موقع الناس http://al-nnas.com/
حكاية احتفال في ذكرى
تاسيس الحزب تحت غيوم الخردل
يوسف أبو الفوز
الخميس 30/3/ 2006
يوم16 آذار 1988 ، يوم دخل التاريخ . دخل وصمة عار في تاريخ النظام الديكتاتوري المقبور ، وفكره العفلقي الشوفيني . ذلك اليوم ، وبتحد سافر لكل الأعراف والمواثيق الدولية والأخلاق الإنسانية ، أرسل النظام الديكتاتوري المقبور ، طيور شره الحديدية لتخترق سماء مدينة حلبجة الكردية الوادعة ، لتنثر غيوم الموت ، ولتمطر السماء سموم الخردل والسيانيد وليكون حصيلة ذلك موت حوالي خمسة آلاف مواطن واصابة سبعة آلاف آخرين ، والغالبية كانت من الأطفال والشيوخ والنساء . بين شهداء المدينة كان العديد من مناضلي الحزب الشيوعي العراقي ، وفي ضواحي مدينة حلبجة الشهيدة ظلت العديد من عوائل الشهداء تدور تبحث بين الجثث عن ذويها ، ويتشبث بعضهم بأمل ان يكون ابنائهم من الناجين .
الكادر الشيوعي ، علي فتاح درويش ،
والمعروف بأسم " اسطة علي " ( مواليد 1936 ) ، واثناء قصف المدينة ، ورغم كونه كان
موجودا في مكان امن نسبيا ، رفض مغادرة المدينة ، قبل ان يطمأن على رفاقه وعوائلهم
في مركز المدينة. كانت طائرات الموت تحوم في سماء حلبجة ، والقصف مستمر حين ترك
اطفاله في ملجأ امن في طرف المدينة ، بعيدين عن مركز القصف ، وقرر الذهاب لانجاز
مهامه الحزبية . قبل المغادرة وعند باب الملجأ توقف قليلا ، عاد وشد على كتفي ابنته
الكبرى بقوة ، وقال لها :
ــ اذا لم اعد اهتمي بأخوتك !
ذهب ولم يعد. ابنته الكبرى ، شادمان علي فتاح ( مواليد 1970 ) ، وبعد ان بحثت
وتأكدت من استشهاد والدها ، تحزمت بكبريائها ، واخفت دموعها عن اقرب الناس اليها ،
خاصة اخوتها الذين صارت مسؤولة عنهم ، وواصلت حياتها بأصرار. ورغم كل الحزن والدمار
وشبح الموت الذي يحيط بالمدينة الشهيدة ، الا ان الثقة بالمستقبل لم تغادر قلوب
الشيوعيين الاحياء وابنائهم ، الذين بقوا في المدينة واطرافها . وهاهو يوم 31 اذار
يقترب . انه يوم تأسيس الحزب الشيوعي العراقي ، الذي عرفت مدينة حلبجة جيدا نضاله
وبطولة انصاره ومناضليه ، ولطالما شهدت المدينة مظاهر احتفالية عديدة بمناسبة
حلوله. حفلات تقيمها بعض العوائل مجتمعة ، منشورات توزع ليلا ، واحيانا وبتحد في
وضح النهار. عوائل الشيوعيين واصدقائهم يرتدون اجمل الملابس ، ويغالي الشباب منهم
فيرتدون ملابس باللون الاحمر ، والانصار في الجبال القريبة يزورون المدينة للقيام
بفعاليات سياسية وعسكرية في تحد لقوات النظام الديكتاتوري ومرتزقته الجحوش. تلك
الايام ، والحزن يخيم على المدينة ، قررت الشيوعيتان شادمان علي فتاح ، ابنة الشهيد
علي فتاح ، وزيان ابراهيم محمود ( مواليد 1966) ابنة النصير الشيوعي في الجبل ،
قررتا ان يقمن احتفالا بعيد الحزب الشيوعي العراقي ، وان كان عدد المدعوين محدودا .
ربما بدا الامر غريبا ، واشبه بالبطر لدى البعض : كيف يمكن اقامة احتفال تحت غيوم
الخردل ، وفي تلك الاجواء ؟ لكن الرفيقة زيان ابراهيم محمود قالت لنا :
ـ كنا ايامها بدون صلة بالتنظيم الحزبي ، كنا مقطوعين ، ولا نعرف اخبار الحزب في
بقية المدن وفي مواقع الانصار في الجبل ، ولكننا اعتبرنا انفسنا الحزب ، وكان علينا
ان نقول لانفسنا وللاخرين من حولنا ان الحزب باق ومستمر ، ومن هنا جاءت فكرة
الاحتفال ، وصار يعني بالنسبة لنا شيئا كبيرا .
وتحكي زيان ابراهيم محمود وشادمان علي فتاح ، كيف ان مجموعة الشباب ، الذين وجدوا
انفسهم بدون صلة حزبية تلك الايام ، ولكنهم يعيشون على مقربة من بعضهم البعض ، واذ
كانوا يتوقعون عودة قوات النظام الديكتاتوري الى المدينة ، كانوا مشغولين بتفتيش
بيوت الشيوعيين والاصدقاء ويبحثون عن وثائق ما ، اضطروا لتركها او نسيانها قبل ترك
المدينة ، وكيف انهم وبحكم معرفتهم باساليب العوائل الشيوعية في اخفاء الوثائق ،
عثروا على وثائق فأحرقوها ، ونقلوا كميات من الكتب واخفوها في اماكن امنة .
كانت بقايا غيوم الخردل لا تزال تحوم حول المدينة ، وكانت روائح الموت في كل مكان ،
فجثث شهداء المدينة لم تدفن كلها بعد . ليلة 31 اذار ، اجتمع حوالي عشرة من الشباب
، ما بين شاب وشابة. كان الحزن يتكسر في ثنايا الروح ، وخيوط الدمع في العيون ، لكن
القلوب كانت عامرة بالثقة بالمستقبل وبالحزب . في غرفة من احد البيوت ، زينوها بما
توفر لهم ، ورسموا بالقلم وببساطة شارة المطرقة والمنجل ، ودار نقاش : هل يصح ان
نقدم العصير ، وكان القرار: نعم ، فجهز البعض كؤوس العصير وابتدأ الحفل . وقف
المشاركون على شكل دائرة . تقول شادمان :
ـ كانت دقيقة الحداد طويلة ، على غير العادة في الاحتفالات والاجتماعات الحزبية .
لم يبك منا احد ، كنا نحدق بعيون بعضنا البعض ، وكل واحد منا يطلب من الاخر ان
يتماسك.
وتقول زيان :
ـ كنت الاكبر سنا بينهم ، فأخذت على عاتقي ، مسؤولية القاء كلمة الحفل . وفيها قدمت
التحية لشهداء الحزب ، وشهداء حلبجة ، وقدمت التحية لذكرى تأسيس الحزب ، وتحدثت عن
جريمة الديكتاتورية ، وايضا عن المستقبل .
وبدأت الجميع بالانشاد. غنت الحناجر الحزينة ، مجتمعة و بحماس نشيد " 31 اذار "
المعروف جيدا في كردستان ، ثم بدأت المساهمات على التوالي . كل الحاضرين ساهموا في
الحفل . ثمة من قرأ قصيدة شعر . وثمة من اراد الغناء ، فلم تطاوعه حنجرته ، فقرأ
كلمات نص الاغنية كقصيدة . وثمة من حكى عن بطولة الشهداء والانصار. تعانقوا
وتبادلوا القبلات والتهاني . وشربوا كؤوس العصير. وبعد ان اعلن عن نهاية الحفل ،
وتناولوا وجبة العشاء المتواضعة التي طبخوها معا ، ووزعت كؤوس الشاي ، راح البعض
وبصمت يمسح دموعه .