| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عزيز الحاج

 

 

 

 

نسخة سهلة للطباعة
الجمعة 18/11/ 2005

 

 

 

عودة السجون السرية لصدام وحملات الاغتيال

 

عزيز الحاج

منذ أيام، كتب كاتب عراقي أنه، حتى لو أقسم قادة التنظيمات الشيعية الحاكمة ألف مرة في اليوم بنفي التدخل الإيراني، فإن وقائع الأرض هي التي تفند تلك الشهادات.
إن فضائح وفظائع هذا التدخل كثيرة، وإن الستار يرتفع عن بعضها؛ فبعد فضيحة مجموعة "ثأر الله" الإرهابية بمبادرة من محافظ البصرة وحزبه، الفضيلة، يرتفع اليوم الستار عن جرائم أكبر في قلب بغداد، ودور ضباط المخابرات الإيرانية فيها، واختراقهم لمنظمة بدر ووزارة الداخلية ووزارة الأمن القومي. بالأمس كشفت محافظة البصرة عن العلاقة المباشرة بين المجموعات الإرهابية هناك بإيران، تسلحا وتمويلا وتعليمات، وسلسلة جرائم الاغتيال بأيديهم في البصرة، واليوم فإن فضيحة السجن السري في بغداد، وإدارتها من جانب المخابرات الإيرانية، توجه صفعة قوية لجميع الدعايات النافية للتدخل الإيراني، الذي قال عنه كاتب عراقي آخر في مقال له: "إيران لا تتدخل، بل هي في عقر دارنا."! ومن حسن الحظ أن القوات الأمريكية باقية وبفضلها تم كشف السجن السري، وربما مستقبلا، سجون ومذابح أخرى. أجل إنه لمن حسن الحظ، وإلا لأصبح العراق ممزقا وساحة لمذابح جماعية متبادلة. ولذا فمن الباطل ما يدعيه البعض عن أن الأمريكان كانوا يعرفون بوجود السجن السري وتعمدوا الصمت طويلا عنه. ادعاء كادعاء آخرين في مقالاتهم بأن هناك أصابع أمريكية في عمليات العنف الأخيرة بفرنسا!
إن شيعة العراق قد تعرضوا في العهود العثمانية وبعد قيام الدولة العراقية الجديدة، لسياسات تمييز طائفي تمثلت خاصة في الوظائف الحساسة. وقد بلغت هذه السياسة منتهى الوحشية والهمجية في عهد النظام البعثي المهزوم، ولا سيما حملات التهجير وفي القمع البربري لانتفاضة مارس 1991. وواجه الشيعة في العهد البعثي إساءات واتهامات كثيرة، وخصوصا اعتبارهم طابورا خامسا لإيران. ونعرف حملات التهجير الواسعة في الثمانينات للشيعة من الفيليين والعرب بتهمة "التبعية" لإيران.أما اليوم، فقد صار العراق بين نار الإرهاب الصدامي ـ الزرقاوي وبين رمضاء التنظيمات والمليشيات الشيعة المسيطرة على مفاصل السلطة، وعلى جنوب العراق؛ وكنت قبل أكثر من عام قد نشرت مقالا عنوانه " هل بين النار والرمضاء؟" هل هذا هو الخيار الذي كان مقدرا للشعب العراقي بعد استرداد حريته بفضل الأمريكان أولا؟
إن الانتهاكات الكبرى في البصرة والجنوب وجرائم جيش المهدي بالأمس واغتيال كبار الشخصيات بعد سقوط صدام مباشرة، كالمرحوم الخوئي ومن بعده المرحوم السيد محمد باقر الحكيم، كلها مرتبطة بأصابع الحرس الثوري والباسداران كما كشفت مئات التقارير والوقائع على مدى أكثر من عامين ونصف. إن الأحزاب والأطراف السياسية الدينية الحاكمة تقدم نموذجا جديدا من الاستبداد يقارب استبداد النظام الصدامي، خصوصا في الخطف والاغتيال والسجون السرية واستخدام التعذيب حتى الموت. فهل هذا هو ما حلم به العراقيون والضحايا الأبرار؟؟! لماذا لم تستطع، بل لا تريد، هذه الأطراف أن تحدث تغييرا حقيقيا لصالح العملية الديمقراطية؟ بالطبع لأن لها جميعا برامج للحكم الإسلامي، ولان معظمها مرتبط بشكل أو آخر بالأجهزة الإيرانية. ولم يكن من الصدف أن تخلو مسودات الدستور قبل المعتمدة والتي كتبت بعقلية طائفية حتى من كلمة ديمقراطية. ومع ذلك جاء دستورهم أخيرا مرقعا وكسيحا، وفيه بنود تفتح الباب لقيام النظام الإسلامي.
يقول الدكتور النابغة الوردي في الجزء الرابع من كتاب "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث": "مشكلة البشر أن كل فريق منهم حين يقص تاريخه إنما يذكر منه جانبا واحدا وينسى الجانب الآخر؛ إنه يذكر الفظائع التي أوقعها خصومه به وينسى الفظائع التي أوقعها هو نفسه بخصومه." وفظائع ضحايا أمس في العراق هي فظائع ما بعد استرداد الحرية بسقوط النظام البعثي. إن هذه الفظائع راحت تتزامن مع الفظائع الجماعية الرهيبة لقوى الشر الإرهابي والتي راح عدد كبير من المواطنين الشيعة أنفسهم ضحايا لها.
لم تعتبر النخب الشيعية الحاكمة وشرائح واسعة من رجال الدين والمثقفين الشيعة بالتجارب المرة والقاسية، ولم يتعلموا كيف يتصرفون بعقلية جديدة تقوي روح المواطنة وسيادة القانون، والممارسات الديمقراطية، وتعزل العنف ودعاته ومقترفيه. وبدلا من الاتعاظ بعواقب التهمة التقليدية للشيعة بكونهم ذيلا لإيران، راحت هذه الأطراف تتصرف بالعكس تماما، ساعية بمناسبة وبدونها لتزكية النظام الثيوقراطي ونفي تدخله الواسع النطاق. هل يا ترى نسوا بسرعة ما حل بشيعة العراق المهجرين بالقوة لإيران على أيدي ذلك النظام الذي ادعى ويدعي أنه حامي شيعة العراق من الظلم؟! هل نسوا سياسات وممارسات التمييز العنصري التي مورست ضد ضحايا التهجير هم وأطفالهم، مما أجبر رجال سياسة ودين من الشيعة العراقيين على شجب تلك الممارسات في مذكرات نشرت ووجهت للسيد خامنئي؟ لماذا صرنا نجد حتى سياسيا معروفا بتاريخه اللبرالي والعلماني ودوره الكبير في حركة المعارضة ضد صدام، وأعني الدكتور الجلبي، يعلن من واشنطن أن إيران سوف تدعم ترشيحه لمنصب رئيس الوزراء؟ ونعلم أيضا علما بأن الاعتقالات الألمانية الأخيرة لعدد من العراقيين بتهمة تدبير اغتيال الدكتور علاوي، كشفت ارتباطهم بالأجهزة الإيرانية. هل يليق بساستنا أن يبحثوا عن دعم إيران التي تحارب العملية السياسية في العراق، بدلا من التركيز على كسب دعم الشعب العراقي ببرنامج وطني ديمقراطي علماني، لا يغازل إيران ولا يدعي نسبا ما لمرجعيات مذهبية؟
لا المعاناة المركزة للشيعة ولا تلك التي تعرض لها الشعب الكردي طوال التاريخ الحديث، تبرران الانكفاء طائفيا أو قوميا، بل المطلوب من الجميع أن يستظلوا تحت المظلة الوطنية العراقية، مع احترام وصيانة كامل الحقوق والحريات، أي تعددية ديمقراطية يجمع بين ألوانها قاسم مشترك أعظم، وهو المواطنة العراقية.
أخيرا نقتبس من المقال الأخير لرشيد الخيون في الشرق الأوسط إذ يقول: "إن استمرت تلك التحالفات الطائفية [ أي سنية وشيعية] في لعب دورها السياسي: تتبادل عدم الثقة وتتسابق لتثبيت المكاسب، سيأتي يوم يسمى فيه تمر البصرة شيعيا، وتبغ الجبال كرديا، وبرتقال بعقوبة وبطيخ سامراء سنيين. عندها سننسى أسماء المدن، واسم العراق، لتحل محلها مثلثات وأهلة ومربعات."