| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر

 

 

 

 

السبت 7 /4/ 2006

 

 

المتنبي و هولاكو الشاعر
 

عدنان الظاهر

قال صاحبي لا تمزح ْ ! قالها بصرامة وكررها مرتين ! لا تمزح ْ يا هذا ... ليس معي في الشعر من مزاح . فعلا ً ... وجدت ُ الموقف َ صعبا ً ، صعبا ً جداً . قليلا ً ما يمزح المتنبي ولا سيّما في أمور الشعر وهو سيده وفارسه المجلّي ، ثم مصدر رزقه وسبب شهرته وتسابق الملوك والأمراء لإغرائه وكسبه إلى صفوفهم مادحا ً ومغنيا ً بأمجادهم وأمجاد الذين أنجبوهم واصفا ً حروب البعض منهم مع الروم الأجانب النصارى أو قمعهم الوحشي لبعض القبائل العربية التي ثارت ضد حكامها لهذا السبب أو ذاك ... كانت حياته جدا ً في جد وقلما قال شعراً في غير هذا الغرض . من يلومه إذا ً إذا ما كان شديد الغَيرة على الشعر عموما ً وعلى شعره بوجه خاص ؟! تركت صاحبي يبرد قليلا ً وتهدأ سَورة غضبه المشروع ولكن ْ المتعجّل . تناول بعض مقبِّلات ما قبل فطور الصباح مع كأس الشاي هازّا ً رأسه هزات ٍ خفيفة ً كشأنه دوما ً إذ ْ يحتج أو يستنكر أمرا ً أو إنه غير موافق على ما يسمع من محدثه وجليسه . تركته لفترة وجيزة أخرى أن يخلو لنفسه ويصفو مزاجه ويطيب خاطره وتنقشع عن سماواته غيوم الشك فيما قلت ُ بخصوص هولاكو وعلاقته بالشعر . معه حق ، معه كل الحق ! متى كان الدموي القاتل والشديد الفتك شاعراً وهل يمكن أن يكون ؟ أَيمُكن أن يكون قاتل ُ العراقيين وحارق ومدمّر ثقافتهم وعاصمتهم بغداد شاعراً ؟! الشعر شئ والقتل والدم والتدمير شئ آخر . ضدان لا يلتقيان .
تبسّم المتنبي بسمة جد َّ خفيفة مصطنعة فيها صُفرة كارتون الصناديق وإنطفاء جذوة النار وملمس أوراق الورد المصنوع من مادة البلاستيك . بسمة دبلوماسية باهتة رسمها على وجهه للمجاملة لا أكثر . إنه لا يجامل بالألفاظ أبداً . حريص على دقة ودلالة كل كلمة ينطق بها مهما كانت المناسبات . الرسم إذا ً بدل الكلمات ! الكلمات تنطق وتقول ما لا تقوله الرسوم ، هذه صامتة وإن ْ كانت غير خرساء . للكلمات لسان ٌ وليس للرسوم لسان . هذا هو شأن المتنبي إذا تنازل وأُضطر إلى أن يُجامل أو أن يُداري موقفاً يرفع فيه الحَرج عن جليسه . واتى الجو المناسب إذا ً لأقول َ ما أردت ُ أن أقول للمتنبي في بداية لقاء اليوم ، الجمعة ، الموافق السادس من شهر نيسان 2007 وهو يوم عطلة رسمية ، وإسم هذه الجمعة    
( Karfreitag / Good Friday ) بالألمانية والإنكليزية ... الجمعة الحزينة أو الجمعة العظيمة ... يوم صلب السيد المسيح .

نعم ، أردت ُ أن أقول لصاحبي أن الجزّار المغولي هولاكو كتب سنة 655 هجرية وهو يعسكر في حدود مدينة هَمذان ... كتب لآخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله ستة أبيات ٍ من الشعر جوابا ً ( ربما ) على آخر رسالة وصلته من خليفة بغداد مع هدايا متواضعة لا تتناسب وخطورة الوضع العسكري والسياسي وقُرب وقوع الكارثة المدوية . تقول ترجمتها / إذ كتبها على ما يبدو بلغته المغولية أو الفارسية / ما يلي :

إذهب ْ وأصنع ْ من الحديد المدن والأسوار
وأرفع ْ من الفولاذ الأبراج َ والهياكل
وأجمع ْ جيشا ً من المَرَدة ِ والشياطين
ثم تقدّم ْ نحوي للخصام ِ والنِزال
فأُنزلك َ ولو كنت َ في السماء
وسأدفع ُ بك َ غصبا ً إلى أفواه السباع .

كان صاحبي غائراً في أعمق أعماق ذاته . كان شديد الغموض متجهم الوجه حتى إنه لم يتمم كأس شايه تركه كما هو طافحاً ، بل وحتى لم يحرك الملعقة ليُذيب فيه قطعة السكّر . إكتفى بالتدخين المتصل يوقد سيجارة جديدة من سابقتها . ما الذي أهم َّ الشاعر ... ركاكة شعر هولاكو ( أو المنسوب له ) أم تنبؤه بهول وجسامة ما سيحل في بغداد وأهل العراق قاطبةً ؟ أحسب أن َّ هذا قبل ذاك . كان يعرف أو كمن يعرف ما سيقع في بغداد وباقي مدن العراق على أيدي هولاكو وجيوشه البربرية المتوحشة الجرّارة ولا من غرابة في ذلك فإنه هو المتنبي . ووقع بالفعل ما كان يتوقع ومعه أهل العلم في بغداد وذوو العقل والرأي والحصافة الذين بذلوا النصح لخليفتهم الضعيف المتهالك على جمع الجواري وتخزين الذهب والجواهر والولع الزائد بالصيد والطرب . نصحوه ببذل المال على حربه مع هولاكو وإرزاق الجند بما يستحقون ... وعد وزيره مؤيد الدين محمد بن أحمد إبن العلقمي الذي جمع في خمسة أشهر وعبأ جيشا ً جراراً لكن َّ الخليفة المستعصم نكث وعده وأخلف فلم يبذل المال اللازم ولا موّل العساكر . نقرأ ما قال بهذا الصدد وزير ثلاثة من سلاطين المغول ومؤرّخهم ومعاصر هذه الأحداث الجسام رشيد الدين فضل ُ الله الهمذاني صاحب كتاب جامع التواريخ [1] :

( أمر الوزير " إبن العلقمي " العارض بأن يعرض الجنود بالتدريج فوجاً فوجا ً ليصل َ تعبئة الجنود في حضرة الخليفة إلى البعيد والقريب والترك والعرب فتفتر ُّ عزيمة العدو . وبعد خمسة أشهر أبلغ َ العارض ُ { الشخص المكلّف بجمع وإستعراض الجند } الوزير َ أن َّ الجُند َ قد صاروا عددا ً وفيرا ً وجيشا ً جرّارا ً وأن َّ على الخليفة أن يمنح َ المال . فعرض َ الوزيرُ الأمر َ على المستعصم ولكنه إعتذر فيئس َ الوزير ُ من مواعيده كليّة ً ورضي َ بالقضاء ووضع عين الإنتظار على نافذة الإصطبار / المصدر ، الصفحة 128 ) . لم أر َ صاحبي المتنبي في طول حياته وعرضها حزينا ُ مكتئبا ً كما أراه في هذه اللحظات . سألته رأيه في موقف خليفة المسلمين المتخاذل وجشعه وحبه للأموال ثم تفريطه بعاصمة الخلافة ومستقبلها التي أتى هولاكو بعد قرابة عام من هذه الأحداث ... أتى بغداد وأزاح من الوجود أخر خليفة عباسي وقضى على آخر خلافة إسلامية . تنهد عميقا ً ثم قال : إذا كنت ُ أجهل ُ شعر هولاكو فإني لا أجهل الكثير من تفاصيل ما حدث من مراسلات بين هولاكو وخليفة بغداد المستعصم بالشيطان لا بالله . إسمه ولقبه لا يدلان عليه ولا على حقيقته . أجل ْ ، أعرف الكثير ، وأعرف ما كان يجري من نقاشات وجدل وتبادل آراء وإتهامات وشتائم خلال إجتماعات كبار مسؤولي الخليفة عسكريين ومدنيين . أعرف تفصيلات ما كان يدبّر في الظلام من دسائس ومؤامرات و مؤتمرات سرية لا تلبث أن تصل أخبارها إلى أسماع هولاكو . إستطاع هولاكو بدهائه وخبثه أن يشتري بعض رسل الخليفة إليه إذ ْ كان يجتمع بهم فردا ً فردا ً ولا أحد يعرف ما طبيعة هذه الإجتماعات الفردية المغلقة إلا ّ بعض مترجمي هولاكو . كان قائد جيش الخليفة شركسيا ً مملوكا ً إسمه مجاهد الدين الدواتدار ، وكان دائم الخلاف مع الوزير الحصيف الأمين وكثير الدس والإفتراء عليه . هل تسمح لي بتعليق قصير ؟ قال تفضّل . أرى أو أستنتج من كلامك هذا أن َّ الخليفة المستعصم ما كان غبيا ً وما كان مستبدَ الرأي عنيدا ً . قال كيف ؟ لأنه إحتفظ في وقت واحد بوزير عربي مدني يستمع إليه وبقائد عسكري غير عربي كذلك يُصغي إلى ما يقول لكنه لا يُنفذ ولا يأخذ بدسائسه وشغبه ونفاقه . كان ساعيا ً حريصا ً كما يبدو لي على إقامة حالة توازن دقيق بين جناح المدنيين يمثلهم وزيره إبن العلقمي وجناح العسكريين يمثلهم قائد جيشه مجاهد الدين . قال المتنبي الرأي كما تفضّلت َ ولكن ، ما كان هذا الخليفة الضعيف المتردد الجشع ( ديمقراطيا ً ) بطبعه ، إنما أجبرته ظروف الخطر المحدق به وبسلطانه وثروته ونسائه وولده وذهبه وجواريه ... أجبرته أن يتخذ وأن يلتزم ببعض مظاهر الأخذ بمشورة الآخرين من عناصر حاشيته وحكومته . كان ضعيفا ً مرتين في الأقل : ضعيفا كشخص وكرجل وطبع أصيل فيه . ثم كان ضعيفا ً بما يحيط ويحيق به من مخاطر غزو المغول الوشيك الذين دوّخوا شعوب العالم في تلكم الأزمنة ولم تصمد قلعة أو حامية أو جيش أو بلد أمام زحوف جحافلهم الجرارة . كان خليفة المسلمين مُكرها لا بطلا ً ... ليس الخلفاء ديمقراطيين ... ما كانوا ولن يكونوا !!
هل نمضي مع هولاكو وندخل بغداد َ معه لنتعرف على مصير الخليفة ومصائر أهل بغداد ؟ قال المتنبي لا ، أرجوك ، لا أتحمل مرآى الكارثة حتى لو كانت مصورة على شريط فيديو بالألوان . أرجوك أرجوك .
حدثتني نفسي أن أعرض عليه في أجهزتي أفلام ما تعرض له وطنه العراق في شهر شباط 1991 وآذار ونيسان من عام 2003 ... لكني تعوّذت ُ من شر الشيطان الرجيم وتمسّكت بقوة ٍ بأعصابي لئلا يفلت مني الزمام . أردت ُ بدل ذلك أن أغيّر مجاري الأمور فأقلبها من أجواء المأساة إلى جو كوميدي مرح ضاحك فيه فرفشة وغناء شرقي وعراقي صميم ... لدي بعض أفلام الفيديو لحليم حافظ وعبد الوهاب وفريد وصباح وشادية ... ولدي مجموعة أغان ٍ شجية للمطرب الحزين أبدا ً إبن الحلة البار وصنو حمورابي السيد سعدي الحلي . فكّرت بكل هذا لكنني فطنت ُ إلى مسألة الطعام ... نظرت في ساعة يدي فألفيتها الواحدة والنصف حسب َ توقيتنا الصيفي الذي بدأ إعتباراً من اليوم الثامن والعشرين من شهر آذار الفائت . ماذا تأكل يا ضيف ؟ سألت صاحبي . قال أي شئ ... أي شئ ... لم يبق ِ لي حديث هولاكو والمغول القدامى والجُدد رغبة في الطعام . تساوت في فمي مذاقات الأطعمة جميعا ً ... تبن وخشب وسعف جاف . إلاّ الماء فإنه إستثناء ... ماء دجلة َ والفرات !! بقيا كما هما ماء ً ومذاقا ً وإستقامة ً وإلتواءً . حافظا على خارطة وطبيعة مجريهما وضفافيهما ولم يخونا ولم يبدّلا ظلا أبدا ً يسقيان العراقيين وزروعهم ومواشيهم وأنعامهم ودوابهم عاما ً إثر َ عام وجيلا ً بعد جيل . تساوى الليل ُ في عيني والنهارُ !


[1] حسن الأمين / جنكيزخان وهولاكو / الغزو المغولي للبلاد الإسلامية من بغداد إلى عين جالوت . الناشر : دار النهار للنشر . بيروت 1983 . الطبعة الأولى 1976 .
أشعار هولاكو في الصفحة 130 من هذا الكتاب .

6 نيسان ( أبريل ) 2007