين، فيما الان تنطلق السيارات عليها كالصواريخ لتقطعها في 20 – 30 دقيقة.

شيء واحد لم يتغيّر في ملا عمر بين 1992 و2013.. انه هذا الاحتفال الموزائييكي بالانتخابات، فأمس أيضاً رأيت النساء جميعاً وكثيراً من الرجال يتقاطرون على المركز الانتخابي بملابسهم التقليدية المزركشة زاهية الالوان التي يرتدونها عادة في الاعياد، وبخاصة نوروز، وفي الاعراس.

أمس بدت لي قرية ملا عمر، بل هي الآن بلدة، كما لو انها لم تزل تحتفل بعرس انتخابات 1992.
 


المدى
العدد (2898) 22/9/2013

 

 

free web counter