| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

يوسف أبو الفوز 
haddad.yousif@yahoo.com

 

 

 

                                                                                الأحد 30/9/ 2012

 

نهوض قادم لليسار في أوربا !

يوسف ابو الفوز

أذا ما تعاملنا مع الوان الاحزاب السياسية التي يستخدمها الاعلام والشارع الاوربي ، مثل اللون الاحمر لقوى اليسار عموما بأجنحتهم المختلفة  واللون الاخضر لقوى البيئة واللون الازرق لليمين باجنحته المختلفة ، فأن اوربا في العقود الاخيرة ــ سياسيا ــ تكاد ترتدي الحلة الزرقاء ، وفي مناطق منها حلتها زرقاء ببقع معتمة جدا ، وهو اللون الخاص بقوى اليمين المتطرف ، وان كانت هنا وهناك بعض الجيوب التي تحمل الوانا مختلفة . كيف حصل هذا ؟ فلفترات طويلة ، خلال عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ، وحسب منطق الالوان السياسية ذاته ، فأن اوربا كانت حمراء أو وردية ، وتدور في ساحة سيطرة وحكم الاحزاب اليسارية ، خصوصا احزاب الاشتراكية الديمقراطية ، لكن عواملا موضوعية وذاتية عديدة ساهمت في ارتفاع  الرايات الزرقاء .

من اول تلك العوامل الموضوعية ، كان انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 الذي شكل صدمة معنوية لقوى اليسار اساسا، وللمجتمعات الاوربية عموما ، خاصة دول شمال اوربا ، التي خطت خطوات واسعة باتجاه تحقيق برامج ضمان وحماية اجتماعي متطورة ، ضمن اطار نموذج "دول الرفاه" ، التي تتبع اقتصاد السوق مع الالتزام بمبدأ الديمقراطية في الحياة السياسية ، ولم تأت هذه التحولات باتجاه نموذج "دولة الرفاه " في هذه الدول بمعزل عن تأثير وجود الاتحاد السوفياتي ، كمثال اجتماعي واقتصادي، اضافة لنضالات القوى السياسية والاجتماعية في داخل كل بلد اوربي .

أن انهيار تجربة البناء الاشتراكي ، في الاتحاد السوفياتي ، الحليف القوي والمعنوي للقوى اليسارية في العالم ، ومنها عموم البلاد الاوربية ، ومع ظهور نظريات مثل " نهاية التأريخ " التي تروج لكون الراسمالية هي الحل، ساعد كثيرا على اشتداد تأثير ونمو قوى الاحزاب اليمنية التي تدعو لاصلاحات اقتصادية ، يقف في مقدمة ذلك الدعوة لخصخصة قطاع الدولة في ظل العولمة الراسمالية ، وان تحقيق نجاحات ميدانية جزئية في حل معضلات اقتصادية تتعلق بالتضخم والبطالة ، ساعد قوى اليمين للنمو والصعود لتكون طرفا  مشاركا ومهما في الحكومات، هذا الدور الذي سرعان ما تطور بحيث حققت الاحزاب اليمنية ، صعودا اهلها لتقود الحكومات في العديد من البلدان الاوربية .

أن انهيار الاتحاد السوفياتي ، كنظام سياسي ، ساهم أيضا في الكشف على ان احزاب اليسار تملك مشاكلها وأزماتها الذاتية ، فيما يتعلق ببناها الداخلية والفكرية ، وواقعية برامجها و شيخوخة أليات عمل يتطلب منها استيعاب المتغيرات السريعة في العالم والتطورات في المجتمع مع تزايد تأثير ثورة الاتصالات التي حولت العالم الى قرية كما يقال .

أن التطرف والغلو في النشاط الفكري وبالتالي السياسي ، امر واقع يمكن ان تشهده احزاب اليسار او اليمين او الحركات الدينية ، فهو تعبير عن العقلية الطوباوية ، التي تريد حرق المراحل ، وتعتاش من اجل ذلك على الشعارات البراقة ، لكسب الشارع بالشعارات التي تزايد على الاخرين والكلام الجريء وحتى الافعال الوقحة ، وفي ظل صعود احزاب اليمين بشكل عام في اوربا ، بدأت تحت ظلها وبحمايتها ، تعتاش وتنمو قوى متطرفة يمينية، تعتمد اساليب الاثارة السياسية والتصريحات النارية ، وترفع شعارات تلائم مزاج الشارع المتذمر ، اضافة الى اعتماد برامج تعارض الهجرة ووجود الاجانب عموما بمسحة عنصرية عند بعضها . ان احزاب اليمين المتطرف اعتاشت بشكل اساس على  اثار ونتائج الازمات الاقتصادية والسياسية التي تعانيها بلدانها ، خصوصا الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام 2008 وتصاعدت في عام 2011 ، حيث نتج عنها ارتفاع في عدد العاطلين عن العمل ، وارتفاع في الاسعار شمل المواد الغذائية ووسائل النقل والسكن والخ ، اضافة الى ان سياسة خصصة الخدمات العامة والالتفاف على قوانين الضمان الاجتماعي من قبل احزاب اليمين التقليدي الحاكمة ، في العديد  من الدول الاوربية ، لم تنتج الا تفاوتا كبيرا في الدخل وظهور فقراء حقيقيين ، فوجدها اليمين المتطرف فرصة مؤاتية ، ليتحرك بطرق مبتكرة وحيوية ، تعتمد التواصل المباشر والاثارة ، بين صفوف الشباب خصوصا ، وطرح شعارات صارخة حول معالجة التفاوت في الدخل ورفع الضرائب على ذوي الدخول العالية ، وتحسين المعاشات التقاعدية وتحديد سن التقاعد ومعالجة سياسة الهجرة وضرورة خفض معدلاتها مزايدا حتى على برامج القوى اليسارية .

في السنوات القليلة الماضية ، بدأت قوى اليسار الاوربي تحقق نجاحات ملموسة سواء في الانتخابات البلدية او البرلمانية (اليونان ، الدانمارك ، المانيا )، وحتى الرئاسية (فرنسا) ، وبدأت تكتسب مصداقية في عملها في الشارع الاوربي ، ولم يأت هذا بعيدا عن الاصلاحات الداخلية التي بدأت تمارسها عموم احزاب اليسار ، ومراجعة برامجها واليات عملها ،  ورسم برامج تحالفية أكثر واقعية وملموسة  مع القوى التي تغذي الحركات الاجتماعية ضد العولمة الراسمالية ، ورسم برامج لمواجهة سياسات التقشف المقترحة للخروج من الأزمة الاقتصادية . ان ثمة مؤشرات عديدة تشير الى ان  ثمة نهوضا وعودة قادمة لقوى اليسار لترفع راياتها الحمراء لتخفق عاليا في سماء اوربا من جديد ، لكن ذلك يتطلب اساسا المزيد من الاصلاحات في بنية وبرامج احزاب اليسار ذاتها وتنسيق نشاطها وبرامجها الائتلافية  لمواجهة اليمين المتحالف مع القوى المحافظة والدينية والرأسمالية ، والذي ما زال يتمتع بقوة لا يمكن الاستهانة بها .
 

عن طريق الشعب العدد 38 الأحد 30 أيلول‏ 2012


 

 

free web counter