| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

يوسف أبو الفوز 
haddad.yousif@yahoo.com

 

 

 

الأحد 18 / 3 / 2013

 

قراءة في كتاب

جاسم الحلوائي في رؤيته للحقيقة !

يوسف أبو الفوز

1

لا تزال في تأريخ العراق الكثير من الصفحات الغامضة التي تحتاج الى باحثين موضوعيين ، لاماطة اللثام عنها وكشفها ومحاكمتها بشكل علمي ، لتتمكن الاجيال الجديدة من بناء الذات بشكل سليم واللحاق بركب الحضارة التي فاتنا قطارها. وتشكل كتب السيرة والمذكرات احد المصادرالمهمة للباحثين للتعرف على الكثير من الاسراروالاحداث والوقائع لاستخلاص الدروس ، ولكننا في العراق وبمرور سريع على كتب السيرة والمذكرات المنشورة ، يمكن ان نفهم جيدا التحذير الذي اطلقه الباحث العراقي الدكتور رشيد الخيون في مقال له نشر على العديد من المواقع الاليكترونية " على الباحث عند الاضطرار للرجوع الى المذكرات وخاصة مذكرات الساسة بشكل عام عليه ان يتعامل معها بحذر" ، الذي يدفع بالدكتور الخيون لهذا الموقف هو حقيقة كون " المذكرات التي قرأناها للساسة والادباء العراقيين هي نوع من تنزيه الذات.. من يكتب مذكراته يسردها وكأنه لم يرتكب خطأ في حياته او طفولته او اثناء ممارسته للسياسة.. هذا عيب كبير في المذكرات " .

حول اسلوب كتابة السياسيين العراقيين لمذكراتهم ، وفي مطلع عام 1990 ، في مدينة موسكو ، اتيحت لي مرة فرصة النقاش مع السيد باقر ابراهيم ، العضو البارز ، ولفترة طويلة ، في قيادة الحزب الشيوعي العراقي ، ويعد من ابرز مهندسي ومنظري تجربة التحالف مع حزب البعث ، بعد ان قدم لي فصول من مذكراته ، التي نشرها فيما بعد ، وبعد انتهائي من قراءة الفصول المذكورة ، لم اجد فيها جوابا على كم من الاسئلة ، التي تتعلق بالموضوعات التي تناولتها المذكرات ، والتي ترد في بال اي عراقي ، ناهيك عن شيوعي تواق للمعرفة وسط اجواء اضطراب فكري تجتاح العالم الماركسي والانظمة الشيوعية في حينها ! حضر النقاش يومها ايضا السيد عدنان عباس " ابو تانيا " ، وكان عضوا في اللجنة المركزية للحزب ، وكان السؤال الابرز الذي كررته امام الحضور وربما اغاض البعض بشكل ما : أين مسؤولية كاتب المذكرات من كل ما يتحدث عنه من اخطاء وكوارث التي عايشها وكان من صناع القرار فيها ؟

هذا السؤال يبرز في بال كل قارئ يتصفح ويقرأ كتاب اي قائد سياسي ، ولقد تناول كتاب عديدين بالنقد كتب المذكرات للقادة من التيار القومي ، وخصوصا البعثيين ، والذين لا نجد فيها اي اشارة لمراجعة الاخطاء وتحمل جزء من مسؤولية ذلك ، ولكن بعض من قادة اليسار العراقي كتبهم لا تختلف عنها من حيث المبدأ والاسلوب ، مع الفارق في الموقع النضالي ، فلو راجعنا بعض من مذكرات القادة السابقين للحزب الشيوعي العراقي سنجدها ليس سوى محاولة تصفية الحسابات ونشر غسيل ، ومحاولة تنزيه الذات ، بحيث يدفعك الامر للتعامل بحذر وتشكك بكل ما ورد في الكتاب ، ويظل في بالك السؤال الازلي : ان كان الجميع بعيدين عن الخطأ وابرياء ومنزهين ، من كان المسؤول عن كل النتائج السلبية في العمل ؟

2

عن دار الرواد ، صدر في بغداد مؤخرا ، للمناضل الشيوعي والكاتب السياسي جاسم الحلوائي (المعروف بأسم ابو شروق ) كتاب ( الحقيقة كما عشتها ) ، وهو ينتمي الى كتب السيرة الذاتية والمذكرات . والكاتب ، المولود في كربلاء عام 1932 ، عرف كواحد من القادة المخضرمين للحزب الشيوعي العراقي وتحمل كما تشير المذكرات مسؤوليات عديدة ومهمة داخل مؤسسة الحزب الشيوعي العراقي ، فهو كادر حزبي متقدم لفترات طويلة ، وترشح الى اللجنة المركزية في اب عام 1964 وصار عضوا فيها ، وبقي يتحمل هذه المسؤولية حتى 1985، وعضو سكرتاريتها لاعوام 1973 ـ 1978 ، وكان لفترات مختلفة مسؤولا للجنة التنظيم المركزي "لتم"، وكان عضوا في العديد من اللجان الحزبية التي لعبت دورا اساسيا في رسم سياسة الحزب، وربما من اهمها اللجنة التي درست موضوعة التطور اللاراسمالي قبيل مؤتمر الحزب الثالث عام 1976 واوصت بتبينها كسياسة فكرية للحزب ، اضافة الى قيادته العمل التنظيمي في بعض منظمات الحزب خارج العراق ومنها منظمة الحزب في طهران حيث فصل الكتاب في الحديث عن هذه الفترة . والرفيق جاسم الحلوائي معروف كقائد جماهيري ميداني خبر جيدا ظروف وتقاليد العمل السري ومصاعب الاختفاء وقيادة النضالات الجماهيرية المطلبية العلنية والنضال الحزبي التنظيمي السري ، وهو في كل هذا تعرض الى امتحانات قاسية ومرة ، من الملاحقة والمطاردة والاعتقال المتكرر في ظروف قاسية نفسية وجسدية ، والتعرض الى التعذيب البشع وعرف عنه الصلابة والصمود في وجه جلاديه ، وليس ختاما هناك ايضا العديد من قصص الخيال الشعبي والنوادر المروية عنه بين الناس من باب الحب والتقدير لمسيرته النضالية ، خصوصا قصص هروبه من السجن وافلاته المتكرر من قبضة السلطات الحاكمة ومحاولات القبض عليه من قبل جلاوزة وشرطة الانظمة . وذلك كله اهل الرفيق جاسم الحلوائي ليكون شاهدا على كثير من الاحداث الوطنية والسياسية في العراق والمنطقة ، اضافة الى عمله ونشاطه في مركز القرار لواحد من اعرق الاحزاب السياسية العراقية ، مما يجعل شهادته مهمة لنتعرف على التحولات والتغيرات والعلاقات داخل مؤسسة الحزب الشيوعي العراقي .

جاء الكتاب من 288 صفحة من القطع الكبير وتوزع على 19 فصلا حملت عناوين رئيسة ، غطت مسيرة نضالية حافلة امتدت لاكثر من نصف قرن . غلاف الكتاب كان من تصميم الفنان المبدع فيصل لعيبي ، الذي قدم تصميما جميلا مبتكرا لكن للاسف لم يتم اخراجه بشكل مناسب ، وحمل الغلاف الاخير كلمة للمناضل عادل حبة " ابو سلام " ، وهو من رفاق الكاتب في رحلته النضالية في قيادة الحزب الشيوعي العراقي . الى جانب فصول الذكريات ، التي رواها الكاتب وشملت تفاصيل تجربة الكاتب في العمل الحزبي ، حوى الكتاب فصولا ملحقة ، منها فصلا حوى رسائل متبادلة بين الكاتب وذوي بعض الشهداء، وفصلا يعتبر من الاهمية رغم قصره (26 صفحة) الا انه حوى مراجعة فكرية مهمة اجراها الكاتب للعديد من مفاصل عمل الحزب الفكرية ، وجاءت كاجوبة على اسئلة قدمها طالب اجنبي في كلية الدراسات الشرقية في لندن ، وتوزعت تحت عناوين (حقيقة علاقة القيادة السوفياتية بقيادة الحزب الشيوعي العراقي في عقودها الأخيرة ) ، (الايدلوجيا والبراغماتية في سياسات الحزب الشيوعي العراقي السابقة ) ، (الديمقراطية في الحزب الشيوعي العراقي ) وايضا (اتفاقية اذار وموقف العرب والكورد في اللجنة المركزية).

وحوى الكتاب بعض الصور التي توزعت في متن الكتاب ونهايته ، اراد لها الكاتب ان تضيف روح وثائقية لمادة الكتاب الا ان عدم وضوح بعض الصور، وطريقة طباعتها واخراجها غير المتقنة افقدتها قيمتها المرجوة . ويمكن القول ان هناك ضعفا ملموسا في اخراج الكتاب بل واخطاء اخراجية لا تغتفر ، ويتحمل مسؤولية ذلك بشكل اساس دار النشر، الا ان ذلك بالطبع لم يقلل من اهمية الكتاب وقيمته. وبحكم كون مادة الكتاب نشرت اولا على شكل حلقات على بعض المواقع الاليكترونية ، فأننا نجد الفصول الاساسية حملت عناوين فرعية كثيرة ، مما جعل الكتاب يحتفظ بشئ من نكهة العمل الصحفي في تبويبه وترتيب فصوله ، وحتى في كتابته.

3

الرفيق عادل حبة ، في كلمة الغلاف ، يشير وبصواب شديد الى ان اي كاتب مذكرات عادة يكون مهددا في "الوقوع في فخ الذاتية " ، وسبب ذلك كون كاتب المذكرات " يكتب تاريخا وتحليلا  لا يخلو بالاساس من رؤية شخصية او رؤية الحركة السياسية التي ينتمي اليها " . وهكذا يكون السؤال الاول الذي يرد في البال ، هو بماذا يختلف كتاب " الحقيقة كما عشتها " لجاسم الحلوائي عن غيره ؟ وكيف قدم لنا جاسم الحلوائي مذكراته ؟

في مقدمة الكتاب ، وفي السطور الاولى ، يشير الكاتب جاسم الحلوائي الى كونه واجه صعوبة ، سماها "مأزق حقيقي "، عند البدء في كتابة ما يصرعلى تسميته وبتواضع شديد" ليس بمذكرات ، بل هو ابسط من ذلك " ص 5 ، واشارة الكاتب الى هذا المأزق يأتي علامة مشجعة لقراءة الكتاب وامكانية تمّيزه من خلال اقرار الكاتب بكل جرأة واشارته الى " الفرق النوعي بين وعي الان ووعي قبل التحولات التي ذكرتها " ص 5 ، وهذه التحولات التي  يشير لها الكاتب هو ما جرى من مراجعة مختلفة الاتجاهات ، في الفكر الاشتراكي بعد انهيار تجربة النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وما رافق ذلك من تاثيرات العولمة والثورة التكنولوجية والمعلوماتية ، وما رافق ذلك من عملية التجديد داخل مؤسسة الحزب الشيوعي العراقي فكريا وتنظيميا . ان ما تقدم يجعل القارئ يطمأن الى انه لن يقرأ كتابا بصيغ تبريرية ولا يجد فيه بكاءا على الاطلال وهتافات حماسية وتعديد مناقب اسطورية وتلميع للذات بشكل مغالط ، ولا محاولة جلد للذات بشكل غير منتج . ان قراءة الكتاب وكما اشار الرفيق عادل حبة تقود حقا الى الاستنتاج بأنه " محاولة جادة ومتميزة " وانه كتب " برؤية جديدة " وان الكاتب " استطاع ان ينقل الحقيقة كما عاشها وبدون رتوش وبصدق وبساطة ".

4

 اهدى الكاتب جاسم الحلوائي كتابه الى زوجته السيدة ماجدة عطية شناوة " ام شروق " ، وهي اخت رفيقه في النضال الشهيد جواد عطية ، كـ " حبيبة وشريكة حياة ورفيقة درب " ، وهو هنا الى جانب كونه لمسة من الوفاء ، فهو ايضا تقدير رفيع من الكاتب لمساهمة المرأة العراقية في النضال الوطني ، وليشير الى حقيقة كون مسيرة كل مناضل مهما كانت وما حقتت من نجاحات  لم تكن لتكون لولا مساهمة المقربين منه ودورهم الفاعل في دعمه والوقوف الى جانبه، فالاهداء هنا هو ايضا اشادة بدور الرفيقة ام شروق ليس بحكم كونها الزوجة والحبيبة ، بل كونها مناضلة شيوعية قريبة من الكاتب المناضل تحملت ما تحملت من قسوة المطاردة والتشرد والمعاناة ، وايضا كان لها مساهمات بارزة يعرضها لنا الكتاب هنا وهناك في تفاصيال العمل الحزبي ، وعلى سبيل المثال لا الحصر مساهمتها  في نجاح خطة هروب الكاتب المناضل جاسم الحلوائي ورفاق له من سجن خلف السدة في الاول من نيسان عام 1966 .

5

من المفارقات الطريفة في حياة المناضل جاسم الحلوائي ، المنحدرمن عائلة كادحة ، ان انضمامه الى الحزب الشيوعي العراقي ، الذي تم في عام 1954،جرى وبسبب ظروف وتفاصيل يعرضها الكتاب ، ليس الى التنظيم الاساس للحزب الشيوعي العراقي ، بل الى منظمة منشقة عن الحزب ، هي منظمة "راية الشغيلة " التي كانت تصدر جريدة بهذا الاسم . وفي اطار مراجعته لظروف انضمامه الى الحزب وعملية انشقاق "راية الشغيلة" ، نجد الكاتب وبوعي مسؤول يتوقف عند قضية الديمقراطية داخل الحزب التي كانت احد الاسباب الرئيسة لغالبية الانشقاقات في الحزب الشيوعي العراقي ، ومنها انشقاق " راية الشغيلة " الذي جاء كرد فعل على " النزعة اليسارية ـ الانعزالية والسلوك البيروقراطي والفردي في قيادة الحزب " ص 23 . فالاحزاب الشيوعية في تلك الفترة كما يؤكد الكاتب " بالرغم من  انظمتها الداخلية تنص على ان بناء الحزب يقوم على اساس المركزية الديمقراطية ، فالمركزية كانت طاغية والديمقراطية ضئيلة " ص 32 .

6

من الصفحات الاولى للكتاب، يلمس القارئ موضوعية الكاتب في اسلوبه ، فهو واذ وضع نصب عينيه مسؤولية رواية الحقيقة كما كان شاهدا عليها ، واشار في مقدمة الكتاب ، وبقول هو عندي بليغ الدلالة الى "الحقائق التاريخية عادة ما تضايق بعض الاحياء ، ولا ينجو من حسابها حتى الشهداء" ص6، فهو سعى ليكون بعيدا عن النزعة العاطفية والذاتية في محاكمته للاحداث. ونلمس ذلك في اطار مناقشته لمصداقية بعض الاحداث من خلال رواية الاخرين لها ، فعلى سبيل المثال حين دقق في رواية السيد باقر ابراهيم ، الذي اشار في مذكراته الى كونه اخر من غادر العراق من قيادات الحزب الشيوعي العراقي ، حاول الرفيق جاسم الحلوائي ان يصحح له ذلك بالشواهد المقرونة بالشهود ، بنبرة خالية من الانفعال ، بل الحلوائي يستخدم في حواره تعبير "رفيق" عند الحديث عن بعض الاسماء رغم كونها الان خارج صفوف الحزب الشيوعي ، و يأتي هذا انطلاقا من احترام التجربة النضالية وكونهم في تلك الفترة كانوا رفاقا في الحزب وان اختلفت مواقفهم الان. ومناقشة الحلوائي مع الاخرين تأتي ارتباطا برأي الكاتب الذي يقول"ان الاحداث التاريخية ليست ملكا شخصيا لاحد لكي يتصرف بها المرء كما يحلو له ، بل هي ملك للناس،ومودعة كأمانة ليس في ذاكرة الكاتب حسب ، وانما في وجدانه ايضا " ص 180، وحيث ابتعد عن الدخول في مماحكات وتبادل اتهامات تدخل في باب تصفية الحسابات ، التي للاسف وقع في فخها البعض من القادة السياسيين ممن كتبوا مذكراتهم. وايضا حين تناول الحلوائي محطات فكرية مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، حاول ان يعرض الوقائع المحيطة بالحدث المعني بشكل بانورامي ليستطيع القارئ ان يرسم صورة كاملة لما يجري ويساهم ايضا في تحديد المسؤوليات ، ولم يحاول ،حين يكون معنيا بالحدث والحكم، ان يضع نفسه خارج ما يجري او يخفف من قسوة الحكم ، بل حاول ان يراجع تجربته ويحاكمها وفق قناعاته الجديدة التي اشار اليها في مقدمة الكتاب. وكمثال حين تناول فترة الاعداد لمؤتمر الحزب الثالث المنعقد في 1976، اشار الى اللجنة الحزبية التي كلفت للعمل لاعداد مشروع برنامج الحزب ، الذي اقر فيما بعد عند انعقاد المؤتمرالثالث ، وكانت اللجنة تتكون من ستة من اعضاء اللجنة المركزية ذكر اسماءهم وكان هو من ضمنهم ،هذه اللجنة التي"عملت لشهور عديدة وقرانا ودرسنا مصادر كثيرة ووثائق مختلفة وناقشنا طويلا" ص153 و"استمعت الى راي وفد من الحزب الشيوعي السوفياتي"ص 153 ، وعلى اثرعمل هذه اللجنة تبنت قيادة الحزب موضوعة طريق التطور اللاراسمالي، الذي اثبت التجربة بطلانه ولم تزكه الحياة، بل وكان سببا في وقوع الحزب في اخطاء سياسية ، لم يحاول الرفيق جاسم الحلوائي هنا ان يكون خارج دائرة المسؤولية في تبني هذا الخط الفكري الخاطئ ،بل اشار"وان مسؤوليتي لا تقل عن مسؤولية اي من المساهمين الرئيسين في رسم تلك السياسة" ص154. واضافة الى ذلك حاول ان يستخلص دروسا من هذه التجربة في الوصول الى"عدم وجود طريق مضمون للتطور الاجتماعي سوى طريق النظام الديمقراطي المؤسساتي، بما يعنيه من اقامة مجتمع مدني ومجلس نواب ودستور دائم والفصل ين السلطات واقرار حق تقرير المصير للقوميات وفصل الدين عن الدولة وضمان حقوق الانسان ومساواة المراة بالرجل بالحقوق والواجبات" ص 154

7

مما يحسب للكاتب والكتاب ، هو غلبة روح التواضع عن الكاتب في روايته للاحداث ، وعدم لجوءه الى تلميع صورته الشخصية ولم يحاول ان يقدم نفسه بشكل مميز عن الاخرين من رفاقه المناضلين ، برغم وجود هذا التميز هنا وهناك في محطات ومواقف نضالية . وبرز اهتمامه بتقييم مواقف رفاقه ، والاشادة بدورهم ومساهماتهم ، فالهروب من سجن خلف السدة في نيسان 1966 ، واذ كان لقراره بضرورة التنفيذ ، الدور الحاسم بنجاح الخطة ، فهو لم ينس ان يشير الى " كان مهندس هذا الهروب الناجح وقائده الرفيق عمرعلي الشيخ " ص 119 ، ويذكر للقراء قائمة باسماء المساهمين كل وحسب دوره ومساهمته . وحين يتحدث عن ظروف القمع الوحشي التي تعرض لها الحزب في عام 1978 على ايدي نظام حزب البعث فهو يشيد كثيرا بموقف الشهيد البطل مزهر هول الراشد " ابو كريم " ، الذي اعتقل وتعرض الى تعذيب وحشي، للاعتراف على الصلات الحزبية ومواقع قيادة الحزب ، ويشير الكاتب " لولا استشهاد الرفيق ابي كريم لكانت الخسائر افدح " ص 178 ، وكانت قد حصلت بعض الاعترافات والانهيارات الى قادت من اسم الى اخر لتصل الى الشهيد ابي كريم الذي قطع باستشهاده خيط الانهيارات واوقفها . ولكن الكاتب حين يتحدث عن ظروف مشابهة حصلت معه في عام 1965 ويقول "بعد الضربة التي وجهت للحزب وكبس المطبعة الرئيسية والقاء القبض على الكودار الرئيسية العاملة في هذا لجهاز بعد انهيار احد الكوادر الرئيسة وبسبب ذلك تم اعتقال وكبس بيت توفيق احمد عضو اللجنة المركزية ، وكان مركز عمل لجنة التنظيم المركزية ، واغتيال الرفيق حميد الدجيلي عضو اللجنة المركزية " ص 112 ، وحيث تم اعتقال الكاتب ايضا ، فأنه يتحدث بتواضع شديد عن صموده البطولي اثناء التعذيب ، الذي رسمت له المخيلة الشعبية صورة اسطورية. في تلك الايام لم يسمع الجلادون من المناضل ابي شروق رغم كل قسوة التعذيب الوحشي سوى:" واجب العضو الحزبي صيانة اسرار الحزب " ، هذا الموقف الذي قدم للجلادين درسا عن صلابة الشيوعيين ، وصار مثالا يحتذى به بين صفوف الشيوعيين العراقيين، ولذلك اشادت به نشرات الحزب الداخلية في تلك الايام .

وفي معرض حديثه عن تفاصيل الاختفاء والعمل السري في محافظة كربلاء في سنة 1956، يتحدث لنا عرضا وبكل بساطة عن مساعدته لشاب امي في تعلم القراءة والكتابة ، " وبالمناسبة كان في بيت صكب شاب يصغرني بعدة سنوات اسمه جاسم ايضا وكان أميا ولديه رغبة شديدة في تعلم القراءة وقد ساعدته وتعلم بسرعة ، فبعد اشهر معدودة اخذ يقرا الصحف اليومية "
ص 49 ، لكن جاسم الحلوائي لم يتوقف كثيرا عند هذه التجربة للحديث عنها وانما مر عليها ببساطة كحدث عابر مستخدما تعبير " بالمناسبة... " ، ليس لسبب ما من وجهة نظري سوى لتواضع الكاتب ، رغم انه قدم هنا درسا بليغا لنا في كون المناضل الشيوعي لم ينس دوره التنويري الاجتماعي ، وكرس له وقتا وجهدا رغم كل المصاعب وحياة التوتر والملاحقة التي يعيشها .

8

يحمل الكتاب العديد من التفاصيل والتجارب والدروس عن اساليب العمل بين اوساط الجماهير، خصوصا بين الفلاحين البسطاء الذين كسب جاسم الحلوائي ثقتهم ، وخاض معهم نضالات مطلبية ، حققت النجاحات الباهرة ، ومنها انتفاضة فلاحي ثلث الجزرة في منطقة الكوت ، والتي يعتقد الكاتب انها حصلت في اواخر1960 او بداية 1961، حيث نجح الفلاحين وبدعم من منظمة الحزب الشيوعي بالانتصار في معركتهم مع الاقطاعي مهدي بلاسم الياسين ، رئيس عشيرة المياح، الذي حاول الاستفادة من انحياز حكومة عبد الكريم قاسم لفترة الى جانب الملاكين على حساب الفلاحين ، ويعتبر الكاتب ان انتفاضة فلاحي ثلث الجزيرة لم تنل اهتمام المؤرخين فهي ساهمت في الغاء قرار اعادة اراضي الاقطاع اذ لم يصدر بعد ذلك اي قرار باعادةاقطاعية كبيرة الى اي اقطاعي .

ومن المراجعات المهمة التي يقوم بها الكاتب ما يخص عمل الحزب بين المنظمات المهنية ، حيث يدين الكاتب بقوة وصراحة اساليب عمل الحزب السابقة ويدعو الى اتباع اساليب جديدة ، وهو من القلائل الذين توقفوا عند هذا الامر، وقد سبقه الفقيد الدكتور رحيم عجينة للحديث بهذا الموضوع في مذكراته ، يقول جاسم الحلوائي بهذا الخصوص :" وأقولها بدون تردد. إن نزعة الهيمنة على المنظمات الديمقراطية والمهنية والإنفراد بقيادة الجماهير الشعبية لم تكن نزعة طارئة وإنما من صلب أيديولوجية الحزب وإن الحرص على مبدأ وحدانية المنظمة الديمقراطية او المهنية الذي كنا ندافع عنه يصب في هذا الإتجاه. وهذه االنزعة كانت موجودة في المواد الخمسة الأولى من النظام الداخلي القديم، التي كنا نشرحها للعناصر الجديدة قبل ضمها للحزب وقد جرى تعديل تلك المواد في المؤتمرين الثاني والثالث. وبدأ الحزب بالتخلص من هذه الأيديولوجية منذ مؤتمره الخامس " مؤتمر الديمقراطية والتجديد" وثبت في نظامه الداخلي الجديد حرصه على إستقلالية المنظمات النقابية والمهنية والإبداعية وغيرها. وواصل دمقرطة الحزب وبرنامجه وسلوكه مع الآخرين وتبنى التعددية والتداول السلمي للسلطة"
ص76

9

لم يخل الكتاب من لمسات انسانية ، في الحديث عن هموم شخصية ، وتفاصيل حياة انسانية ، فالمناضل هو انسان اولا ، وهذه اللمحات والتفاصيل ابعدت عن الكتاب روح الجفاف واعطته روحا انسانية وجعلته اقرب الى القارئ . فنحن في يوم 24 اب 1985 نقف الى جانب ام شروق عند باب غرفة العناية الفائقة في احد مستشفيات ايران ، بل وننهار معها الى الارض ونلطم معها حين صاحت احد الممرضات" مات" ، وننهض معها حين يقولون لها "رجع"، وذلك حين تعرض زوجها المناضل الحلوائي الى السكتة القلبية المفاجئة ، التي عرضها لنا الكاتب بسياق فني يختلف عن بقية فصول الكتاب حيث نجد هنا في هذه الصفحات القليلة لمسة من الكتابة القصصية منحت الحدث شيئا من الشفافية ، وفيها ايضا محاولة لاضفاء روح فلسفية في مناقشتة لقضية الموت والحياة .

وهنا وهناك يمكن ان تصادفنا في صفحات الكتاب المواقف الانسانية التي حرص الكاتب على ابرازها ، اضافة الى تلك اللمسات في وصف بعض الاشخاص وطباعهم ، مما تساعد في ابعاد التقريرية عن نصوص الكتاب .

وبسهولة يمكن ان نصادف تلك الاشارات التي تناثرت في عموم صفحات الكتاب ، والتي تدعو الى التمسك بالعلم والمنطق ونبذ ما هو غيبي وخرافي، ومنها الاشارة الى الممرضات الايرانيات اللواتي شهدن تعرضه للسكتة القلبية ، فاذ راح بعضهن يتبرك به باعتباره نجا من الموت لانه موضع "رعاية الهية " ، فأن ممرضة اخرى والتي اخبرته عن جلبهم جهاز الصدمة الكهربائية من قسم اخر" كان يكفي ان يتوقف المصعد لبضعة دقائق حتى ينتهي كل شئ " ص 229 فيقول لنا عنها " يظهر ليس كل الايرانيين تبركون بالناجي من السكتة القلبية، انها تثق بجهاز الصدمة الكهربائية اكثر من اي شئ اخر "
ص 229

10

لم يخل الكتاب من روح الطرافة في ايراد الطرائف والمفارقات او ما يمكن تسميته بشر البلية ما يضحك التي تصادف المناضلين في حياتهم النضالية . ففي اول محكمة واول محكومية نالها المناضل جاسم الحلوائي في عام 1955 ، اذ اعتقل اثر حملة نوري السعيد المعادية للنشاط الوطني ، قاد الحظ المناضل كاظم حبيب ، وكان حينها طالبا في السنة النهائية من الدراسة الاعدادية ، ليكون شريك المناضل جاسم الحلوائي، الذي اضطر لترك مقاعد الدراسة بعد إنهائه المرحلة الأبتدائية بسبب ضغوط عائلية ، نقول قاد الحظ المناضل كاظم حبيب ليكون شريك الحلوائي في قفص الاتهام امام حاكم محكمة الجزاء في كربلاء ، ويروي لنا المناضل جاسم الحلوائي " اقنعت مسؤولي الحزبي بان نهتف في المحكمة احتجاجا" ص 34 ، وذلك " في حال صدور حكم من ست شهور فما فوق " ص 34 ، وفي يوم المحكمة يقول الحلوائي " حكمت علينا المحكمة بالسجن لمدة ستة اشهر مع وقف التنفيذ على ان يطلق سراحنا بكفالة قدرها 100 دينار وبسبب ثقل سمعي ، ولرغبتي في تحدي طغيان الحكومة وتعسفها لم يصل الى سمعي سوى " ستة اشهر سجن " فهتفت : تسقط المحاكم الصورية ، يسقط الحلف التركي ـ الباكستاني ، فالتفت كاظم الي مندهشا ، مدركا الالتباس الذي حصل ، حاسما موقفه بالتضامن معي رافعا صوته هو الاخر بالهتاف " ص 34 ، ليامر الحاكم بعد ذلك بالطبع بتنفيذ المحكومية بهما !.

وعند تنفيذ خطة الهروب من سجن خلف السدة عام 1966 ، التي تطلبت اعدادا محكما وجهدا بالغ الدقة ، وحيث تمكن الرفيق عمر الشيخ علي والرفيق جاسم الحلوائي من مغادرة الزنزانة عبر شباك جانبي والاختلاط بزوار مواجهة السجناء ، كلفت الرفيقة المناضلة مادلين يعقوب بالتغطية على الحلوائي عند المغادرة مع الزوار ، يروي الحلوائي ، الذي اعد له للهروب وحسب الخطة زي طالب جامعي"رافقتني مادلين يعقوب متابطة ذراعي اليسرى وكنت احمل طفلة صديقة مادلين،ان مادلين فتاة انيقة تصغرني ببضعة سنوات فكنا نبدو وكاننا فعلا زوجين، اجتزنا اخطرنقطة بسلام ، وما ان اجتزنا النقطة الثانية حتى سحبت مادلين يدها من تحت ابطي وركضت امامي تدفع الناس بيديها تشق طريق لي كي اتمكن من السير بسرعة وبدون عوائق، ولم يكن يعوزها سوى الصراخ "
ـ افسحوا المجال لقد نجح بالهروب ."
ص 118

11

ما الذي لم يروه لنا الكتاب ؟
كقارئ ، متحمس للكتاب ، ومعجب باسلوبه ، كنت اتمنى اشياء اكثر، وسأظل اتمنى ان ينتبه الكاتب الى الملاحظات التي يقدمها القراء الحريصين على هكذا نوع من الكتب ، خصوصا وان الكاتب سينال الثقة بموضوعيته الملموسة وعدم انحيازه العاطفي لغير الحقيقة .

فالرفيق جاسم الحلوائي لم يحدثنا بفصل مستقل ، عن ظروف انتخابه للجنة المركزية ، وتناثرت المعلومات عن هذا الامر هنا وهناك بشكل ربما يصعب لمها ، وكان ممكنا الحديث عن ظروف ترشيحه ، وردود فعله الشخصية وردود فعل الاخرين ، وحضوره اول اجتماع للجنة المركزية وما حول ذلك ، وايضا عن تفاصيل خروجه من عضوية اللجنة المركزية وقناعاته وردود فعله وتفاصيل ما جرى ، فليس كاف ابدا الحديث عن ذلك ببضعة سطور.

كنت اتمنى من الكاتب ايضا ان يخصص فصلا مستقلا لشخصية القائد الشيوعي عزيز محمد ، خصوصا وان الرفيق عزيز محمد قاد الحزب لفترة زمنية طويلة ( 1964 ـ 1993 ) ، والرفيق جاسم الحلوائي عاش معه وسجن معه وعمل معه في مواقع حزبية نضالية مختلفة ، مما يتيح له لو حاول ان يرسم للقارئ صورة ما لهذا القائد الشيوعي ، ولشرح اسلوبه القيادي في العمل ، وتطوره الفكري، وعلاقاتاه مع مختلف الرفاق في قيادة الحزب ، وما يقال عن اسلوبه في القيادة بالامساك بالعصا من الوسط ، وعن ايجابيات وسلبياته ، الخ ، فمن هذه التفاصيل والاحكام يمكن للكادر الحزبي الشاب ان يتعلم ويتثقف ، وهي بالتالي ستكون ملك للتاريخ .

والامر كذلك يتعلق باسماء قادة حزبيين اخرين ، مثل الشهيد البطل سلام عادل وغيرهم ، بحيث ذلك يجعلنا نطمع من الكاتب بأن يضيف فصول جديدة للطبعة القادمة من الكتاب ، او ان يكون هناك كتاب مستقل بهذا الخصوص .

ختاما اقول للقراء الاعزاء هذا كتاب يستحق الدراسة والقراءة المتكررة فهو كتاب شيق وغني بمادته واسلوبه ، فتحية للكاتب وامنيات بالصحة وعمرا مديدا.



سماوة القطب
اذار 2007

 

 

free web counter