| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. أكرم هواس

 

 

 

 

                                                                                    الأربعاء 8/2/ 2012

 

انا حر... فقد اصبحت صديقا للشيطان..
انها... ثورة الحباطل...

د. اكرم هواس  *

منذ اكثر بقليل من ثلاثة اشهر كتبت مقالة بعنوان (ثورة ديمقراطية... ام ثورة الثنائيات..؟) وعدت بالعودة الى الموضوع لاحقا و لكني انشغلت بأمور اخرى و كتبت مقالات عن موضوعات مختلفة و الان اعود الى هذا الموضوع الحيوي و الآني الذي نعيشه و نتلمس تطوراته و تغييراته وان كنا ما زلنا بعيدين جدا عن نتائجه المرتقبة وغير المرتقبة سواء كانت مرغوبة ام ....
في هذه المقالة سأطلق العنان للخيال ، فالخيال هو الذي يصنع الواقع حتى وان كان ذلك بطريقة وهيئة ممسوخة... سأقدم صورة تتجاوز التصنيفات التقليدية بين الحب والكره... بين الصالح والطالح... بين الصح والخطأ... وبين الحق والباطل.. هل يمكن ذلك..؟

مخيال الثورة...
يقال ان الثورة حق... وان الذين تدمي معصمهم القيود من حقهم ان يكسروا هذه القيود... والذين يرزحون تحت نير العبودية من حقهم ان يثوروا ضد السلطان... ويقال ان كل السلاطين ظالمون وان كانوا يختلفون في شدة ظلمهم من زمن لاخر ومن مكان لاخر وضد هذه او تلك من امم الناس.... يقال و يقال... و يقال... ولكن.. اذا كان الحق حقا والحق يعطي لكل ذي حق حقه فهل يحق للباطل ان يكون باطلا وان يعلن سلطانه على كل راغب في مملكة الله...؟ ....او هل يمكن للحق و هو يحق الحق ان يجعل للباطل حقا في ان يكون باطلا على شاكلة الحق نفسه؟....

في الميثولوجيا الدينية فان الله هو الحق والشيطان هو الباطل... وان الله اعطى الحق للشيطان للعمل كما يشاء حتى يأتي يوم الحساب.... وفي ميثولوجيا الرؤية المعاكسة التي يطلق عليها البعض بالالحاد فان الشيطان يمثل تمردا على سطوة الله اي ان الشيطان يمثل رمزا للتحرر من قوانين النظام الكوني الذي خلقه الله.... المؤمنون بالله يعتبرون الالتزام بهذه القوانين تحررا من رغبات و شهوات النفس ... والدين يعتبر العبودية لله تحررا من عبودية الذات... اما الشيطان فيعتبر الذات مهربا من عبودية الطاعة لله ... و اتباعه يسعون الى نشر الفساد و الفتن.... او الثورة .....كما يعتبرها بعض المؤمنين بالفقه التقليدي...

هكذا نشأت الثنائية.. ليس فقط بين طرفين متناقضين بل بين طرفين يدّعيان نفس الشيء ولكن بمفاهيم مختلفة وبآليات متعاكسة... كلا الطرفين يدّعيان الحرية و التحرر.... و لكن شتان ما بين هذه و تلك.. الحرية هنا غير الحرية هناك و التحرر هنا يعني غير التحرر هناك لان القيود هنا هي غير القيود هناك... و لكن لابد ان ينتبه الجميع الى ان هناك دوما قيود... حتى ان الهروب النهائي من قيود الدنيا تدخل الانسان في قيود الاخرة سواء كانت هذه الاخرة القبر الذي يعزلنا عن ما دون ذاتنا... او كانت حياة اخرى بقوانين و آليات و انظمة مختلفة... قد نتصورها فيتسع مخيالنا... او قد نجعلها قيدا جديدا يحد من من حرية مخيالنا..

الثنائية تبدأ من مخيالنا و تنشأ من مدى افق خيالنا... انها تتعلق بفهمنا لانفسنا و حريتنا.. انها تبدأ من حبنا لانفسنا وتوقنا الى تجاوز حدود ذاتنا.. و في سبيل ذلك فاننا نثور حتى دون ان نعرف لماذا نثور ؟ وعلى ماذا نثور؟ ... نحن مازلنا لا نعرف ماذا يجب ان يكون... نحن لا نعرف ان كنا نثور لكي نحقق شيئا خارج ذاتنا ام في ذاتنا..

نحن نسير دون ان ندري الى اين و لا ما هو... ربما نسميه.. هناك... هكذا... و نقوم بأشياء نعتقد انها تخرجنا من طوق ذاتنا.. ربما تكون ثورة... دون ان نتميز من الخيط الرفيع الفاصل بين الحق و الباطل... ما يهمنا هو ان نتحرك... ان نرفض واقعنا... ان نثبت اننا موجودون و اننا نسير... الى ... هناك.. المجهول المرغوب...

ثورة الحباطل...؟
و لكن... في الطريق الى هناك... فاننا نحارب هنا... نحارب بالحرية حرية اخرى لا نعرفها... و نسعى الى التحرر من قيود تؤلمنا لندخل قيودا ستؤلمنا لاحقا... اننا نخوض حرب الحريات ضد انفسنا و ضد الاخرين... نقتل و هنا و هناك و نحتفل بالقتل لاننا من شدة غبائنا... او عقلانيتنا... نظن ان القتل حرية او ان القتل يصنع الحرية.. ونبدي اصرارا غريبا على رفض التعلم من تاريخ اسلافنا... و نتجاوز بعبقرية المستكبر حكمة القاتل الاول....

في الزمن الحديث قتل الاميريكيون الملايين من الاسيويين في فيتنام و لاوس و كوريا و كمبوديا و قبلهم في الفلبين و اندونيسيا.... و كذا فعلوا في اوروبا وما زالوا يفعلون في امريكا الجنوبية و افريقيا... و...و.., هل يوجد مكان على الارض لم يفعلوا فيه... قتلوا و ما زالوا يقتلون باسم الحرية ... حاربوا باسم الله ضد الشيطان الاحمر حيث سبق ان قتل ستالين 25 او ربما 50 مليون شخص ... ثم تحول حرب الامريكيين الى الشيطان الاخضر او الاسلاميين الذين فجروا برجي الثنائية الاميركية.... امريكا هي نفسها نعتها البعض بالشيطان الاكبر... ثم ... فجأة.. و يا لها من مفاجأة... صعقت كل الاغبياء و العقلاء.... تماهت الخطوط و الخيوط... و التقى الجميع عند معبد الديمقراطية..

التكنولوجيا الحديثة و المتطورة جدا قضت على ادراكنا و حساباتنا التقليدية عن الخيط الرفيع بين الليل والنهار عند صلاتنا و صيامنا.... و الاعلام الحديث يبدو انه قضى على الخيط الرفيع بين الحق و الباطل... او بين الشيطان الاحمر و الاخضر و الشيطان الاكبر... الجميع اصبحوا ديمقراطيين و كفى...

هل تعانق الله و الشيطان في السماء؟... سؤال سخيف و مخيف... سؤال يؤرق النفس و يؤدي بصاحبه الى الهلاك الابدي... و لكن المعجزة حصلت هنا على الارض... لقد تعانق الجميع... المؤمنون بهذا و ذاك... لقد تخلى الشيطان الاكبر عن ادواته او اعوانه التقليديين... و تخلى المؤمنون بالحق و الانسانية عن مبادئهم التاريخية.... هذا العناق صنع شيئا جديدا .... مع اعتذاري لكل الثوار و المتحمسين.... انه شيء اود ان اسميه ثورة الحباطل... انها ثورة ليس لها رأس و لا مبادئ واضحة لبناء مجتمعي ... كل ما فيها انها تنادي بالحرية و لكن اية حرية... حرية الحق ام حرية الباطل...؟ لا نعرف...!! ما نعرفه ان القيود تزداد و ان تغير شكلها.. وان الناس ما زالوا يقتلون... والاعراض تنتهك... والنساء تغتصب... والاولاد يغدون يتامى... تحت مسميات مختلفة... بينما يرتفع صخب الاحتفال بالنصر هنا وهناك دون ان يشعر احد بالحرية و دون ان يشبع فقير او يؤوى مشرد...

هل تأكل الثورة ابنائها..؟
مفهوم الثورة والثورة المضادة مفهوم ينم عن طبيعة التشابك الذي يؤلف الثنائية غير القابلة للتفكيك في الوعي الانساني... منذ شهور قليلة مضت وقف القذافي ليعلن... الثورة... الثورة... في وجه الثوار الذين كانوا يحاربونه قبل ان يطيحوا به... الرجل كان صادقا.. على الاقل فيما يتعلق بما كان الناس يطلقون عليه... كل اصدقائه و اعدائه كانوا يعتقدون ذلك... هل ألهم القذافي الثوار الذين قضوا عليه.... ربما... ولكن هل نعتبر ان قضية القتلى الذين يسقطون هنا و هناك في العالم العربي انما هي مصداق لقول ماركس... الثورة تأكل ابنائها؟..

لا اتفق مع ماركس في هذه الرؤية... قد يصدق الامر على الثورة الفرنسية التي ربما الهمت ماركس... و يصدق الامر كذلك على ثورة اولئك الذين الهمتهم افكار ماركس بدءاً بالروس و مرورا باغلب الثورات في اوربا الشرقية واسيا والبلدان العربية ليست استثناء.... الجميع قتلوا رفاق الامس باسم الحرية و الحفاظ على المبادئ... و مواصلة المسيرة... هي تلك المسيرة التي لا يعرف احد منتهاها..

الحكام العرب والمسلمين لا يحتاجون الى افكار ماركس فهم ورثوا ثقافة القتل والاحتفال على جثثهم من اسلافهم... وهم يقتلون ليس فقط باسم الحرية والمباديء.. هم يقتلون باسم الله والشيطان.. باسم الحق والباطل.. ثوار اليوم الذين تحملوا ظلم السلطان طويلا... لا يختلفون كثيرا عن ظالميهم... فالجميع ينهل من ذات الثقافة والماركسيون منهم ازدادوا حجة على حججهم التاريخية التقليدية... الجميع يرى في القتل منهاجا قويما و خلاصا و حياة..!!

قديما كان القاتل و القتيل معروفين بل كان القاتل متباهيا مفتخرا تحتفل به الجماهير بطلا... اما الان فنحن نرى قتلى يزدادون كل يوم دون ان يظهر قاتل واحد... السلاطين واسيادهم واتباعهم والثائرين على هؤلاء وهؤلاء... الكل يرفع صوته في التنديد والشجب والاستنكار... ولا احد يجرؤ ان يقول ... نعم انا فعلت... يا للعجب... واللاعجب... انها ثقافة الشيطان... ان يفعل شيئا و يتبرأ منه... ليس خوفا من احد... بل فقط لكي يعلن تمرده... الناس يرمون بأنفسهم في اتون الثورات دون ان تكون لديهم رؤية كما كان للسابقين من الثائرين... هم يفعلون ذلك كما يفعل الكثيرون ممن ينتحرون والذين يشعلون النار في انفسهم دون ان يحققوا شيئا في هذه الدنيا... ودون ان يضمنوا شيئا في الاخرة...

يقال ان الناس كسروا حاجز الخوف... ولكن هل هو خوف من السلطان... من الذات... من الله...ام...؟ اين نحن.. هل نعرف ذلك...؟؟؟..هل نحن في مملكة الشيطان وهل بسط الشيطان سلطانه..؟؟... وهل مكنته التكنولوجيا ان يمد يده فيقتل او ان يوحي بالقتل والانتحار دون ان يرى احد هذه اليد ...؟ ام اصبحنا جميعا يده دون ان ندري... او ربما لا نريد ان ندري ... فنحن اصبحنا احرارا في مملكة...؟؟؟

 

* اكاديمي عراقي - الدنمارك

 

 

free web counter