| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

يوسف أبو الفوز 

 

 

 

 

الأربعاء 8/2/ 2006

 

 

 

صورة الدم


يوسف أبو الفوز

سنوات طويلة من طفولتي ، قضيتها في بيت جدي ، في محلة شعبية ، في واحد من الازقة المعروفة والمشهورة في مدينة السماوة ، التي تغنى الشعراء بنخيلها ، وانجبت الكثير من الكتاب والفنانين والمربين والقادة السياسيين ، ومن بين صفوف فلاحيها ظهر ابطال ثورة العشرين ، ومن بين صرائف فقراءها ظهر البطل الاسطورة حسن سريع . الزقاق المذكور معروف باسم "عكد اليهود " ، ولمن تصعب عليه كلمة "عكد " ـ بالكاف المعجمة ـ فهي تعني زقاق . وعكد اليهود زقاق في مركز مدينة السماوة القديمة ، وقريب الى نهر الفرات ، ويطل على السوق المسقوف ، من عند سوق الحدادين ، وهو ذو مدخل واحد ، فلم يكن يشهد مرور غرباء ، والعوائل المقيمة فيه ومع مرور الزمن صارت مثل عائلة كبيرة واحدة . كان الطفل اذا تعثر وهو يلعب ، تمتد اليه عدة ايدي في ان واحد لتنهضه ، ومن يكون عنده فرح فهو فرح لكل ساكني الزقاق ، ومن تكون عنده مصيبة ، فالحزن يعم بيوت كل ساكني الزقاق .
ذات يوم اضطرب كل شئ في الزقاق . كنت لا ازال طفلا ، في اول سنوات المدرسة الابتدائية . ما بقي في ذاكرتي ، وتعزز فيما بعد بروايات الكبار هو مشهد الدم . صورة الدم ولا غيرها .
كان نهارا مضطربا ، لا يمكن ابدا نسيانه . من الصباح وفي كل الزقاق ثمة فوضى ، وقلق ، وبكاء ، والجميع يتحركون من بيت الى اخر ، والرجال يتصايحون ويدخنون بشراهة ، والجميع الى جانب المذياع يستمعون الى اخر البيانات ، وكلمة "انقلاب" تطوف فوق الشفاه مثل غول طالما خوفنا اهلنا بحكاياته . في بيت جدي كانت هناك ظلال من الخوف يكبر مع تقدم النهار . لم اكن ادرك سبب كل هذا الاضطراب والخوف . لم تسعفني سنوات عمري حينها لفهم ما يجري . وحتى ساعة ان تدفق العسكر الغرباء الى زقاقنا واغلقوا مداخله ، وتوقفوا عند باب بيت جدي ليقتادوا خالي وهو يشتم . وكان هناك اكثر من معتقل ، وتعالى الصياح من اكثر من بيت . في اخر الزقاق يقيم مدرس الرياضيات ، الذي على يديه درس غالبية ابناء السماوة ، وصار استاذي فيما بعد في المدرسة المتوسطة ، وعلى يديه فككنا اسرار وطلاسم المعادلات الرياضية ، ومنه تعلمنا ايضا اسرار معادلات الظلم والفقر والغربة داخل الوطن . المربي الرائع " حسين الغرة ". ذلك اليوم ، تعالى الصياح ايضا من اخر الزقاق . الرجال المسلحين ببنادق ، قيل انها قصيرة واسمها " بور سعيد " ، رجال غرباء عن زقاقنا ، يقودهم بعض الوجوه المعروفة لنا ، بينهم وجوه مكروهة ، فيما بعد حين كبرنا عرفنا انها ايضا وجوه مشبوهة بسلوكها الاجتماعي ايضا . كانوا يقتحمون البيوت عنوة ، ووقف بعضهم عند باب بيت جدي ، حتى بعد اعتقال خالي . فجأة ظهر مجموعة منهم من اخر الزقاق يقتادون شخصا . هالني رؤية الاستاذ حسين الغرة بين الرجال المسلحين بالبنادق القصيرة ، يقاد عنوة حافي القدمين ، والدم يسيح من جبينه ويغطي وجهه ، وكان احدهم يواصل ركله بينما كان هو يواصل الاحتجاج .
وسمعت يومها ربما لاول مرة بكلمة " البعث " !
وهكذا ارتبطت الكلمة بذاكرتي ، وذلك اليوم بصورة الدم .
صورة الاستاذ حسين الغرة ، مدمى الوجه ، بين رجال مسلحين ، بقت ساطعة في ذاكرتي من بين كل صور ذلك اليوم الابغيض الاسود . مع نفسي ، حين احادثها ، واناقش ما علق بذاكرتي من صور ، أجد ان العديد من الصور ، تشكلت بتأثير من حكايات اهلي ، ومن خلال احاديث الاخرين ، لكن صورة العسكر والدم ، هي صورة اصيلة ، صورة خاصة بي ، هي صورة حفرتها اللحظة عميقا على سطح ذاكرة طفولتي ، وحتى بعد ان كبرت كانت وفي فترات معينة تتكرر في كوابيسي . صار كلما يرد امامي اسم 8 شباط ، تسطع تلك الصورة في بالي ، ويوما بعد اخر تتعزز بالكثير من التفاصيل .
كتب الكثير ، وقيل الكثير ، عن انقلاب 8 شباط 1963 ، ووصف بما يستحقه من النعوت من ضحاياه ورجال التأريخ المنصفين . واذ اعتبر قادة العفالقة ما حدث يوم 8 شباط هو "عروس الثورات " ، فهذه "العروس" صارمعروفا لابناء الشعب العراقي انها جاءت من احضان المخابرات الامريكية وبزفة في قطار امريكي . وكتب التاريخ بجرأة كلمته بمن وأدوا حلم العراقيين بجمهورية ديمقراطية ، وبمن سرقوا فرح تموز . وسيكتب رجال التاريخ والباحثين المزيد من الدراسات وستكشف المزيد من الاسرار . وعلى قلوب العراقيين طرزت وبحروف من نار تلك الاسماء الخالدة ، التي حاول انقلابيوا 8 شباط حجب نورها من خلال الموت ، فسستبقى اسماء سلام عادل وعبد الكريم قاسم ووصفي طاهر ورفاقهم شعلة نور في سفر المجد الخالد ، وستبقى اسماء شهداء انقلاب 8 شباط الاسود اجراس ترن في ذاكرة الزمن لتشير دائما الى دائرة الدم التي بدأت في ذلك اليوم ، ونحجت في ان تكبر ، وتكبر ، لتعم العراق والمنطقة لسنوات طويلة .
سيبقى ليوم 8 شباط ورجاله معنى واحد ، وصورة واحدة ، في ذاكرتي هو : الدم .
بعد سقوط نظام البعث العفلقي المجرم ، صاحب حقوق ولادة ذلك العرس ـ الفضيحة ، هل سيتجرأ احد لاعادة انتاج ذلك اليوم وصوره من جديد ؟
وبأي زي ، وبأي قطار ستصل العروس المصون ؟

سماوة القطب
7 شباط 2005