| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. أكرم هواس

 

 

 

 

                                                              الأربعاء  2 / 7 / 2014

 

داعش ... و متاهة الفكر
(1)

د. اكرم هواس  * 

عندما أتحدث عن داعش فإنني لا أتحدث بالضرورة عن المجموعة المسلحة التي نشطت في سوريا ثم انتقلت الى العراق منذ ايام قليلة لتنشر الدمار... كما يسميها البعض... او لتحرر العراق من ربق قوى كافرة مظللة عميلة للمشروع الصفوي... كما يسميها اخرون...

أستخدام مصطلح داعش يعزى الى كونه مصطلحا تفاعليا و حركيا تجمع بين الرؤية و الممارسة و لعل اهم مؤشر بهذا الاتجاه هو قيام هذه المجموعة لأول مرة منذ ظهور الحركات الاسلامية المسلحة قبل اكثر من ثلاثة عقود بتحقيق جزئي لقيام دولة الخلافة و لو عن طرق انشاء شكل بدائي و أسس بسيطة غارقة في إسقاطات تاريخية لا تتوافق مع التطور الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي الحالي في الشرق الأوسط..

المصطلح في ذاته يلعب دورا هاما في التوهان الفكري لدى المثقفين ازاء التعامل مع داعش و غيرها من الحركات الدينية السياسية او ما يسمى الإسلام السياسي ... الحالة تنطبق أيضاً على حركات سياسية دينية مماثلة في المسيحية او اليهودية او البوذية و غيرها...

التوهان الفكري يحد جذوره في منهج سياسي يكتفي باعتبار هذه الحركات ارهابية و حسب لان هذا ببساطة هو هروب من مواجهة الحقيقة ... حقيقة ان هذه الحركات لها جذور اجتماعية و فكرية و رغبات و طموحات عقلانية... نعم هذه الحركات و ان بدت للكثيرين مجرد نمط همجي للتعامل بين القوي و الضعيف او بين السلطة و المجتمع او الناس... او بين القدرة الخارقة على العمل و الأستعداد السايكولوجي للاستسلام رغبة في حماية الذات... نعم برغم هذا و ذاك فان هذه الحركات تستند الى أسس عقلانية و علمية في التخطيط و الادارة و التنفيذ ... ربما يسميها البعض قدرة الله و اخرون يضعونها ضمن عمل الشيطان... لكن الحقيقة هي اننا ازاء مجموعات تعمل و تنتشر فكرا و ممارسة في مجتمعات مختلفة و تحت ظروف مختلفة و إمكانيات تقصر هنا و تكثر هناك... و لكنها ناجحة في إيصال رسالتها بالفكر و بالدم...

ما اود قوله هو ان التعامل مع هذه الحركات يجب ان يتجاوز حدود القداسة او الاحتقار... يجب الاقتراب بل و الدخول الى أعماق الأسس الفكرية و المنضومة النفسية لهذه المجموعات... لان التهرب و الفوقية قد منحت هذه المجموعات الشرعية التاريخية و الاخلاقية في التوسع و التمدد و اكتساب المزيد من القوة و الدعم ليس فقط من اصحاب المصالح سواء كانوا شيوخا تقليديين في الخليج و غيرها او من قوى الهيمنة الغربية... بل أيضاً من قوى تشعر بالهزيمة و التهميش في اغلب مجتمعات العالم...

نعم لقد استولت هذه المجموعات على كل القيم التي يؤمن بها الانسان منذ وجوده في مجتمعات ... قيم العدالة و الدفاع عن المهمشين...نعم لقد استولت على رسالة الاسلام في الدفاع عن الحق... و استولت على القيم التطهرية و محاكم التفتيش و قبل تلك قيم شيطنة المرأة في الأساطير القديمة في اليونان وغيرها...و استولت على إرث رجال يحمل الكثيرون صورهم على صدورهم و نموذجيتهم في مخيلاتهم... نعم لقد بدا هؤلاء في زرع شعاراتهم" ISIS الدولة الاسلامية" بدلا من صور Che Guevara... على ملابس تنتج في الدول و توزع على الشباب كما توزع الملابس الحاملة لصور الفنانين و الزعماء التاريخين ...

نعم هكذا... حتى استولت هذه الجماعات على قيم الفن و الخيال العلمي... من جهة نجد فنانين محترمين يخرجون على التلفزيون و يدعون الى القتل و الانتقام ... و من جهة اخرى تقوم عمليات الجماعات المسلحة بالتفوق على اكثر الأفلام الهوليودية في مستوى العنف و الدماء التي يتم هدرها و الاشلاء التي تتناثر في كل مكان... ليس هذا فقط بل الأهم أيضاً سرعة العمل و تدمير العدو و التقدم و الانتشار بسرعة خيالية... فتجمع بذلك بين الخيال الهوليودي و تلفزيون الواقع بشكل غير مسبوق... بالمناسبة كنت قد كتبت تعليقا في ألفيسبوك بعد يومين من عمليات داعش في الموصل و ما تلاها ..." السيطرة على مدينة بحجم مدينة الموصل و ما تلاهما من مدن اخرى بهذه السرعة الخيالية التي لا تحصل حتى في اكثر الأفلام الهوليودية تبسيطا... و لا في خيال اكثر الحالمين سذاجة ... "...

لنتذكر ان الفنانين ليسوا وحدهم الذين سقطوا في وحل استلهام فكر المجموعات المسلحة بوعي او دون بل ان اغلب المثقفين فعلوا ذلك منذ ان ظهرت هذه الجماعات قبل حوالي ثلاثة عقود... لقد سقط الجميع في وحل استلهام المفاهيم من أفواه السياسيين ... بل الأسوأ من كل هذا استلهام المفاهيم من الماكنة الإعلامية السياسية الغربية و الامريكية بصورة خاصة... و لذلك فان كل ما فعله المثقفون هو انهم أصبحوا ببغاوات يرددون " ارهاب... إرهابيين" حتى دون محاولة ابستيمولوجية لوضع هذه التسمية في إطار التطور التاريخي للفكر الجمعي و الحدود بين " إلانا " و " الاخر"...

اخر هذه المزامير الببغاوية هي التركيز على كلام لوزيرة الخارجية السابقة السيدة هيلاري كلينتون من ان هذه الجماعات و من ضمنها داعش هي من انتاج الولايات المتحدة... الله اكبر... الجميع يردد هذا الكلام فرحين و كأنهم اكتشفوا نظريات علمية لم يصل اليها العقل البشري..!!...

أيها السيدات و السادة المثقفات و المثقفين... هذه معلومات بدائية يعرفها طلاب المدارس الابتدائية في الغرب ... ليس هذا فقط... بل ان خروج السيدة كلينتون و التصريح بهذ المعلومات هو جزء من اللعبة الامريكية في زيادة مساحة استغباء الناس في الشرق الأوسط و دفعهم اكثر و اكثر بعيدا عن التفكير العقلاني و إدارة المجتمعات بطرق منهجية علمية واقعية..

احدى النتائج المهمة لعملية الاستغباء هذه هي العسكرة الشاملة للمجتمعات و ترسيخ ثقافة القتل و القتل المقابل او الانتقام.. مرة اخرى اذكر اني كتبت تعليقا على ألفيسبوك بعد ثلاثة ايام من التعليق السابق .." يبدو ان الجميع في العراق قد استسلم لفكرة الانتحار.... فالعقل قد تم تغييبه تماماً بينما تطغى رغبة القتال و إزهاق الأنفس مشاعر الأفراد و الجماعات.... قديما كان الغزاة يحتلون البلاد و يقتلون أهلها.... اما الان فيبدو ان الناس قد قررت إخلاء البلاد للغزاة قبل ان يصل هؤلاء..!!!... ترى من الذي سيحل في العراق بعد ان ينتحر سكانه...؟؟؟.. سؤال مجنون و لكن هل ما يحصل في العراق اليوم اقل جنونا باي مقياس...؟؟.. "...

تساؤل بسيط للمثقفين لان الامر يدخل في صلب عملهم و ليس له علاقة مباشرة و حصرية بالتقدم التكنولوجي ... لماذا ينجح الغرب في ترويض كل انواع الحيوانات و اشرسها و لماذا لا ينجح المسلمون في ترويض أنفسهم...؟؟؟.. و يمكن ان نطرح السؤال بشكل اخر يمس ما تشهده ساحات العديد من البلدان المسلمة هذه الأيام ....لماذا يحول الغرب التحديات و الصعوبات و المشاكل الى طاقة إيجابية بينما يحول المسلمون الكثير من الإمكانيات بمجرد ظهورها الى طاقات مدمرة ...؟؟.. هل تعلم المسلمون عبر التاريخ الحديث لماذا و كيف تحولت الثروات الهائلة من النفط و غيرها الى محارق و مذابح بدلا من التنمية و التطور...؟؟؟...

ثم.... السؤال الذي اريد ان أصل اليه هو... لماذا اعتبر ظهور الحركات الاسلامية مثل وباء حاول الجميع التخلص منه بسرعة بينما ظل هو يتمدد و يتوسع بل يزداد قوة و عنفا حتى اصبح الان غولا لا يمكن رده... او حتى ترويضه..؟؟؟..

لا شك ان الهزيمة الحقيقية بدأت في تلك اللحظات التي تهرب فيها الجميع من واقع التعامل مع الأسباب و الأزمات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية التي أنتجت مجموعات من الشباب كانت ساخطة على حالة الفراغ الثقافي بين النظام الاجتماعي التقليدي الذي كان يحاربه المثقفون و القوى السياسية من جهة..... و من جهة ثانية... الحداثة التي تغنى بها الجميع دون ان يعرف احد كيف يمكن وضعه في إطار التطور الاجتماعي .... اما الان فان السقوط الحر في وحل العسكرة التامة للمجتمع هو اعظم انتصار لثقافة الحركات المسلحة و ثقافتها و منهجها الاجتماعي و خطابها السياسي و منظومتها التأويلية للقيم الاخلاقية...

هذه المناهج لا تختلف كثيرا عن مناهج الأنظمة العسكرية و الميليشياوية المهيمنة في المجتمعات المسلمة.... و عليه فان مشكلة المثقف عندما يتقمص روح السياسي هي انه لا يفرق بين القوة و العدالة... يعتقد ان اعتلاء السلطة و إظهار العنجهية في التعامل مع الناس و مع الاخر إنما هي إشارات تحقيق العدالة التي .... وفق ذهنية الملحمة التاريخية ...لا تفرق بين هذا و ذاك من الناس و المجموعات و القوى المختلفة... العدالة تتحق عندما ينحي الجميع امام سلطان القوة...

هذه السقطة التاريخية لا تخص المثقفين المرتبطين بالمشاريع الدينية و التقليدية- الثقافية و إنما أيضاً و بشكل اكبر احيانا بالمثقفين المنخرطين في المشاريع السياسية لليسار و اليمين من المحافظين والليبراليين و الماركسيين و الوطنيين و القوميين و غيرهم.. الذين أراحوا ضمائرهم بوصم هذه الجماعات بالإرهاب ... هكذا دون اي عمل حقيقي في اجراء دراسات علمية عن القوة الدافعة وراء ظاهرة الشيزوفيرينيا الفردية و الجمعية و تبني العنف منهجا للتغيير الاجتماعي...

نتوقف هنا و نواصل في مقالة لاحقة... حبي للجميع

 

* اكاديمي عراقي - الدنمارك

 

 

free web counter