| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

يوسف أبو الفوز 
haddad.yousif@yahoo.com

 

 

 

                                                            الأربعاء 13/2/ 2013



قصة قصيرة

حياة ! *

يوسف أبو الفوز

القاص والروائي والاعلامي يوسف أبو الفوز، من مواليد السماوة 1956 ، غادر العراق لاسباب سياسية عام 1979 الى الكويت واليمن الديمقراطية ، وعاد الى الوطن والتحق بقوات الانصار الشيوعيين عام 1982 في كوردستان العراق ، وبقي هناك حتى احداث الانفال صيف عام 1988، حيث بدأت رحلته مع التشرد والمنفى ، وقضى منها عاما في السجون الاستونية لعدم أمتلاكه جواز سفر ، وثم استقر في فنلندا ، منذ مطلع 1995 ، وخلال مسيرته الادبية اصدر العديد من الكتب القصصية والروائية والادبية، ومتواصل في نشاطه الاعلامي والادبي، وفي عام 2000 ، في هلسنكي، صدرت مجموعته القصصية "طائر الدهشة" ، مترجمة الى اللغة الفنلندية من قبل الباحث والاستاذ في جامعة هلسنكي الدكتور ماركو يونتونين ، كما أنه كتب واخرج للتلفزيون الفنلندي افلاما وثائقية عن العراق ، اختير فيلمه " عند بقايا الذاكرة " 2006 لتمثيل فنلندا في مهرجان سينمائي في سويسرا ورشحت روايته " عند سماء القطب " 2010 لجائزة البوكر العربية . القصة المنشورة من مخطوط " بعيداُ عن البنادق " معد للنشر ، يحاول فيه الكاتب تسليط الضوء على حياة الانصار ما بعد نهاية حركة الكفاح المسلح ، ورصد آمالهم وذكرياتهم وخيباتهم وطموحاتهم !

لا يتذكر مَن اقترح أسمه ، لكنه لم يعارض . وجد نفسه ضمن الوفد الذي تم أختياره والتصويت على أعضائه وتوجه بأسم المؤتمر لزيارة المناضل الكبير ، الذي بلغهم انه متوعك الصحة وتعذر عليه الحضور كضيف شرف ، فقرر المؤتمر، بغالبية الأصوات ، زيارته إلى بيته بوفد كثير العدد محملين بباقات الورد وتحايا الوفاء .

كانت أربيل تلتهب تحت درجات الحرارة التي بلغت الخمسين درجة ، في موجة حر تعم عموم البلاد. الاقاويل تقول انها تجاوزت الخمسين بعدة درجات ، الشوارع فارغة ، السيارات في بعض الاماكن تطبع اثارها على الاسفلت ، المآذن تتبارى في إطلاق الادعية بمناسبة حلول شهر رمضان الذي يقول الجميع انه سيكون ثقيلا هذا العام . اصحابه يتأففون ، يطلقون شتائم في كل الاتجاهات ويتصايحون :
ـ الله يكون في عون اهل البصرة والناصرية ...
ـ والسماوة ؟!
ـ والسماوة يا بعد روحي ... أعرف لا كهرباء ولا خدمات عندكم مثلنا !
ـ المهم ان لدينا مجلس نواب مكيّفاً !
ـ أكتب على العراقيين ان يعيشوا في الجحيم قبل حلول يوم القيامة ؟
مسؤول الوفد لا يمل من التكرار ، وكأنه يرسل برقيات مثلما كان أيام الجبل :
ـ تذكروا ، لن نمكث هناك سوى القليل من الوقت . لن نتحدث كثيرا . هناك من سيتحدث بأسمنا . ننصرف بسرعة . لن نقبل الدعوة للبقاء اكثر. علينا مراعاة صحته ، مهمتنا ابلاغه بأننا لم ننساه واننا نقدر تضحياته ونضاله و ...
ـ لا تنسوا باقات الورد !
جلس في احدى السيارات صامتا عند النافذه الى جانب أحد اصحابه ، الذي بدا متبرما لكونهم نسوا شراء زجاجات الماء :
ـ هل حكم علينا بالعذاب في كل وقت !
عاد مسؤول الوفد يكرر من جديد وبدت تكتسي صوته بحة من كثرة الصراخ :
ـ يا اصحابي ارجوكم . فكرنا بكل شيء ، فقط اعطونا الفرصة . سنتوقف عند اقرب "سوبر ماركت" ونشتري لكم زجاجات الماء البارد . فقط اصبروا علينا !
ـ لولا صبرنا لما تحملنا كل هذا العمر نتائج حسن تفكير وتدبير القيادات !
تحركت ثلاث سيارات ازدحمت بركابها ، مبتعدة عن الفندق تلاحقهم نظرات الانزعاج من البعض ممن لم يحالفهم الحظ ليكونوا ضمن قوام الوفد . أراد احدهم ان يغني ، فأطلق اغنية سرعان ما ماتت حين لم يجد تجاوبا من الاخرين . في السيارة التي تسبقهم لاحظ الاصابع ترتفع وتتشابك فعرف انهم يغنون ويدبكون على طريقتهم . كانت السيارات تلتهم ارضية الشوارع العريضة النظيفة تحت شمس آب ، تترك اطراف المدينة ، حيث مكان الفندق الذي اقيم فيه المؤتمر وتقترب من الاحياء السكنية . مروا ببيوت فارهة بأسيجة مرتفعة واشجار باسقة في حدائق عامرة ، فقال صاحبه القريب اليه :
ـ واضح انها بيوت مسؤولين مفسدين ؟
فصاح احدهم من مقدمة السيارة :
ـ وكيف عرفت أنهم مفسدون ؟
فضحك صاحبه وقال :
ـ من الخادمة التايوانية الواقفة عند الباب !
وانطلقت ضحكات خافتة وتعليقات من مقدمة السيارة لم يسمعها جيدا . توقفت السيارات عند "سوبر ماركت" بأبواب أوتوماتيكية عريضة عالية ، تقف عندها افيال واحصنة خشبية ، نظيفة لامعه ، مزينة بأشرطة ملونة كأنها في سيرك . وجدها المدخنون فرصة فتقافزوا من السيارات وراحوا يتبادلون السجائر والولاعات ويتقافزون بمرح مستعيدين شيئا من ايام فتوتهم الغاربة ، ايام كان صخر الجبل يأن تحت خطوات اقدامهم الواثقة ، فوجدها فرصة ليقلب الصحيفة التي تركها صاحبه في مكانه وراح يتابع تطورات موقف غلق ايران لنهر الوند ومخاطر حلول كارثة بيئية بسبب ذلك . كان يتمنى لو ان المؤتمر استطاع ارسال وفد تضامني للوقوف ولو ساعات الى جانب المتظاهرين ، ممثلي منظمات المجتمع المدني ، الذين قطعوا الطريق المؤدي الى معبر المنذرية الحدودي في خانقين . بلاد مهددة بالجفاف . حكومة محاصصة طائفية واثنية تهادن الجيران وشعب بحت اصواته من الصراخ والشكوى . الصبر والجحيم والعذاب . جفاف ومعاناة وعطش . فجأة من لا مكان خرجت . مثل نبع جبلي ينبثق من بين الصخور . لمحها تتحرك عند باب "السوبر ماركت". لم يكن متأكدا . أحقا هي ؟ بدأ بعض اصحابه بالصعود وثمة من راح يوزع قناني الماء المثلجة . أراد النزول لم يستطع . زاحمه الصاعدون . كان شعرها طويلا مثلما كانت ، مثل جناح سنونو حزين يداعب سمرة وجهها الاليف . تخفي عينيها بنظارات شمسية عريضة على غير عادتها . من جاء بها الى هنا ؟ من جاء بها من البصرة الى اربيل ؟ يقول أصحابه :
ـ الاوضاع الامنية المتردية جنوب ووسط العراق جلبت الكثير من العوائل الى مدن كردستان !
فجاة ركضت طفلة . خمس او اربعة اعوام . عبر نافذة السائق المفتوحة ، سمعها تنادي خلفها . صوتها الخافت وصله كأنه السحر :
ـ حياة !
انقبض قلبه . كف حجرية عصرته . صوتها . هو ذاته . لم يتبدل . خافت وواضح كأنه خفقة جناح . كموجة في نهير بصريّ يتطامن عند سعفات نخلة استظلا بها في يوم ما . كان بالكاد يسمعها وهما يتحادثان . كان يبذل جهدا ليجعلها تقول كلمات غزل ما بصوت مسموع :
ـ قولي ؟
ـ ماذا ؟
ـ قولي احبك ؟
في بدء معرفته لها كان يظنها لا تسمع نفسها حين تتكلم . هاهي التي يوما قالت له وعيناها تلتمعان بالصدق والدمع :
ـ انت وحدك من يستطيع ان يعرف مسالك قلبي !
لو تلتفت اليه . لو تنظر باتجاهه . اصحابه يواصلون الصعود وضجيج الضحكات يعلو على كل شيء. يحاول فتح زجاج النافذة القريبة ، لا يعرف كيف ؟ كيف يستطيع لفت أنتباهها ؟ من جاء بك ايتها الغالية بعد كل هذه السنين ؟ حين القوا القبض عليه ، قال لأمه التي زارته الى السجن :
ـ اخبريها ، بأنها أمراة حرة . لا اعرف لي مستقبلا مع سلطة غاشمة ، ولا اريد تقييد حياتها مع مصيري المجهول !
بعد ان غادر ابو غريب أثر العفو الرئاسي المفاجئ ، تسلل الى كردستان ومن هناك أخذه أحد معارفه من ايام الدراسية الجامعية الى قريب له الذي قاده ولعدة ليال ، عبر وديان ووهاد ليجد نفسه وسط المقاتلين في الجبل ، ليكون واحدا منهم لسنوات طويلة . حين قابل اخته بعد سقوط النظام الديكتاتوري لم يتجرأ عن السؤال كثيرا عن المرأة التي لازمه طيفها كل سنوات الجبل يحلم بلقائها في يوم ما . فجأة في اربيل يجدها امامه ومعها أبنة بعمر الورد وأيضا أسمها :
" حياة" ؟!
ـ لو اتاحت الحياة لنا الفرصة لان نعيش معا ، سأنجب لك ابنة أسميها ... حياة !
وها هي "حياة " تقفز أمامه . ايمكن ذلك ؟ الم يعترض زوجها على هذا الاسم ؟ ألم يخطر في باله سبب اختيارها لهذا الاسم بالذات ؟ أتكون ...
رأى رجلا مديد القامة ، وسيما ، بنظارات طبية وبدلة وربطة عنق رغم الحر القاتل ، يغادر السوبر ماركت ويقترب منها . كان يدفع أمامه عربة محملة باكياس وزجاجات ماء وعلب اغذية مغلفة . قال شيئا فضحكت له ، وألتفت . أرتجف قلبه . شعر وكأنها لمحته . اذ راحت تحدق طويلا بأتجاهه . رفع كتفيه ليستقيم ظهره . كانت تعيب عليه أن يسير محني الظهر :
ـ صاحباتي يقلن لي انك تسير كأنك أضعت شيئا وتبحث عنه !
طول عمره وهو يبحث عن اشياء اضاعها وفقدها . لم تتح له الحياة الحصول على ما كان يحلم به . ليس وحده . كل ابناء جيله الخائب . لم يستطع إكمال دراسته الجامعية . البعثيون وضعوه بين خيارين. الموت أو الحياة . ان يهرب ويترك الجامعة وهو في سنته الاخيرة وبين ان يمسخ كل ما أمن به من قيم وأفكار ، فترك الجامعة لهم وتشرد وتخفى سنة كاملة في وطنه وضباع البعث تطارده من شارع لشارع حتى القوا القبض عليه يوما أثر وشاية ورموه في زنزانة رطبة من أبي غريب . فقد حبيبته ، بسبب هذا البعد الذي راح يتوالد سنة بعد اخرى ، يدفع به من بلد غريب الى أخر ، من لغة الى اخرى ، حتى وجد نفسه يقيم عند حافات الارض . حين عاد الى العراق ، عرف ان لها حياتها الجديدة ، فلم يشأ ان يخدش لها ايامها بماض صار بعيدا . فما ادراه بطباع زوجها ؟ ربما يكون رجلا غيورا يحاسبها على ماضيها ، فلماذا يمنحه الفرصة لانفجار غضبه وغيرته ؟ ألا يهمه ان تكون سعيدة ؟ اذن فليروض قلبه وحنينه وليجعل الزمن يشفيه من ماضيه البعيد . لم يكرر زياراته لبيت خالته حتى لا يسأله او يذكره أحد بأبنة جيرانهم التي أحبها يوما وعاهدها على الزواج . فقد العديد من اصحابه واصدقائه ضحايا حروب مجنونة لنظام شوفيني أهوج اراد ان يبسط سيطرته على المنطقة ويبني إمبراطورية قومية فأنتهى بقائد النظام وفارسه في حفره جرجره منها جنود الاحتلال الامريكان مثل جرذ أجرب . حين عاد وجد نفسه يسير في شوارع لا تعرفه ولا يعرفها ، في وطن طارد لابنائه ، اضاع منه طفولته وصباه . بعد احداث الانفال في كردستان ، وقبل سقوط الطاغية ، تشرد وتجول طويلا في بلدان المنفى ، وحين عاد بعد سقوط الصنم الى البصرة لزيارة ما تبقى من عائلته ، وجد كل شيء مختلفا . اقرب الناس اليه يتحدثون بلغة لا يفهمها . ابن خاله ، صديق طفولته ، راح لساعات يحكي له عن عذاب النار والحياة الدنيا الزائلة . بنت خالته بدت له بعباءتها وحجابها كخيال المآته ، وهي التي كانت تحرجه بتنانيرها القصيرة وشعرها الذي تحب ان يلاعبه الريح . أهذا وطن أم جامع ؟ اين حلم الناس بالحريات الشخصية، وهو يرى شيوخ وملالي مثل الفطر يتكاثرون في شاشات التلفزيون يكبرون ويبسملون ويحوقلون وهم يتحدثون عن فسق النساء السافرات !
ـ حياة !
صاح الرجل المتأنق وهو ينظر بأتجاه سيارتهم . رأى احد اصحابه يمازح الطفلة ويريها شيئا على غلاق كتاب يحمله . فهم سر نظراتها بأتجاهه . كانت الطفلة حياة هناك الى جانب السيارة تحجبها عنه اكتاف اصحابه يتزاحمون ويتسابقون الى سياراتهم .
مد مسؤول الوفد رأسه في سيارتهم وصرخ بصوت مبحوح :
ـ هل الجميع هنا ؟ لقد تأخرنا !
ـ طول عمرنا ونحن متأخرين !
ـ هذا نقد سياسي أو فلسفي ؟
وأنطلقت ضحكات مرحة . صاح احد اصحابه بلوعة :
ـ اغلقوا النوافذ رجاءا . الحر لا يطاق ، عزيزي ... سائقنا الورد رجاءا شغل التبريد !
صاح الرجل مديد القامة ، ذو النظارات الطبية والبدلة وربطة العنق بصوت أجش :
ـ حبيبتي "التفات" أرجوك ، هاتي أبنتك ودعينا نغادر !
التفت اليها . كانت تبتسم وهي تلوح بيدها لابنتها . لم يكن أسم حبيبته ألتفات . لها اسما اخر !
 


كتبت لاول مرة في اربيل 4 أب 2011
* نشرت في مجلة " الثقافة الجديدة " العدد 355 الصادرة في بغداد كانون الثاني 2013
 

 

 

free web counter