| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

يوسف أبو الفوز 
haddad.yousif@yahoo.com

 

 

 

                                                            السبت  19 / 7 / 2014


 

يا جدنا غوديا .. هل نحن محظوظون إذ سرق الغرب أثارنا ؟؟

يوسف أبو الفوز

الكاتب امام تمثال غوديا في متحف اللوفر      

الكاتب بين تماثيل غوديا مقطوعة الرأس في متحف اللوفر

بعد أستقراري، خارج الوطن، أتاحت لي فرص الحياة وعملي، التنقل والسفر في العديد من بلدان العالم،وكنت محظوظا أن شريكة حياتي تماثلني في حب السفر والتعرف على حياة وثقافة الشعوب. وعند كل زيارة لأي بلد كنا نحرص أن يشمل برنامجنا محطة أساسية هي زيارة أهم المتاحف في تلك البلدان. وخلال ذلك تولد عندنا شغف بالبحث عن أثار بلادنا، وأثار وادي الرافدين، والأطلاع عليها في أي متحف مهما كبر أو تواضع حجمه. والمعروف أن بعثات الأثار الاجنبية التي عملت في بلادنا في اواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبالتواطؤ مع السلطات الاستعمارية وفساد الانظمة الحاكمة، هربت وسرقت أهم قطع الأثار التي عثرت عليها، كبوابة عشتار الموجودة حاليا في متحف برلين، مسلة حامورابي الموجودة في متحف اللوفر، الثيران المجنحة الموجودة في لندن وشيكاغو، وغيرها الكثيرمن قطع الاثار، التي يقدر عددها بالالاف من القطع، والتي تعد الاساس لافتتاح العديد من أهم الاجنحة في المتاحف العالمية واحد الاسباب لجلب الزورار والسياح. ومن بين المتاحف التي توفرت لي زيارتها، ولاكثر من مرة، والتي انبهرت بحجم وسعة الاجنحة المخصصة المخصصة لأثار بلاد وادي الرافدين فيها، وعدد وأهمية ما حوت من أثار بلادنا، هي متحف اللوفر في باريس (أفتتح عام 1793) والمتحف البريطاني في لندن (تأسس عام 1753 )، متحف معهد الدراسات الشرقية في شيكاغو (أفتتح عام 1931) . في أول زيارة الى متحف اللوفر في منتصف ايلول عام 2008، فقدت السيطرة على نفسي وأنا أدور بين الأثار وروعتها وأهميتها، فرحت أخاطبها بصوت عال وسط دهشة الزوار من حولي، وشريكة حياتي تدعوني لخفض صوتي ، فالجميع يسيرون بصمت ويتحدثون بهمس. كنت مبهورا برؤية تمثال كامل لاشهر ملوك سومر الملك غوديا (حكم 2124 ــ 2144 ق م) الذي تعاظمت الدولة في عهده وقام بتطوير نظام الري والتجارة الخارجية مع لبنان وشبه الجزيرة العربية ومصر، فهو واحد من الشخصيات المحببة عندي، فهو لم يكن من مدينة لكش، الا انه نجح في صعود سلم المناصب والزواج من ابنة ملك لكش اوربابو ( 2144 - 2164 ق م ) . وتميز عصرغوديا بالاصلاحات الاجتماعية فقد سمح للنساء بتملك الارض، واهتم بالفنون والاداب، وسعى لتطبيق القوانين، فرحت أحييه واناديه : "انا هنا جدي غوديا" ، وكانت هناك من حولي عدة تماثيل للملك غوديا مقطوعة الرأس. وفجأة سمعت من خلفي ضحكة وصوتا بالعربية، يقول:" أحمد ربك ان الاوربيين حموا رأس جدك قبل ان تكسره معاول المتشددين !". وكان ذلك سببا للقاء شخصية أكاديمية اعتز بالتعرف اليها، واتحفظ هنا عن ذكر اسمها لاسباب غير خافية على القاريء النبيه. كان محدثي عراقي يعمل استاذا للتأريخ في واحدة من الجامعات في الدول العربية، لذا لم أستغرب سعة معلوماته، التي وبكرم عال تقاسمها وأيانا، ومنحنا من وقته الكثير ليكون دليلنا في جولتنا في متحف اللوفر، لكننا أختلفنا كثيرا حول مصير وواقع الأثار العراقية. فأستاذنا كان يشير الى أن التماثيل المقطوعة الرأس لم تكن بسبب سوء الحفريات كما يشاع في بعض المصادر، وانما تعود الى انها كسرت عمدا من قبل المسلمين المتشددين الذين يعتقدون ان التماثيل رمزا للكفر والظلال ومن الكفر محاكاة الرب في الخلق، فهو يعتقد ولأن الاصنام ظلت محرمة طويلا في الدين الاسلامي فلهذا السبب وصلت الينا الاف التماثيل مقطوعة الرأس وكان يشير الى عدة تماثيل تقف امامنا ، وعليه فهو يعتقد ان من الافضل ومن الحسنات ان الاوربيين قاموا بسرقة أثارنا ــ هكذا ! ـ لانهم بالنتيجة حفظوها لنا سليمة وبأحسن حال وعرفوا العالم بحضارتنا التي كان يمكن ان تزول أثارها بأيدينا وسوء تعاملنا معها!

كنت في حديثي متحمسا جدا لفكرة اهمية عودة الأثار والاعمال الفنية الى بلدانها الاصلية وفق القوانين الدولية التي لم تصدر جزافا ، وكان صديقنا الاستاذ يعتقد ان من حسن الحظ ان الحكومات العراقية المتعاقبة فشلت في استعادة هذه الأثاروفقا لبعض هذه القوانين ، وأحتد نقاشنا عند هذه النقطة وحاولت وقف النقاش، لنفترق بسلام خشية من دخول الحديث في منعطف كلانا لا نرغب فيه.

هكذا وجدت نفسي دائما استعيد تفاصيل هذا الحديث الساخن كلما ازور متحفا ، واقف عند أثار عراقية ، وأرى وألمس جيدا حسن الاهتمام والطرق الحضارية للمحافظة عليها ، والمستوى العالي من الرعاية التي تلاقيها على ايدي أهل البلاد "الكافرة" كما يقول بعض ابناء بلادي . ففي شيكاغو حين اقتربت اكثر من احد التماثيل مدققا لنقش على سطحه قفزت السيدة الجالسة جانبا على كرسي وهي تخشى ان اقوم بشيء ما، ورفعت يدها محذرة وبيدها الثانية كانت تحمل الجهاز المخصص للاتصال بأمن المتحف . وفي متحف لندن، سار جمع من طلبة التأريخ ، خلف رجل عجوز، عرفت انه بروفسيور متخصص، يجرر نفسه بصعوبة، وسمعت جزءا من حديثه وهو يقدم لهم شرحا تفصيليا ودقيقا عن طرق صيد الحيوانات في بلاد ما بين النهرين.

عانت الأثار العراقية كثيرا على أيدي اللصوص المحترفين ومهربي الأثار، وكانت فترة حكم النظام الديكتاتوري البعثي ، فرصة لظهور عصابات تهريب من داخل الطبقة المتسلطة الحاكمة وهناك الكثير من التفاصيل والقصص عنهذا الامر. وجاءت قوات الاحتلال الامريكي لتشهد أثارنا فصلا جديدا من السرقات التي شملت الاف القطع الأثارية من المتحف العراقي في بغداد الى جانب عشرات المواقع الأثارية وفقا لاحصاءات وزارة السياحة والأثار. وهانحن والبلاد تعيش حالة تخبط سياسي هائل، نكون وصلنا الى الفصل القاتم والمظلم ، فوكالات الانباء نقلت لنا، وبالصور، ما تقوم به عصابات داعش الارهابية، صنيعة اجهزة المخابرات العالمية، من تحطيم وقح وفج للأثار العراقية في مدينة الموصل، اضافة للقبور الاثرية للاولياء الصالحين، مثل هدم قبر النبي يونس، وقبور رجالات الفكر والادب، مثل هدم قبري المؤرخ ابن الجزري، وابن الأثير صاحب كتاب "الكامل"، وتخريب الكنائس، مثل احراق كنيسة مار متى في الحي العربي بالموصل، وتزيل معالم تراثية حديثة مثل تمثال الشاعر ابو تمام وتمثال الملا عثمان الموصلي، وفي كل هذا يستندون الى كون النبي محمد حطم الاصنام عندما فتح مكة، وعليه فلا يمكن السماح بوجودها. ان عصابات داعش لا تكتفي بتحطيم الأثار وتحطيم رؤوس التماثيل، انها تتحكم بحياة الناس وتقطع بوحشية مفرطة رؤوس الناس، انهم يستهدفون الرأس، مكان العقل، فهل كان صديقي استاذ التأريخ محقا بكوننا محظوظين اذ سرق الغرب أثارنا ؟!


15 تموز 2014 سماوة القطب


* جريدة المدى / الصفحة الثقافية / العدد رقم (3129) بتاريخ 2014/07/19
 

 

free web counter