| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

الأثنين 7/9/ 2009

 

ضلالات إلى سليم بركات

د. عدنان الظاهر

(
ديوان شعر للشاعر حسين حبش / من منشورات دار الزمان للطباعة والنشر/ دمشق ، الطبعة الأولى 2009 ) .

ملاحظات أولية
يقع هذا الكتاب الجديد للشاعر السوري الكردي حسين حبش في 70 صفحة إنتهج فيه ـ كما كان شأنه في سالف دواوينه الشعرية ـ فن قصيدة الشعر المنثور مع فارق كبير هو أنه عرض شعره متصلاً دون توقف ومن دون تقطيعات وعناوين لكأنَّ الكتاب بأجمعه يمثل قصيدة واحدة نظمها الشاعر بنَفَسٍ واحد وفي وضع فكري ونفسي واحد وفي ظرف واحد بل حتى يُخيلُ لي كأنه أنجز مادة كتابه في يوم واحد . الطريف في أمر هذا الكتاب أنَّ الواحدَ منا يستطيعُ قراءة هذا الكتاب بالمعكوس ، أي أنْ يبدأ القراءة من الصفحة الأخيرة ويوالي القراءة حتى الصفحة الأولى من الكتاب دون أنْ يلاحظَ فارقاً ودون أنْ يسجّلَ خروجاً أو شذوذاً عما كان قد قرأه أول مرة قراءة عادية من الصفحة الأولى حتى الأخيرة. يذكّرني هذا الأمر بكتابة كلمة [ ليبيا ] سواء بدأ كاتبها من الشمال إلى اليمين أو بالعكس ... الناتج يبقى كما هو وكما كان : ليبيا .
لم يردْ في الكتاب أيُ ذكرٍ للروائي السوري الكردي الأستاذ سليم بركات الذي أمضى الكثير من أعوام عمره خارج بلاده . لكنّي جوّزت لنفسي أنْ أتكهنَ أنَّ الكتاب بأجمعه موهوب ومكتوب لسليم بركات ، كيف ؟ لقد تكلم الشاعر بصيغة فعل الحاضر ، الفعل المضارع ، لشخص آخر غائب فأصاب هدفين بضربة أو خطوة واحدة : عبّر فيما كتب عن نفسه وعبّر في نفس الوقت عن شخص آخر تماهى معه حدَّ الإندماج الكلي بالحلول الصوفي المعروف. لقد إبتدأ الشاعر كافة مقاطع ديوانه بأفعال من قبيل : يتخذُ ... يهتم ... يهل ... يمدُّ ... يهتبلُ ... يتنافرُ ... وهكذا من غير إستثناء . لقد إلتزم الشاعر بما لا يلزم ولكن ليس على نهج أبي العلاء المعري في لزومياته . إلتزم حسين حبش بالترويج وتخليد سليم بركات لكأنه هو ولكأنَّ هذا ذاك بحيث يختلط الأمرُ على القارئ لا يدري من هو المتكلم ومن هو المُخاطَب ! أليس هذا أسلوباً جديداً في الكتابة ونهجاً مُبتكراً يستحق عليه منحه براءة إختراع ؟ ليس بالضرورة أنْ تتطابق مزايا وسجايا وطبائع الشاعر وذاك الروائي الصامد والثابت ، لكنَّ الشاعر آثرَ الصامد الصامت على الشاعر المتكلم . وهبه نفسه وقلبه وقلمه وأخلى له مكانه ومكانته في الحياة وتلك مأثرة كبرى تُضافُ إلى جملة مآثر الشاعر التي أعرف عنه .

ما هي أبرز ملامح الكتاب الجديد بل وما الجديد في شخص وفن الشاعر حسين حبش ؟
1ـ متانة لغته العربية وسلامة إنشائه وقوة تعبيراته
2ـ ميله القوي الشديد لإستخدام كلمات جديدة من حيث الإشتقاق أو غير مألوفة أو تحتاج إلى تفكير من أجل فهمها وإستيعاب معانيها من قبيل : على (( نورج )) المتاهة / الصفحة 14 ... القصائد (( الكميتة )) / ص 30... لا يحفلُ (( بالوَمَد )) / ص 41... غير (( سادم )) / ص 41... في قلب (( الأريز )) / ص 42... يتهادى في(الأبلسة) / ص 48... لا شموخ (( للفهاهة )) / ص 51... رافعاً رايات (( الرهوة )) / ص 58 ... ويُصغي لنهنهات الوردة (( ورهامها )) / ص 59 .
3ـ قوة شخصيته وإعتداده بما يعرف وإصراره على الكثير من آرائه ووجهات نظره التي يستشير فيها بعض أصدقائه أحياناً . يستشيرُ ، نعم ، لكنه في نهاية المطاف يُصرُّ على رأيه وعلى ما يعرف على طريقة [[ إستشرْ وخالفْ ]] .
4ـ كتبه سلسلة من التطورات وفيها قفزات نوعية في الفن الشعري والصعود في الفكر والمنطق الشعريين . فكتابه الأخير هذا يختلف في محتواه وأسلوب كتابته ومجمل أو جلَّ أفكاره وفلسفته عما عرفنا في سابق كتبه . جريء في عرض فنه وجسور في أقواله وغير هيّاب في خوض غمار محاولات إكتشاف تراكيب لغوية وصيغ إنشائية جديدة كل الجدّة .
5ـ صخّابٌ إذا أراد وهامس حالم إذا شاء . متمرد كوني لا يعرف ولا يؤمن إلا بالإنسان جزءاً من الطبيعة مشتقاً من مادتها . ماديٌّ ملحدٌ لا يعبدُ إلا المرأة ولا يتردد في مخاطبتها بما يشاء من ألفاظ الجنس المُداري أو المكشوف . منحازٌ للجنس والحرية المطلقة . كردي أممي وعالمي كردي يكتب باللغة العربية كأفضل ما يكون الكتاب العرب .
6ـ مخلص لأصدقائه وفيٌّ لمن يستحق الوفاء أبيٌّ في تواضعه ومتواضعٌ في كبريائه الشخصي والقومي .
7ـ مثقف كبير يقرأ ويكتب وينشر بثلاث لغات هي العربية والكردية والألمانية

جولة متأنية في متون الكتاب
سأختارُ بعض مقاطع الكتاب التي تظهر فيها شخصية الشاعر وبراعته في كتابة ما كتب فضلاً عما تكشفه للقاريء من أساليب شعرية كثيرة الحداثة .

سمفونية الطقس والمطر
إستهواني على الصفحة 32 من الكتاب مقطعٌ صغير تكلم فيه الشاعر عن المطر بأسلوبه الخاص وخياله الشديد الخصوصية فوضع أمامي قصيدة بدر شاكر السياب " أنشودة المطر " . قال حسين عن المطر وفيه :
[[ يهلُّ مَرِحاً في ذبذبات الغيومِ وقِرّبها المليئة بأجنحةِ المطر
محذِّراً نكبةَ الطقسِ من أي برهان
مهدداً بالهطولِ الجمِّ والمتدفّق
شافياً غليلَ الوجدِ في أعالي السماء
ظافراً
أو
والجاً ،
لا مَحالة ]] .
أُعيدُ قراءةَ هذا المقطع المتواضع في عدد كلماته فأصابُ بالشلل . إنبهار لحد موت الجسد النصفي . أنتظرُ ولا أنتظرُ سقوط قطراتٍ من المطر ولكنْ لا من مطر ! أريدُ مطراً يُعيدُ الحياةَ لنصفي الميّت ... يبلُّ شفاهي الظمأى ... يروي خّدَرَ ترقبي لتنتعشَ حواسي الخمس ...لأرى ما أريدُ رؤيته وما لا أريدُ أنْ يقعَ . قال الشاعرُ [ ذبذبات الغيوم ] ولم يقلْ البرقَ والرعدَ اللذين يسبقان هطول المطر . البرقُ ضوءٌ والرعدُ صوتٌ وكلاهما أمواجٌ : ضوئية وصوتية . لذلك أسميتُ هذا المقطع بسمفونية الطقس ، سمفونية المطر فلقد حشد فيه عناصرَ المطر لكنه وزّعها على بضعة أسطر متفرقة فمنح المطرَ بهذا التوزيع زمناً يفصلُ زمن الولادة عن نوبات المخاض . ففي البرق حرارةُ الإنضاج وفي صوت الرعد قذائفُ تفجير " قِرَب " المطر .
قد أجدُ قراءةً ثانيةً مغايرة في شرح نص هذا المقطع . المطرُ والتمهيدُ له مجازات للثورة ، فالشاعر منكوبٌ والنكبة هي نكبة شعب الشاعر حسين حبش ومعاناته الطويلة الأمد . إنه يقرأ ، يتنبأ ، يتمنى ، ثائراً مُبشّراً بثورة تقلب الموازين وتهدُّ عروش الطواغيت على رؤوسهم مهدداً بالهطول الجمِّ المتدفق فإما النصرُ المبين على أعداء الشعوب [[ شافياً غليل الوجد في أعالي السماء ]] أو التقحّم الأسطوري الجريء حتى وإنْ لم يبلغْ الهدفَ النهائي ظافراً . لكأني به يعرف ما قال محمد مهدي الجواهري قبله مخاطباً ثائراً مناضلاً ضد سيطرة مستعمري العراق وحكوماتهم العميلة :
تقحّمْ ، لُعِنتَ ، أزيزَ الرصاصِ
وجرِّب من الحظِ ما يُقسمُ
فإما إلى حيثُ تبدو الحياةُ
لعينيكَ مَكرُمةً تُغمُ
وإما إلى جَدَثٍ لم يكنْ
ليفضله بيتكَ المظلمُ
الشاعر حسين حبش لا يقامر ولا يغامر ... فإنه يقول ما يقول عن قناعة وثقة متفائلة بالمستقبل وإنه قرأ التأريخَ جيداً ويتفهم مساراته ومنعرجاته .

فما قال السيّاب في وعن المطر ؟
مطر السياب خليط غير متجانس ففيه دمٌ ودموعٌ ونشيجٌ وموت وحزنٌ وجياعٌ وفيه عبيد . يخلط السياب كل هذا بالنماء وما يأتي مع المطر من خيرات وزروع وحصاد . لكأنه يُعيد أو يستعيدُ أسطورة تموز السومري حيث نصف سنة ربيع ونصف سنة ندبٌ وبكاءٌ وعويل على تموز الغائب . يغيبُ نصف عام وينبعثُ للدنيا نصف عام . سأختار مقتطعات مما قال السياب في قصيدة " أنشودة المطر "
أنشودةُ المطرْ
مطرْ ...
مطرْ ...
مطرْ ...
تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحُّ من دموعها الثقالْ
كأنَّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينامْ
بأنَّ أمَّهُ ـ التي أفاقَ منذُ عامْ
فلم يجدْها ، ثم حينَ لجَّ في السؤالْ
قالوا له " بعدَ غدٍ تعودْ ... "
...
مطرْ ...
مطرْ ...
أتعلمينَ أيَّ حزنٍ يبعث المطرْ ؟
وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمرْ
وكيف يشعرُ الوحيدُ بالضياعْ
بلا انتهاءٍ ـ كالدمِ المُراقِ ، كالجياعْ ،
كالحب ، كالأطفالِ ، كالموتى ـ هو المطرْ !
هنا نشعر بالفارق الكبير بين مطر حسين حبش السوري ومطر بدر شاكر السياب العراقي. هنا ضياع وغربة ونشيج وحزن ودم مُراق ثم تشذُّ بارزةً ، من باب التشبيه ، كلمة ( الحب ... كالحب ) بين هذا الركام من التوجع والحزن بل واليأس من المطر وما يأتي به هذا المطر . السياب لا يثق بالمطر فهو يقرر أنه رغم هطول المطر فإنَّ في العراق جوعاً ولا يمرُّ على العراقِ عام إلا وفيه مجاعة ! لنسمع ما قال شاعرنا السياب :
ومنذُ أنْ كنا صغاراً كانت السماءْ
تغيمُ في الشتاءْ
ويهطلُ المطرْ
وكل عامِ ـ حين يُعشبُ الثرى ـ نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليس فيه جوعْ .
فهل ـ تُرى ـ العيب والخلل في مطر العراق أم في العراق نفسه ؟ العراق يجوع رغم هطول الأمطار . فهل هذا المطر مجرد سحاب خُلّب خالٍ من الماء أم أنَّ تربةَ العراق عُقام ( عقيمة ) ؟ أم أنَّ العيب في رجال العراق العاجزين عن القيام بالثورة التي يريد السياب ؟ العقمُ إذاً في رجال العراق وليس في أديم العراق ولا من لومٍ على المطر !.
غير انَّ الشاعرين يلتقيان معاً وجهاً لوجه في مقطع آخر من قصيدة أنشودة المطر . أعني الوجه الثوري الصاعق المدمّر الذي سبق وأنْ رأينا في بعض شعر السيد حسين حبش . ثورة السياب لا تحتاجُ إلى أدلة وبراهين وشروح فهي أكثر من واضحة وأكثر من ناطقة في قوله :
أكادُ اسمعُ العراقَ يذخرُ الرعودْ
ويخزنُ البروقَ في السهولِ والجبالْ
حتى إذا ما فضَّ عنها ختمَها الرجالْ
لم تتركْ الرياحُ من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .

إشارات صوفية في شعر حسين حبش
لا ينفصلُ التصوف عن الدين بل ، لا من تصوف بدون دين . الدين هو حاضنة وراعي التصوف والمتصوفة {أقصد المتصوفة المسلمين} ... فمن أين وكيف جاء التصوف إلى شاعرٍ شابٍ ماديٍّ مُلحد حتى نخاع نخاع عظامه ؟ تصوف حسين حبش تصوف جديد صممه وأختصَّ نفسه به . إنه تصوف مادي يلتحمُ فيه الشاعر ويذوب ثم ينحلُّ في مادة الطبيعة والمرأةُ هي رمزُ وعنوان وسرُّ جمالها . تصوفه يقظ لا يغمض له جفن ولا تخدره هلوسات الدراويش وما يتناولون من مخدِّرات . هدفُهُ واضحٌ والطريقُ إليه مُعبّدٌ مُضاء . إنه صوفيٌّ صارمٌ بل وشديد الصرامة مع نفسه وشعره وأسلوب تصوّفهِ . لنقرأ إشارات من بعض صوفية حسين حبش / على الصفحتين 38 و 39 :
(( يرومُ الوصالَ مع مروءةِ العدمْ ، ويصطلي بالهباء الأعظمْ
ممتطياً الخيولَ المطهّمة للمستحيلْ
مُجدِّفاً بالطبعِ والتطبعِ وآلهة السقمِ
شريرٌ لا ينقادُ إلى المرابضِ
التي ترفلُ في نعيمِ السكونِ والقبولِ والتوبةِ المقرورة .
يجلُّ بهاءَ المُعضلةِ وثناءها المُحرقْ
غائراً في أحشاءِ النسيانِ
شغوفاً بالتغلغلِ والغياب
حيثُ يجتمعُ الجميعُ
يغيبُ
وحين يغيبُ
يمتلئ )).
هل الحسين بن منصور الحلاج غائبٌ عن هذا الكلام بكافة تفاصيله ؟ إنه حاضرٌ كل الحضور إنما نحن الغائبون والمغيبون ! فمن كلام الحلاج وبعض المتصوفة أقتبس الأقوال التالية للكشف عن أوجه الشبه ـ وإنْ كانت خفيفةً ـ بين كلام حسين حبش في باب التصوف وكلام متصوفة المسلمين رغم الفارق الكبير في أساليب وطرق تصوف الفئتين :
(( لكنهمْ حين غابوا
عن وجدهِ غيّبوهُ
...
يا ويحَ روحيَ من روحي فواأسفي
عليَّ مني فإني أصلُ بلوائي
...
الويلُ لمن يغيبُ بعد الحضورِ ويُهجرُ بعد الوصلِ )).
الغياب والحضور كثير في كلام الفلاسفة والشعراء حتى أنَّ إبنَ زيدون خاطب ولاّدة بنت المستكفي أبدعَ خطاب موظفّاً أطروحة الغياب والحضور . قال إبن زيدون :
إنْ غبتَ عني فما إنسٌ يؤانسني
وإنْ حضرتَ فكلُّ الناسِ قد حضرا

لوحات حسين حبش

اللوحة الأولى / الصفحة 26
(( لا يترجّلُ مكسوراً في القفارِ
ولا يتهاوى في النعمة
متيناً لا يرتهكُ من التعب
ولا يتقوّسُ إلا أمامَ زهورِ الشفق
مصقولاً بعناية الفراشاتِ وموصولاً بخيط الغليانِ
مع تلك النهايات المفقودة ...
خصباً
غَدِقاً
شبيهاً بدوارِ الحُبِّ
فريداً
عاشقاً
شبيهاً بأذى الحبيب )).
ماذا نفهم من هذا الكلام وأين نجد قائله فيه ؟ نجدُ إنساناً كثير الإعتداد والثقة بنفسه ، لا تتعبه مواكبة قضايا شعبه ومتابعتها لحظةً لحظةً . رجل مناضل لا ينكسر في الظروف الصعبة : لا يترجّلُ مكسوراً في القفار ! [[ ومِمَ تخافُ صلالُ الفلا / للجواهري ]] . لا تُبطره النعمة ولا تلهيه عن قضيته الكبرى . قلت قبلاً إنه شاعرٌ ذو كبرياء لكنَّ كبرياءَه كبرياءُ المتواضعين تواضعَ الأبطال المناضلين المنتصرين . لا يتقوّسُ إلاّ أمام زهورِ الشفق ! إنه ينحني ولكن للجمال الطبيعي ، للزهور ، التي يقدمها الرجالُ هدايا لمن يحبّون . تعبير رائع يختزن دلالات كثيرة منوّعة . ثم أية زهور ينحني لها هذا الشاعر ؟ زهور مستحيلة ! زهور الشَفَق وكيف السبيلُ إليها ؟ ثم إنه وهو يغلي لا ينسى رقة طبعه ولا يغضُّ بصره عما حوله من جمال وحيوات رقيقة يراها جزءاً منه أصيلاً مندمجاً في طبيعته : إنها فراشات الحقول ما أجمل ألوانها وما فيها من خفة في تنقلاتها بين الزهور والحقول . تسلسلَ الشاعرُ متدرجاً نازلاً من معراج كبريائه وغليان الثورة في أعراقه ليمرَّ على بعض ظواهر الطبيعة الجميلة من زهور وفراشات حتى يأخذنا إلى النهاية المنطقية : نكتشفه إنساناً {{ خصباً فريداً عاشقاً شبيهاً بأذى الحب }} . إنه ليس عاشقاً رومانسياً مثل دون جوان أو كازانوفا لكنه من طينة وطبع غارسيا لوركا وناظم حكمت ، من خامة الشعراء المناضلين العشّاق / العشّاق المناضلين لا يفصلون النضالَ عن الحب . يُخيّلُ لي أنَّ حسين حبش لا يعاني من فراغ روحي سببه ماديته الصرفة . فراغهُ مملوءٌ به ، بمادته وبجسده الذي لا إيمانَ له إلاّ به نموذجاً أعلى لمادة الكون . إنه إنسانٌ معجونٌ بالبرق ومُدافٌ بعالم لا وجودَ له إلا في أمانيه وتخيلاته .

اللوحة الثانية / الصفحة 29 / لوحةُ العطور وحديقة الشذى
أسميتها هذه اللوحة بلوحة العطور وحديقة الشذى لأني وجدتها عابقةً بروائح أفضل وأغلى العطور . أقرأ ما في هذه اللوحة فأتخيل نفسي في دكانة لبيع عطور الهند وفارس ومسقط فأحسُّ بخدر حقيقي كذاك الذي يعانيه المتصوّفة بعد شمّهم لكميات كبيرة من دخان البخور المحروق مخلوطاً بالمرِّ والياس والريحان والعنبر . نقرأ هذا المقطع لنتنعمَ بأجوائه ونتنشّقَ أطايب ما فيه من أريج وأشذاء :
(( يمورُ بالشذى ،
ويفلتُ هوى العطورِ إلى الهشاشة
ماحياً حياء الطبيعة
ومُطلقاً جذوةَ الكرم الشفيفة في مفاصلها
مرفرفاً بالحدائق المخاتلة بالزنابق
ومعانيها السارحة في رفّة الروائح المجهولة
وشهوة الدغدغة )) .
لا ريبَ أنَّ حاصلَ جمع هذا الكم من ألفاظ العطور ومشتقاتها وما يُشيرُ إليها يُشكّلُ جنةً من الجنات العابقة بأريج الورود الفاغم التي تجعلُ مرتادها يحلّقُ في سماوات عالية من البهجة والمسرة . هذا هو تحصيلُ حاصل تراكم ألفاظٍ من قبيل : الشذى ... العطور ... الحدائق ... الزنابق ... الروائح . لقد وجدت الشاعر منذ ديوانه الأول ( غَرِقٌ في الورد 2002 ) خبيراً كبيراً في تصميم لوحات شعرية كثيرة الخصوصية وقد أطلقتُ حينذاك على إحدى قصائد ذاك الديوان ( القصيدة النباتية ) لكثرة ما جمع الشاعرُ فيها من أسماءِ نباتات مختلفة .

اللوحة الثالثة / الصفحة 35
كما رأيناه سابقاً وكما سنراهُ في هذه اللوحة ، إنه شاعرٌ مستقّلٌ في طبعه وفي فنه الشعري . مستقلٌ بنفسه يحترم إستقلالية قارئه فلا يفرضُ نفسه ومشكلاته السياسية والدنيوية والوجودية عليه . إنه ـ كطفل كبير في وعيه ـ يرسم لوحاتٍ سوريالية مُتقنة في جمالها وتلوينها مَهيبةً في إيحاءاتها بليغةً في تاثيرها الساحر على عين وفكر القارئ . هل اللغة العربيةُ شكّلت هذا الشاعر وصاغته بهذا الشكل والكيفية والمحتوى ، أمْ أنه هو الذي خلقَ نفسه خلقاً في رحم لغةٍ عربيةٍ خاصة به وكوّنَ نفسه فيها تكويناً يُسرُّ الناظرين حتى يستحيل على قارئه فصلَ لغته عنه أو فصله هو عنها . هيا إذاً مع اللوحة الثالثة :
(( يتخذُ من الشوقِ صديقاً لمنكبيهِ
واضعاً على جبهتهِ دهشةَ الطفولةِ والبراءة
مُثبِّتاً عزائمه على جوهر النجومِ ولمعانها العميق
يهتمُّ بالصُدفِ والجُنحِ الصغيرةِ التي ترتكبها زهور الأحلام
قائلاً : أيها الليلكُ المُعطّرُ طابت أهواؤكَ
أهواءُ الصدورِ الرامقةِ إلى العُلى ،
على عُزلةٍ وانفرادِ )) .
قلت قبل قليل إنَّ لكل مقطع شعري أجواؤه الخاصة به ومفرداته الخاصة التي يُعشِّقها بانسجامِ مُحكمٍ وانتظام محسوب بدقة . إنه شاعرٌ قادرٌ على التحكم في طبيعة أجواء مقاطعه الشعرية بحيثُ تأتي كما يشاءُ باعثةً الخدرَ والإرتخاء والهدوء في عصب القارئ أو مُثيرةً فيه التوتر والترقب . إنه في هذا الشأن ممثلٌ بارعٌ يقدّمُ عروضه السحرية على مسرح مكشوف في الهواء الطلق يتحرك مُعبّراً عن عميق أفكاره وبواطن أحاسيسه مستخدماً كافةَ وسائل التعبير وسبلها ووسائلها لكنه ، مع ذلك ، يبدو ويا للعجب كالصامت كأنه ما قال ولا يُريدُ أنْ يقولَ شيئاً ذا بال يهتمُّ قرّاؤهُ به . إنه يقدِّسُ حرية وإستقلال هؤلاء فيترك لهم حرية تفسير حركاته المسرحية وكلامه دونما أي تدخل من جانبه .
ماذا أسمّي هذه اللوحة ؟ إذا جمعنا جزئياتها تكتملُ صورتها واضحةً أمامَ عياننا :
الشوق ... الصديق ... الدهشة ... الطفولة ... البراءة ... الجوهر ... اللمعان ... زهور الأحلام ... الليلك ... المعطّر ... الأهواء ... الصدور ... العُلى ... العزلة ... الإنفراد .
يمكن تحديد ملامح وصورة هذه اللوحة بثلاثة عناصر هي :
1ـ براءة الطفولة والشوق للصديق
2ـ الجوهر والزهور والليلك والعطور
3ـ العُلى والعزلة والإنفراد

أي أنَّ الشاعرَ طفلٌ بريءٌ يعشقُ الزهورَ والعطورَ ويميل للتفرد والعزلة . وإنه حقاً كذلك كما يُخيّلُ لي .
 

 

أيلول 2009

 

 

free web counter