| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عزيز الحاج

 

 

 

الأربعاء 8/10/ 2008



مسيحي "أقلياتي" أستاذا في ثانوية النجف!

عزيز الحاج

أما الأستاذ المسيحي، فهو اللبناني إسكندر حريق، وأما الزمن، ففي بداية الثلاثينات الماضية.
الصحفي، والأديب المتميز، الفقيد جعفر الخليلي، ينقل لنا القصة في كتابه البديع "هكذا عرفتهم."
يقول إنه في تلك الفترة كانت ثانويتا النجف، والموصل، مثار دهشة رجال المعرفة والعلم، لتقدمهما المطرد، ونشاطهما الدءوب، ولذا كانت وزارة المعارف [التربية]، تعطي أهمية خاصة لتزويد الثانويتين بمدرسين ذوي كفاءات عالية، وكان معظمهم من اللبنانيين، والسوريين، ولكن الغالبية كانوا مسيحيين. ظلت الوزارة تتردد طويلا في إرسال مدرس مسيحي للنجف خوفا من ردود الفعل السلبية للسكان، كما أنه لم يكن سهلا على أستاذ عالي الكفاءة أن يقبل بإيفاده للنجف، حيث ضعف كل الخدمات عهد ذاك، من كهرباء، وماء نقي، وعلاج طبي. بعد التردد الطويل قررت الوزارة أخيرا إيفاد أفضل أولئك الأساتذة، ممن يمكنهم أن يضحوا في سبيل المعرفة والتعليم بالكثير من وسائل الراحة الشخصية، وقد وقع الاختيار على إسكندر حريق، المولود في ظهور الشوير، وخريج جامعة كولومبيا الأمريكية، والذي كان قد طاف أغلي أقطار القارة الأمريكية.

يقول الخليلي في الجزء الأول من مؤلفه:
" جاء إسكندر إلى النجف، وقد وضع كل هذه الأمور نصب عينيه، وكان يقول إنه لم يكن يفكر في شيء من هذه الأشياء بقدر ما كان يفكر في كيفية اندماجه في المجتمع النجفي، وكسب رضاه، فإذا بكل شيء يتلاشى في ذهنه، وإذا إسكندر يتبوأ في أيام قليلة محلا قلما ظفر به أحد من أبناء المسلمين، فكيف بمسيحي ينتقل رأسا من عاصمة "الكفار"، على حد تعبير بعض الجهلة، إلى عاصمة المسلمين ليتولى تعليمهم، وليقوم بتدريس علم الاجتماع!!"
كانت النجف عهد ذاك تضم شرائح ممن ينعدم في نظرهم "أي فرق يأتي من الجنسيات، والأديان، والمذاهب". هذا الأستاذ المسيحي، اللبناني، صار صديقا لعدد غير قليل من كبار رجال الدين أنفسهم، كالشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ محسن شرارة، وغيرهم. لم تكن عهد ذاك، فتاوى من رجال الدين هؤلاء بأن المسيحي "نجس"، ومصافحته محرمة إلا بشروط دقيقة!

لماذا أورد هذه الواقعة من تاريخنا الحديث؟
أوردها بمناسبة قرار البرلمان العراقي الذي يطمس تمثيل من ندعوهم "الأقليات"، أي الأقلية العددية بالنسبة لعدد المسلمين العرب.
لقد بادر عدد من الكتاب العراقيين إلى شجب ذلك الموقف التمييزي، وكان عنوان أحد المقالات "كلنا أقليات"!
إن قضية إسكندر حريق كانت مثالا، من أمثلة كثيرة لا تعد، عن التعايش الأخوي بين سكان العراق، على رغم تباين الدين، والمذهب، والقومية. نعم إنه كان "عراق ذلك الزمان"، والوصف مقتبس من كتابي "بغداد ذلك الزمان"، الصادر عام 1999، واخترت بغداد لكونها قلب العراق، والنموذج الأول لعراق أيام زمان.
في ذلك الكتاب كرست فصولا، خاصة عن دور المسيحيين واليهود في التاريخ السياسي، والثقافي، والاقتصادي، والعلمي العراقي، وأوردت مثال ساسون حسقيل كوزير، منذ العشرينات، كان يشغل مواقع وزارية هامة، والعالم الكبير، الصابئي المندائي، عبد الجبار عبد الله، في عهد عبد الكريم قاسم، الذي أشغل منصب رئيس جامعة بغداد، وعن الألوان القومية، والدينية، والمذهبية المتعددة في الحياة الأدبية، والعلم، والطب، والرسم، والنحت، والموسيقى، والغناء. كان عراق الأخوة برغم السياسات العنصرية، أو الطائفية، لبعض الحكومات المتعاقبة. كان عراق الليلي الساهر، والملاهي والسينمات والغزل، مثلما كان عراق المآتم الحسينية، ومناقب المولد النبوي. تلك الملاهي؟ نعم، وقد عرفها العراق منذ أواخر العهد العثماني، وبقيت في كل ظروف العراق الحديث، دون أن يجرؤ سياسي، أو رجل دين على غلقها، أو المطالبة بذلك، كما تفعل حكومة المالكي اليوم، ولا ندري ونحن إذ نسأل: ماذا يقول علماء الدين اليوم، وزعماء الأحزاب الدينية الحاكمة، عن غزليات العالم الشيعي الكبير محمد سعيد الحبوبي، الذي كان من ضمن ما كتب:

            يا غزال الكرخ، وا لهفي عليكْ               كاد سري فيك أن أن ينتهكا

أو قوله:

          فاسقني كأسا، وخذ كأسا إليك                فلذيذ العيش أن نشتركا

نعم، لقد تعرض تنوع النسيج العراقي، بأديانه وطوائفه وقومياته، إلى شروخ كبرى في عهد رئاسة صدام حسين، من تمييز قومي ومذهبي، وعندما انتقلنا لعراق اليوم، فقد زاد خراب النسيج على خراب، وهو ما كرسنا له خلال السنوات المنصرمة، عشرات المقالات عند الحديث عن مآسي المسيحيين والصابئة المندائيين، وعن قتل كبار رجال الدين المسيحيين، وحرق الكنائس، والتهجير الجماعي، دون أن تصدر، على حد علمنا، فتوى دينية واحدة تدين، وتحرم، تلك الجرائم الوحشية. إن الدفاع عن المسيحيين ليس مسا بالإسلام كما يتنطع بعض الكتاب في البلدان العربية، بل هو دفاع عن رسالة التسامح، المفترض أن تنادي بها الأديان، ودفاع عن حقوق الإنسان، ونحن في القرن الحادي والعشرين.

أخيرا، انتهز هذه الفرصة لأحيّي بحرارة كتابنا الشجعان الذين هبوا لإدانة قرار البرلمان، وكذلك لقرار غلق الملاهي الليلية. هؤلاء هم الحريصون على مصالح شعبنا، وترسيخ وحدته الوطنية، تحت خيمة العراق الواحدة.


8 أكتوبر 2008

 

free web counter