| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عادل حبة

adelmhaba@yahoo.co.uk

 

 

 

 

الأربعاء 28 /12/ 2005

 

 

 

الواجهات المذهبية مأزق لا يخرج العراقيين من محنتهم
 


عادل حبه

في البداية لا بد من الاعتراف والاقرار بنتائج الانتخابات الاخيرة والتي شاركت فيها غالبية اطياف الشعب العراقي، حيث بلغت نسبة المشاركين حوالي 70%. وفي هذا الاطار فهي قد لا تبشر بخير الا اذا احسنت كل الاطراف دراسة الوضع المعقد الملموس وادارة الصراع والتنافس السياسي السلمي بينها واخذت عبرة من نتائجها واتعضت من السلبيات التي رافقتها بعيدا عن التعصب الحزبي والمذهبي الطائفي ولصالح كل العراقيين.
وعلى الرغم من الطعون التي قدمت الى المفوضية العليا للانتخابات، في ظل احتمالات شبه مؤكدة للتزوير وممارسات معادية للديمقراطية من زاخو الى الفاو مثل القتل وحرق مقرات بعض الاحزاب واغتيال بعض المرشحين او من يدعو الى المشاركة في الانتخابات وخروقات للتعليمات الانتخابية والتي لا يمكن نفيها ويجب ادانتها والتي بانت منذ انطلاقة الحملة الانتخابية، الا ان نتيجة الانتخابات في اعتقادي كانت متوقعة في ظل التطورات والتشوهات التي طالت المجتمع العراقي في ظل النظام السابق وما انكشف بشكل مثير للقلق بعد الاطاحة به. فلقد اتخذ الصراع السلمي منه او العنفي في الاساس واجهة خطيرة هي الواجهة المذهبية. وعلى الرغم من تشبث بعض الاطراف بتصوير هذا الصراع وكأنه موجه ضد القوات المتعددة الجنسيات او كمسعى لاستعادة استقلال العراق وغيرها من الشعارات الوطنية او القومية، الا ان هذا الادعاء لا يمت في الحقيقة بصلة الى جوهر الصراع الحقيقي الذي اتخذ طابعاً مذهبياً طائفياً بحتاً. ويكفي ان نلقي نظرة على صفحات المواقع العراقية وغير العراقية الالكترونية بل وحتى على صفحات الجرائد العراقية ليتأكد للجميع صحة هذا الرأي. ومما زاد الطين بلة وللاسف فان هذه النزعة شحنت وأججت خاصة من قبل الغلاة من رجال الدين في الطائفتين المذهبيتين الرئيستين ومن الوافدين الاجانب سواء قبل الاطاحة بالحكم السابق او بعده حيث بدرت ممارسات عجيبة لم يشهدها الشارع العراقي خلال كل فترة الجدال المذهبي في العراق.
ان نتيجة الانتخابات، كما تدل النتائج الاولية، اتخذت بالاساس طابعاً مذهبياً في غالبيتها. فمن بين مجموع مقاعد مجلس النواب العراقي القادم البالغة 275 تحتل الكتل المذهبية المتطاحنة حوالي 190 مقعداً، في حين لا تحتل الكتل الاخرى غير المذهبية الا حوالي 80 مقعداً. وهذا يعني ان المجلس سيكون ساحة للجدال والتجاذب المذهبي وبعيداً عن حل مشاكل العراقيين بكل اطيافهم. ومع احترامي لارادة الناخب العراقي الا انني لابد من أن أقول بصراحة و بمسؤولية الحرص على بلدي العزيز ان هذا الناخب قد أخطئ خطأًً فادحاً في خياره القائم على الخيار المذهبي. ان البلاد ستتعرض نتيجة لهذا الخيار البالغ الخطورة الى حالة من الفوضى والتشتت والصراع العقيم المدمر ولا يحرر العراقيين من محنتهم القائمة ولا يستتب نظام ديمقرطي عصري مزدهر. ولا بد ان الناخب العراقي سيعترف في نهاية المطاف بخطأه ليغير بصعوبة وعبر معاناة ومحن غير مبررة هذه المعادلة في انتخابات قادمة ويبدل صورة التنافس من المذهبي الى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
ان خيار الناخب العراقي هذا ما هو الا حصيلة متوقعة لجملة من المظاهر السلبية الخطيرة التي تعرض لها المجتمع العراقي وعلى الخصوص خلال اربعة عقود من حكم حزب البعث العبثي في العراق، حيث غيبت بقسوة وقمعت الفئة التنويرية اي قوى الحداثة التي لم تستطع وبعد اكثر من سنتين من لملمة قواها واستعادة توازنها من اجل التأثير على الوعيالاجتماعي. ان الحكم المنهار عمم ثقافة العنف والاستبداد والتمييز المذهبي والعرقي والتجهيل السياسي والثقافي اللاعقلاني. وهذا الحكم هوالذي اسس لتشويهات خطيرة في الهوية الوطنية وقيمة المواطنة العراقية ولم يؤد الى خلط الاوراق وتشويه مدمر في الوعي السياسي والاجتماعي للمواطن العراقي فحسب، بل وحتى طال التشويه النخب السياسية ووسط من المثقفين العراقيين الذين راحوا يتسابقون بشكل محموم للتشبث بهذه المعايير المشوهة والمتاجرة بها او التعكز عليها لكي يتم اسقاط حوادث تاريخية لقرون مضت علىالوضع العراقي بتعقيداته الخطيرة الراهنة.
ان الناخبين العراقيين، ومع احترامنا لخيارهم، لم يتعضو من اخطاء مماثلة لشعوب اخرى وقعت في هذا الفخ اللعين من الخيارات الخاطئة. فالشعب اللبناني ومنذ استقلال لبنان عام 1946 اختار هو الآخر هذا الخيار الطائفي المذهبي الخاطئ ولم يحصد خلال كل سنوات بناء الدولة اللبنانية الحديثة سوى نتائج مدمرة من حروب اهلية عديدة. وتحول لبنان جراء ذلك الى ساحة دائمة لصراعات دولية واقليمية سواء دول كبرى او دول عربية واسرائيل واخيراً الدور الذي يلعبه التيار المذهبي المتشدد الحاكم في ايران على الساحة اللبنانية وليتحول لبنان الى ساحة لتصفية الخلافات غير اللبنانية ولكن بأيادي لبنانية، بل وسلم غالبية اللبنانيين رقابهم الى جهات خارجية. ونتيجة لهذا الخيار الخاطئ لم يتم بناء دولة عصرية مستقرة متماسكة ولا جيش موحد ولا دولة تخدم المواطن اللبناني بغض النظر عن هويته المذهبية، واصبح لبنان شئنا ام ابينا دولة المشايخ والامارات المذهبية.
ونتيجة لذلك تفشت في هذا البلد الشقيق ظاهرة الميليشيات المسلحة المذهبية التي تتجاذب زمام الصراع لحرف النشاط السياسي عن لغة الحوار العقلاني والبرامج الاجتماعية الاقتصادية. وتحولت الميليشيات الى مؤسسات ذات مصالح مافيوية لا تمت بصلة الى مصلحة المواطن لانها تمول بالاساس من قبل قوى لا تريد الاستقرار لهذا البلد. ولقد شهد الجميع بألم موجات التصفيات الجسدية لزعماء سياسيين لبنانيين حاولوا بناء الحياة السياسية في لبنان بعيداً عن التجاذبات الطائفية وبنحو يعزز الهوية الوطنية اللبنانية. فالشهيد رفيق الحريري كان من بين رؤساء بضع احزاب لبنانية جمعت في صفوفها جميع مكونات المجتمع اللبناني، المسلم والمسيحي بكل طوائفه والدرزي والارمني وغيره، على قاعدة برامج الاحزاب الحديثة وكسب حزبه رصيداً سياسياً واسعاً بما كان يبشر ببداية ناجحة لوضع لبنان على سكة المواطنة اللبنانية والحياة الديمقراطية السليمة. الا ان هناك قوى، خاصة الاقليمية منها، تخشى هذا المنحى وتسعى لعرقلته لانه يهدد بزوال نفوذها واستعراض عضلاتها في هذا البلد مما دفعها الى ارتكاب جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري وما تبعه من تصفيات لشخصيات تحمل نفس الرؤى مثل جورج حاوي وآخرين.
وفي هذا السياق لم يتفحص الناخب العراقي بعمق ممارسات واخطاء مماثلة ارتكبتها شعوب اخرى اختارت الواجهات المذهبية في الصراع والمنافسة السياسية ونذكر منها أيضا شعوب افغانستان وايران وايرلندا، هذا الى جانب دروس اخرى لصراعات مذهبية سواء في بلداننا او في بلدان غربية في عهود سابقة والتي لم تؤدي الا الى مذابح وسفك دماء الابرياء والقتل على الهوية دون ان تحل هذه الواجهات مشاكل البشرية وتقدمها وازدهار المجتمعات الانسانية. وهذه النزعة لا تعزز بالتأكيد المشاعر الدينية المقدسة في قلوب ووجدان خلق الله بل بالعكس.
ويزداد القلق في العراق من هذا الخيار من كونه يوجه مشاعر العامة نحو امور تاريخية لا يتحمل وزرها المواطن العراقي او مواطني الدول الاخرى. ولا يراد من ذلك أخذ العبرة من هذه الاحداث التاريخية، بل لاسقاطها على واقعنا الراهن وشتان ما بين العصرين. ان محاولة البعض تشبيه الانتخابات الاخيرة بيوم "الغدير" هو امر يثير الدهشة ولا يعبر عن احترام للدين بل محاولة رخيصة لاثارة عواطف الناخب لا اكثر، فأين هو رسول الله والامام علي في هذا الاسقاط التاريخي على واقعنا الراهن؟. وفي المقابل لم يتردد غلاة التطرف المذهبي الآخر عن استخدام تعابير مثل الصفوية وغيرها لتحريض العامة على الطرف المقابل.
ان العامة من الناس قد لا تعرف تفاصيل هذه الاحداث التاريخية التي تلعلع الآن في شوارع بغداد ولكنهم ينفعلون ويخرجون في المظاهرات ويرددون هتافات لا يقدرون هم معناها اعتماداً على الاثارات التي يؤججها بعض غلاة رجال الدين ومن يحيطهم من الافندية. انها نماذج من جملة نماذج عنصر الاثارة المذهبي التي يجري استغلاله بشكل مريب وسيئ ويخرج عن اطار الايمان الروحي و يتحول الى امر اشبه "بالطنطل" على حد تعبير الاعزاء من ابناء النجف الاكارم. هذا "الطنطل" الذي يزيح كل ما هو معتدل وعقلاني في الفكر الديني وغير الديني ويثير الكراهية والعصبية ويقضي على عنصر الموضوعية والاعتدال الذي تحتاجه المجتمعات الانسانية وخاصة مجتمعنا العراقي المبتلى الآن بمظاهر الصعلكة والفتوات والجريمة المنظمة بحيث اختلط الحابل بالنابل. ان كل هذه "المسابقات المذهبية" تهدف الى حرف الرأي العام عن المهام الخطيرة التي ينبغي على العراقيين التصدي لها مثل مكافحة الارهاب والفقر والعنف والفساد والسرقات الشاملة وازالة آثار الديكتاتورية وثقافة "الاب القائد"، وهي تؤدي بالاساس الى الاجهاز على ما تبقى من هذه البلد العزيز.
ان هذه الاثارة لعواطف الناس البسطاء هي التي شوهت تاريخنا الذي يمتد لعدة قرون واشاعت مآسي يندى لها الجبين. فبعد ان اكمل الرسول الكريم رسالته ونزلت عليه الآية الاخيرة القائلة :"اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً" في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، غادر النبي هذه الدنيا بدين واحد. ولكن ما ان مرت سوى فترة وجيزة حتى شمر غلاة التطرف عن ساعدهم ليشرعوا بإغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين. واستمرت الموجة العارمة للقتل لتشمل كل من آمن حقاً بهذه الرسالة السماوية ودافع عن مصالح العامة وشملت حتى ذرية النبي الكريم والعقلاء بدون استثناء. ولم ينحصر الامر بذلك بل ادى خلال هذه القرون الى ان يتحول الدين الواحد الى ثمانية مذاهب يتفرع منها 75 فرقة، هذا بإستثاء "مذاهب" بن لادن والزرقاوي وبقية الشلة الشريرة!!. ولم يحاول احد او لربما فشل بعض العقلاء في اعادة العجلة الى دائرة الدين الواحد الذي بدأ به المسلمون الاوائل. فالمصالح تنوعت بحيث اصبح من المحال جمع هذا الشتات من جديد رغم عبارات بوس اللحى التي تطلق بين الحين والآخر. ومن هنا فإن اي مسعى، خاصة في الحالة العراقية ذات التنوع المذهبي والعرقي، لفرض الواجهة المذهبية على العمل السياسي لا يؤدي الا الى صراعات مذهبية خطيرة ودوامة من العنف لا يريدها للشعب العراقي الا عصابات الزرقاوي وفلول النظام السابق الذي يسعى الى اعادة سيطرته على الحكم.
ومن هنا فإن هناك مسؤولية تاريخية وانسانية ملقاة على عاتق الاحزاب المذهبية الطائفية بكل الوانها بأن تتخلى عن هذا النهج الخطير وتكف عن ادلجة السياسة وتخاطب المواطن العراقي بمحتويات برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليس عبر واجهاتها المذهبية، ويتخلى رجال الدين عن تحويل الجوامع والمساجد الى مراكز للتجنيد وتشكيل السرايا والجيوش والفيالق والاثارة وتخزين المفرقعات في دور العبادة. وان يعود هؤلاء الى اداء مهامهم الروحية في بيوت الله في التخفيف عن المأزق الوجداني والروحي للمواطن العراقي الذي يمر في مرحلة النقاهة بعد الطاعون الذي طغا عليه في العهد السابق، وان يخففوا من غلوائه ودعوته الى الحكمة والتبصر وبناء البلد والكف عن اثارة الكراهية والعداوة بين ابناء الشعب الواحد، والا فسيفلت الزمام من الجميع ويتم الاطاحة برؤوس الجميع ويستتب الامر لرموز التطرف والغلو والقهر. ان الشعب العراقي لا يتحمل احداث الصراع الدامي المذهبي الماضي ومحنه وآلامه ويكفيه ما شهد من قبور جماعية وحرق بالسلاح الكيمياوي وتصفيات بالجملة على يد النظام المنهار.
وعلى الاحزاب المذهبية بكل الوانها ان تترك الايمان المذهبي والديني للمواطن واحترام خياره وابعاد هذه المعتقدات عن المضاربات والنشاطات السياسية والانتخابية وعدم التعويل والتمويل على جهات خارجية متخلفة، كالزرقاوي والقاعدة واساطنة التكفير واثرياء الارهاب في الخليج من جهة او على الحرس الثوري لولاية الفقيه في التيار المذهبي المتشدد في ايران من جهة أخرى، التي لها اهدافها التي تتعارض مع مصالح العراقيين. هذا هو الطريق الوحيد امامنا والا سيتحول العراق الى نموذج اسوء من مصير لبنان، ويتحول البلد الى ساحة للصراعات الاقليمية والدولية ويدفع العراقيون ثمن ذلك بالدماء وتدمير البلاد كلياً.