| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عادل حبة

adelmhaba@yahoo.co.uk

 

 

 

 

الثلاثاء 13/12/ 2005

 

 

 

"ديمقراطية" البلطجة
 


عادل حبه

لا بد من النظر بجدية الى "تقليعة" رائجة الآن في تلك البلدان التي تحاول الانتقال من حالة الاستبداد الى الممارسة الديمقراطية واعتماد دولة القانون ونبذ العنف وكل اشكال الطغيان. هذه "التقليعة" الرائجة الآن ما هي الا تقليعة "ديمقراطية البلطجة"، وهي ممارسة جديدة في البلدان التي اكتوت بطغيان الاستبداد المشين ومنها البلدان العربية والتي تسعى أخيراً الى شق طريقها على درب الديمقراطية. اننا لو راجعنا تجربة شعوب اخرى لوجدنا ان "ديمقراطية البلطجة" هي الاخرى قد برزت في بعض المجتمعات التي سبقتنا في السعي لإرساء الديمقراطية ودولة القانون في بلدانها. ففي تلك البلدان التي خطت مبكراً على طريق الديمقراطية، سعت القوى الاستبدادية المنهارة او تلك القوى السياسية التي تتمسك بنهج الاستبداد الى تخريب العملية الديمقراطية وفرض مواقعها بالترهيب او الترغيب. ولم تتردد هذه القوى عن الاستعانة بالمافيات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة لكي تشوه ارادة الرأي العام وتزيفها لصالح استمرار القوى المنهارة في طغيانها وتجبرها وفرض ارادتها على المجتمع بعد ان فشلت في فرض طغيانها المباشر في عهود سابقة. هكذا كان الامر في البلدان الاوربية والولايات المتحدة، حيث اضطرت قوى الاستبداد الى التراجع امام ضغط شعوبها والالتفاف على العملية الديمقراطية عبر اساليب جديدة تتمثل في تحشيد البلطحية وحملة الهراوات والسكاكين والغدارات لتفرقة صفوف المشاركين في الحملات الانتخابية او في اضرابات الشغيلة او في احتجاجات منظمات المجتمع المدني وانصار الحقوق المدنية. ان كل من يتابع صفحات الايام الخوالي يتذكر "مافيات آل كابوني" في الولايات المتحدة وبلطجية "الاس الاس" في المانيا النازية و"الفلانج" في اسبانيا والعصابات الملابس السوداء الفاشية في ايطاليا التي اصابها الفشل تلو الفشل السياسي والاخلاقي، واصبحت تقريباً جميعها في طي النسيان والاضمحلال بعد اصرار الشعوب على الولوج في درب الديمقراطية وتكريس قيمها.
ولكننا في بلداننا ما زلنا في اول الطريق. ومن اللافت للنظر ان تعمد قوى الطغيان التي تنهار الواحدة تلو الاخرى في دولنا الى التوسل بنفس اساليب مثيلاتها في البلدان التي سبقتنا في ولوج طريق الديمقراطية. ولعل مثال لبنان ومصر والعراق في الاونة الاخيرة خير امثلة، وهي امثلة حية نعيشها الان. ففي لبنان لم تستطع قوى الطغيان الداخلي والاقليمي من وقف العملية الديمقراطية ونتائجها، ولذا بادرت الى اسلوب البلطجة والجريمة لعرقلة طموح اللبنانيين الى الديمقراطية ودولة القانون بعيداً عن دولة المخابرات. وهكذا شهد لبنان موجة اغتيالات طالت رفيق الحريري وجورج حاوي وسمير قصير وأخيراً جريمة اغتيال جبران تويني رئيس تحرير جريدة النهار. الا ان هذه البلطجة ارتدت وترتد على مدبريها، ويتعمق تطلع اللبنانيين الى القيم الديمقراطية ودولة القانون. ولنا في تجربة مصر الاخيرة هي الاخرى مثال أضافي على ما ذكرناه آنفاً. ان ضغط المواطن المصري وضغط التحولات العاصفة التي تجري في المنطقة ادت الى الشروع بعملية انهيار تقليعة المرشح الواحد ومصر الشخص الواحد وثقافة الحزب الواحد لتضطر الحكومة الى الشروع بقدر من الاصلاحات التي تبيح للمواطن المصري المشاركة في الحكم وادارة شؤونه. بالطبع ان انصار الاستبداد سواء من هم في الحكم او خارجه يحاولون الالتفاف على الطموح الديمقراطي للمواطن المصري اما عن طريق البلطجة وشراء اراء المواطن وافساد الذمم او سعي بعض المعارضين من التيار الديني المتطرف الى الترهيب واستعراض العضلات والرشوة ضمن اطار من التعاويذ الدينية والتكليفات الشرعية التي تسلب حق المواطن في الخيار والتفكير. كل ذلك يتم بهدف واحد هو دفع المواطن الى الكفر بالديمقراطية التي يريدون ان تبدو وتصور للمواطن وكأنها ملازمة للفوضى والرشوة والبلطجة. وهكذ شهدنا في انتخابات مصر الاخيرة ان الناخب والمواطن المصري حشر بين سندان مساعي الفئة الحاكمة المتشبث بالتسلط واحتكار السلطة وبين وطرقة التطرف الديني الساعي الى فرض الاستبداد الديني ونظام على غرار الامارات "الطالبانية" التي تعادي الديمقراطية ضمن منهج لعرقلة مساهمة المواطن في التفكير والاختيار.
ولربما تبدو هذه الصورة اكثر وضوحاً في حال عراقنا العزيز. فالتجربة العراقية الآن اكثر تجذراً من تجارب البلدان المحيطة لاسباب ليس مجال للاشارة اليها. ولكن هذه التجربة تتعرض لمساعي محمومة دامية لاجهاضها من قبل الفئات المندحرة داخلياً، واقليمياً من قبل الانظمة الاستبدادية المعشعشة على رقاب الشعوب. ولا يسعني هنا الحديث بالتفصيل عن ما تقدمه دول مثل ايران وسوريا واقطاب المال والارهاب في بعض الدول الخليجية من امكانيات مالية ولوجستية وقواعد تدريب وجوازات سفر لقوى الارهاب الدولي ولقوى قد تبدو متضاربة وتحت ستار ديني زائف او سياسي بذريعة اخراج القوات المسلحة الاجنبية من العراق، في حين انها تستهدف تدمير البلاد وعرقلة العملية السياسية وارساء الديمقراطية ودولة القانون في العراق درءاً لاي تأثير ايجابي لهذه التجربة الوليدة على امكانية تطور الديمقراطية في غالبية الدول التي تتحكم بها الانظمة الاستبدادية في منطقتنا. كما ان هناك بالطبع قوى اجتماعية داخلية ترعرعت في احضان الاستبداد والطغيان الذي ساد البلاد وخاصة في العقود الاربعة ولا تمتلك الا اختصاص ومهنة واحدة هو النهب والقتل والتدمير، وليس لها مصلحة في استمرار العملية السياسية وارساء قواعد الديمقراطية في الحكم. فلم تتورع هذه القوى التي تشكل بغالبيتها فلول النظام الاستبدادي السابق عن استخدام طوابير محترفي القتل من الارهابيين الاجانب و"امراء" الجريمة من امثال الزرقاوي وفرق الجريمة المنظمة في الداخل من اجل استعادة سلطتها واحياء الاستبداد بشعارات جديدة وبستار زائف من الحمية الدينية. ولكن كل المذابح التي ارتكبتها هذه القوى الشريرة لم تستطع الاستمرار في ارتهان اهالي بعض المدن العراقية وراح اهاليها الذين فطنوا لمآرب هذه الزمر يعلنون بعزم، بالرغم من التهديد وفتاوى مقاطعة الانتخابات وقتل المرشحين ومن يساهم في الدعاية الانتخابية، اصرارهم على خوض العملية الديمقراطية واللجوء الى صناديق الانتخابات. ويقدم مواطنو هذه البقاع في هذه الايام الضحايا من اجل المشاركة في العملية السياسية وردع الارهابيين والشروع في بناء العراق العزيز وطن الجميع.
وهناك نوع آخر ممن ترعبهم العملية الانتخابية في العراق ولكنهم يعرقلونها بإسلوب آخر. فهم يعلنون برياء استعدادهم للمساهمة في العملية الانتخابية وليس تحريمها، الا انهم في نفس الوقت يحتفظون بميليشيات مسلحة تزرع الرعب بين المواطنين العراقيين وتستغل الاجهزة الحكومية الادارية منها والامنية لتأمين تسلطها على البلاد وتوزع الاموال بسخاء لشراء اصوات الناخبين. كل ذلك يجري بهدف اقامة نظام تسلطي وتشريع يضمن تخليد هذا التسلط خلافاً للقواعد الديمقراطية. انهم يريدون الديمقراطية اولا ثم تصفيتها لكي يتك ارساء الاستبداد المغلف بغلاف ديني تماماً كما فعل نظرائهم في ايران عندما تحولت السلطة الى سلطة ثيوقراطية استبدادية تأتمر بشخص واحد هو ولي الفقيه عندما انتشر عصابات القتل وحملة الهراوات لتصفية وقتل كل من يخالفم في الرأي والممارسة. ان الممارسات التي ترتكبها هذه المجاميع من عمليات اغتيال لانصار القوائم الاخرى والتي بلغت حوالي 15 ضحية حتى الآن وحرق مقرات الاحزاب الاخرى والتطبيل والتزمير واشراك عناصر مطلوبة لاجهزة القضاء العراقي بتهمة القتل والعبث في قوائمها الانتخابية او في تشكيلة الوزارة الماضية خير دليل على النوايا المبيته لتفريغ الديمقراطية من محتواها وعرقلة اقامة نظام يحترم حقوق الانسان في العراق ويزيل تركات ومصائب الحكم المنهار. كما ان تشبثهم بالرموز الدينية زوراً وخلافاً للقواعد النتخابية وارادة المراجع الدينية لا يعكس الا امراً واحداً ووحيداً هو التسلق على سدة الحكم بوسائل تنطوي على التزوير وخداع الرأي العام.
هناك مهمة مقدسة وبالغة المسؤولية امام الناخب العراقي في هذه المرحلة البالغة الحساسية من العملية السياسية التي تهدف الى ارساء دولة القانون لا البلطجة وضمان الحريات العامة وليس تزوير ارادة الخلق عبر الاستخدام المغرض للمشاعر الدينية المقدسة للمواطنين. هذه الانتخابات هي محك لقدرة العراقي على اختيار ممثلين قادرين على ضمان تحقبق حلم العراقيين في الديمقراطية وكنس آثار الاستبداد الذي خلفه نظام القبور الجماعية المباد وازالة كل ثقافة التكفيريين الطائفيين والارهابيين الغرباء الذين يحاولون زرع "امارات" الموت والقهر في وادي الخير، اوكل من يستغل المشاعر الدينية للاضرار بالهوية العراقية وزرع ثقافة الهوية الطائفية المشينة التي لا تمهد الا لزرع نمط آخر من الاستبداد وتشتيت العراقيين وتعريض البلاد لاخطار جدية.