| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

يوسف أبو الفوز 
haddad.yousif@yahoo.com

 

 

 

                                                                                الثلاثاء 10/7/ 2012

 

نوكيا الفنلندية قصة مجد آيل للأُفول !ُ

يوسف أبو الفوز

في فنلندا ، هذا البلد الصغير (5,3 مليون نسمة)  المرمي على حافة القطب ، المعروف بشتائه القاسي والطويل، الذي كان يعتبره البعض بلدا خارج التأريخ ، تطور بسرعة بعد تجارب مريرة من الاحتلالات والحروب الاهلية ، وتحديدا بدأت نهضته الصناعية والعمرانية من بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم ان فنلندا لم تدخل مشروع مارشال بعد الحرب ، حفاظا منها على الحياد بين الشرق والغرب ، خصوصا بعد تورطها في السنوات الاولى للحرب العالمية الثانية بالوقوف الى جانب المانيا النازية ، مما عرضها من قبل قوى الحلفاء الى عقوبات دولية باهضة ،  الا انها استثمرت علاقاتها الاقتصادية مع الغرب والشرق ليتطور اقتصادها بشكل ملحوظ  . احد العلامات البارزة في اقتصاد فنلندا هو شركة نوكيا ، الشركة الرائدة في قطاع الاتصالات النقالة. كانت نوكيا قبل ان تدخل عصر الاتصالات الهاتفية شركة متواضعة لصناعة الاحذية المطاطية (الجزم) والخشب وورق التواليت وكيبلات الهواتف والكهربائية، وكانت في البداية عبارة عن شركتين اندمجتا مع بعضهما . المؤسس الاول لها كان مهندس التعدين الفنلندي ـ الدوق فيما بعد ـ فريدريك ايدستام (1838 ـ 1916) الذي عام 1865، في زمن حكم الامبراطورية الروسية لفنلندا ، وفي مدينة تامبرا (157 كم شمال العاصمة هلسنكي ) ، التي صارت تسمى "مانسشر فنلندا "لكثافة عدد المصانع الموجودة فيها ، بسبب توفر مصادر للطاقة من مياه البحيرات المحيطة ، أسس مطحنة للب الاشجار لصناعة الورق ، وفي عام 1868 انشأ المطحنة الثانية في مدينة نوكيا . في عام 1871 وبالاشتراك مع شريكه وصديقه المقرب رجل السياسة والاعمال ليو ميشلين (1839-1914 ) تم اعادة تنظيم وتأسيس الشركة وتحويلها الى شركة مساهمة ، واختارا لها اسم نوكيا الذي عرفت به لحد الان . لفترة طويلة ، ومنذ اواخر القرن التاسع عشر ، حاول ليو ميشلين توسيع عمل الشركة والدخول في مجال صناعة الاجهزة الكهربائية ، الا ان ذلك كان يلاقي معارضة من الشريك فريدريك ايدستام . في عام 1896 تقاعد فريدريك ايدستام واصبح ليو ميشيلين الرئيس الفعلي للشركة ، فقام بتنفيذ امنيته واصبحت شركة نوكيا واعتبارا من 1902  تصنع المولدات الكهربائية . في فنلندا ، وفي نفس المنطقة ، تامبرا ، كانت هناك تعمل ومنذ  1898 الشركة الفنلندية لصناعة الاخشاب وأسسها ايدوارد بولون ، وايضا ومنذ عام 1912 هناك الشركة الفنلندية للكيبلات اسسها ارفيد ويكستروم ، لصناعة كيبلات الهاتف الارضي والكيبلات الكهربائية ، هذه الشركات جميعا بدأت تتعامل مع بعضها البعض في صناعات تكميلية ، فكانت نوكيا لصناعة المولدات الكهربائية كما اسلفنا تعتمد على كيبلات الشركة الفنلندية للكيبلات ، ثم في عام 1922 وبتأثير ثقل الديون على بعض من هذه الشركات توحدت مع بعضها في شركة واحدة تحت اسم "نوكيا للصناعات" لتكون تكتل صناعي سيلعب دورا بارزا في حياة فنلندا والعالم الاقتصادية . اخذت الشركة اسمها من نهر "نوكيا فيرتا" الذي يبلغ طوله 121 كم وهو يمر بمدينة تامبرا ومدينة نوكيا الصغيرة ، واسم نوكيا تعني حيوان "السمور" الذي كان لفترة شعارا للشركة قبل ان يتم تغيره الى يدين ممتدتين لبعضهما البعض . الطريف ان الصناعة  الفنلندية للكيبلات كان سوقها الاساسي هو الاتحاد السوفياتي، عموما ان التعامل التجاري بين الاتحاد السوفياتي وفنلندا كان يحتل نسبة 25 % من صادرات فنلندا ، اذ كانت فنلندا تحتل المرتبة الثانية من بين الدول غير الاشتراكية المصدرة للاتحاد السوفياتي ، هذا من غير ان  اذ نسبة كبيرة من منتوج فنلندا كان يصدر الى الاتحاد السوفياتي كجزء من تعويضات الحرب التي كانت تدفعها فنلندا الى موسكو ، اذ فرض ستالين ان تكون التعويضات على شكل منتجات تحتاجها البلاد ، مما دفع فنلندا لانشاء صناعات تغطي طلبات موسكو للتعويضات ، والتي استمرت فنلندا تدفعها حتى سبعينات القرن الماضي، فصح هنا القول بان " مصائب قوم عند قوم فوائد " فأن حاجة فنلندا لايفاء التعويضات الى موسكو ساعد على بناء الكثير من البنى التحتية وادى الى تغير كبير في بنية الصناعة الفنلندية وتحديثها ، وزادت اهمية الصناعات المعدنية وتطورت لتصبح صناعة تصدير ، خاصة في الصناعات الكهربائية والالبسة والسفن والاثاث . كما ان التخوف من الجار الاكبر ـ الاتحاد السوفياتي ـ دفع بالبلد الصغير ـ فنلندا ـ ، وللألتفاف على القيود التي فرضتها المعاهدات والعقوبات الدولية على حجم تسليح فنلندا ، فأن فنلندا اندفعت لتطوير نوعية التسليح وتطوير التكنولوجيا العسكرية ، فكان ان صنعت نوكيا وبطلب من الجيش اول هاتف نوعي ، وهو هاتف نقال في عام 1972، وسرعان ما تطور هذا القطاع من الانتاج ليتحول الى انتاج صناعي عام وليغزو العالم ، فثورة الاتصالات والعولمة كانت بحاجة الى المزيد من الابتكارات والمنتجات السهلة الاستعمال مثل الهواتف النقالة ، الات التصوير والألعاب .

سنة بعد اخرى ، صارت نوكيا واحدة من اكبر الشركات العالمية ، لتصبح سادس او خامس أكبر الشركات حسب نسب الارباح وعدد العاملين فيها . بضائعها صارت تباع في كل مكان في العالم ،  ولها مصانع في العديد من عواصم العالم مثل بكين وطوكيو واثينا ، ولها فروع في كل مكان ، وتعد اكبر شركة متعددة الجنسيات فهي توظف حول العالم حوالي 60 الف موظف ، وتدفع ضرائب للدولة الفنلندية بنسبة تصل الى 7% من اقتصاد فنلندا ، وبقدر ما ان المواطن الفنلندي فخور بشركة نوكيا فهو يشعر بالاسى لان الكثير من بلدان العالم لا يعرفون بأن نوكيا شركة فنلندية ، ربما بسبب ان العولمة الراسمالية التي افقدت الشركة اصالتها الفنلندية ، فنسبة تتجاوز 70% من راسمالها تعود الى شركات استثمار امريكية ، وحتى البعض من كبار مسؤوليها اصبحوا من جنسيات اخرى غير فنلندية ، هذا الامر الذي كان من تقاليد عمل الشركة لسنوات طويلة، وفي بلاد المنطقة العربية فأن بضائع نوكيا معروفة جيدا ،  ومنها العراق بل وان نوكيا ما زالت تخطط لمشاريع تجارية في العراق .

في العقد الاخير ومع تفاقم الازمة الاقتصادية العالمية ، خصوصا ازمة منطقة اليورو ، وارتفاع نسبة التضخم، بدأت تنخفض اسعار بضائع نوكيا ، بسبب انخفاض المبيعات في ظل حمى المنافسة في الاسواق الحرة ، خصوصا منافسة البضائع الصينية واليابانية الارخص بشكل يكاد يكون عدوانيا ، وبدأت نوكيا بتسجيل خسائر متواصلة وانخفاض مستمر في اسهمها فولد ذلك ضغوطا لاستهلاك سيولتها في مقابل وقف مستوى ارتفاع ديونها ، فحتى اذار الماضي تشير التقارير الى ان صافي السيولة لدى نوكيا هو 4.9 مليار يورو وهو قابل للاستهلاك بسرعة بشكل يهدد الشركة بالافلاس ، وقد جرت الاحداث سريعا ففي العام الماضي 2011 سجلت نوكيا ارباحا بلغت 1.8 مليار يورو وكانت مبيعاتها الصافية 40 مليار يورو ، لكن الامور جرت بشكل سريع ومدهش ، ففي السنوات الثلاث الاخيرة انهارت اسهم نوكيا تدريجيا بأكثر من 60% . حاولت ادارة نوكيا المعالجة بتسريح اعداد من العاملين وغلق بعض المصانع، مثلما حصل في غلق معمل التصنيع في مدينة سالو في جنوب غرب فنلندا، وعقد تحالفات مع شركات اخرى مثل شركة مايكروسوفت ، التي يعتبرها بعض المحللين الاقتصاديين علامات لافول نجم هذه الشركة التي سطعت في سماء صناعة الاتصالات وقدمت خدمات كبيرة بمبتكرات مهمة في مجال الهاتف النقال وبرامج التشغيل والكاميرات الرقمية . يرى بعض المحللين ان الخسائر التي منيت بها نوكيا في الربع الاول من العام الحالي واضطرارها لتسريح حوالي ثلث عامليها وتراجع اسهم الشركة 80 في المئة ، لا يساعد على اعادة هيكلة الشركة ، بل ان قرارها باعادة الهيكلة هو اشبه بالحكم بالاعدام على الشركة .

المتفائلون يرون ان استعاددة نوكيا لثقة المستهلك والنجاح يحتاجان الى طرح منتجات متميزة ، خصوصا في سوق الهواتف الذكية ، ويرون ان نوكيا سبق وان مرت بأزمات استطاعت الخروج منها ، وان الادارة الجديدة تفعل الكثير من اجل تخفيف التكاليف لوقف خسارات الشركة ، وان قسم الابحاث الضخم الذي تملكه نوكيا وحجم براءات الاختراع التي تملكها قد يساعد على خروجها من الازمة ، وفي مقابل ذلك يرى البعض ان نوكيا بحاجة الى معجزة لتقف على قدميها.  فهل سيعود عصر المعجزات بمنتج اليكتروني يذهل العالم ، وتعود نوكيا لتخطف الاضواء من جديد ، هذه الشركة التي غيرت من مزاج المواطن الفنلندي الذي صار ثرثارا بسبب هواتفها بعد ان كان " صامتا بلغتين " كما كتب المسرحي الشهير برتولت بريخت (1898 ـ 1956)   عند هروبه من المانيا النازية ومروره عبر فنلندا عام 1941 ؟!

 

عن المدى البغدادية العدد (2531) الاثنين 09/07/2012

 

 



 

 

free web counter