| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

السبت 6/12/ 2008



أماني دون كيخوت لسنة جديدة

عدنان الظاهر 

آخ ، آخ لو كنتُ مثل المرحوم دون كيخوت ! قال صاحبي . لماذا ، سألته ؟ قال لأحقق الكثير من الأمنيات التي كانت ولم تزلْ تداعبُ خيالي وتتلمس أقصى حدود حاجات غروري وأحلام طفولتي التي لم أتمتع إلا بالقليل منها .. ولماذا دون كيخوت وليس غيره من البشر المعروفين ؟ قال لأنه بطل معارك طواحين الهواء الأكثر شهرةً في التأريخ البشري . مقاتل مسكين لا يملك إلا سيفاً من الخشب ولا يمتطي من دواب الأرض إلا حيواناً أكثر منه بساطةً ومسكنةً ... إنه حصانٌ من أردأ ما خلق الله من خيول ... إنه كديش ! هل سمعتَ بهذا الإسم ؟ لا ، لم أتشرف بعدُ بمعرفة هذا الحيوان لكني اعرف البغال والحمير والجحوش وباقي الحيوانات المستضعفة في الأرض . وكيف يقاتل هذا الكخّوت بسيف من خشبٍ ممتطياً ظهر كديش هزيل أجرب من فرط القهر والجوع والحرمان ؟ المهم إنه يُقاتل ، يقاتل رموزاً ويقاتلُ لمجرد إشهار فلسفة قتال الأعداء الأقوياء فإنْ لم يجدهمْ أو لا حولَ له بمقاتلتهم إصطنع له أعداءً وهميين في وسعه قتالهم في البر وليس بحراً ولا جوّاً . ومن قاتل من الأعداء المتخيلين ؟ قاتل طاحونة هواء عملاقة وحين لم يستطعْ قهرها أو النيل منها إنتصرت هي عليه فجرفته زعانفها الكبيرة معها في دورانها في الهواء أي جعلت منه أُضحوكةً ومهزلة تتحدث بها الأجيالُ والقرون.

مع ذلك ، يعتبر نفسه هو المنتصر الذي إستطاع بعد جولة نزال قصيرة من تسلق زعانف الطاحونة والإستمتاع بلعبة الدوران في الهواء كما يفعل الأطفال في مراجيح الأعياد المعروفة . حوّلَ هذا الرجل غير العادي جدية مسعاه القتالي إلى نكتة بارعة يبكي منها مَن يبكي ويضحك عليها مَن يضحك ، أي إنه أفلحَ في تحويل التراجيديا المبكية إلى كوميديا هزلية مُضحكة ... بلغة أهل المسرح . قاتل بسيف خشبي لا يقتلُ أحداً ولا يُسيلُ دَماً . سألته وعلام إذاً كل هذا القتال والمبارزة بالخشب ؟ السليقة الأبية السوية ، الطبع البشري السليم ، النزوع للحرية وكرامة وإباء الإنسان الشريف الذي لا يقبلُ ضيماً ولا دُلاً ولا هواناً . أعطى الناسَ مثالاً يُحتذى يهيبُ بهم أن لا مهادنة مع الظلم والظالم ! ايها الناس دافعوا عن كرامتكم ونقائكم وشرف وجودكم فقد ولدتكم أمهاتكم أحراراً . ثوروا وحرروا أنفسكم . قاوموا حتى لو لم تستيطعوا القتال . قاتلوا بالرمز ، إرفعوا أصواتكم محتجين . أعطوا المثل والقدوة الحسنة لأجيالكم القادمة . عارٌ عليكم إنْ رضيتم الذل وقبلتم الهوان . أهينوا وأذلوا قاهريكم ومستعبديكم ومحتليكم ومكبليكم بالإتفاقيات. قاتلوا ولو بسيفٍ من خشب ممتطين صهوات خيول رديئة ليس في عروقها دماءٌ ارستقراطية زرق. لا حياةَ مع الذل ولا تستقيمُ الحياةُ مع الذل والإستعباد . أهينوا لئامكم وأزيلوا صعار خدودهم . أديموا الصراعَ معهم ولا تدعوهم ينامونَ رَغَدا . إنتبهتُ ، كنتُ كمن غرقَ في حُلم جديٍّ عميق . ماذا قال صاحبي في محاضرته الطويلة وقد بدأنا هازلين ؟ مسحتُ الشريط المسجّل في ذاكرتي لأغيّر الجو العام الذي صار قاتماً ثقيلاً شديدَ الوطأة خاصةً ونحنُ لم نفقْ بعدُ من ضربة فجيعة صدمة التوقيع على إتفاقية سحب القوات كأنَّ المحتل المحتال دخل العراق بإتفاقية ولا يغادره إلا بإتفاقية . سألتُ صاحبي وقد تحوَّل بقدرة قادر إلى دون كيخوت بشخصه وعَيانه ، يا سيد كيخوت : وماذا لديك من أمنيات باقية تتمناها وتودُ أنْ تحققها عملياً ؟ قال إنه سؤال عتيق يا صديقي الجديد . كيف ؟ لأني ومنذ طفولتي ونعومة أظفاري ، كما تقولون ، كنتُ أودُ لو أتسلقَ كتفي السيدة الفرنسية التي تمثل الحرية رافعةً الشمس بذراعها اليمنى عالياً في البحر قبّالةَ مدينة نيويورك الأمريكية ، أتسلقها وأقرأ بياناً مكتوباً بكافة لغات العالم أفضح فيه المتجبرين في الأرض ومستغلي الفقراء والمستضعفين وأطالب بنزع كافة أنواع الأسلحة وتدميرها عن آخرها . وقبلَ نزولي من صرحي أصرخُ عالياً مطالباً بإلغاء مجلس الأمن والجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة ثم أصرخ أعلى قائلاً { يسقط كوفي عنان } !! . غرق دون كيخوت في بحر من العرق وكان بادي التعب والإعياء . أخرج من جيب سرواله الطويل العريض الممزق زجاجةً فيها ماء قُراح وأخرج من الجيب الثاني كسرة خبز جاف . جلس على قاعدة تمثال الحرية هذا ليسدَّ رمقه ويأخذَ قسطاً من الراحة ويهيء نفسه للرد على المزيد من اسئلتي .. ما هي أمانيك الأخًرُ يا عم كيخوت ؟ أنْ تأخذني طائرة هليكوبتر إلى سطح مبنى هيئة الأمم المتحدة لأتبوَّلَ عليه ثم أهبط بالباراشوت على مهل . ثمَّ ؟ أن أحملَ في جيب سترة جديدة نظيفة جواز سفر دبلوماسي وأقود سيارة مصفّحةً من النوع الذي أهدته أمريكا لأعضاء مجلس النواب المحترمين مقابل أنْ يصوِّتوا للإتفاقية بالقول " نعم ، أنتِ وكيلي " . لكنْ يا عم كيخوت هذا قول شائعٌ في العراق تقوله العروس ساعةَ عقد مهرها أو مِلكتها ( ملجتها ) لرجل الدين الذي يعقد مهرها وكيلاً عنها من باب التخويل الشرعي : قولي نعم أنتَ وكيلي ، ثم يتوجه بنفس السؤال للعريس . قال باسماً بسخرية شديدة المرارة : أفلم يكن هذا بالضبط ما حصل في جلسة مجلس النوّاب الأخيرة التي خُصصت لأخذ الموافقات والختم بالحوافر ؟ زفّت الحكومةُ ونوّابها العراقَ لأمريكا عروساً كاليتيمة أوعبدةً في سوق النخاسة ، هذا بالضبط ما حصل ، باعوا ثم قبضوا ثمن الصفقة . أحزنتني يا بطلَ طواحين الهواء الهولنداوية وكرود هيتَ وعانة وحديثة . أحزنتني يا هذا جداً جداً حتى تكاثفت أمطارُ السماوات جميعاً بين جفنيَّ ولا من مبزلٍ أو مرزابٍ أو برزخ .. قال دعها تجف هناك فلستَ بحاجةٍ لمبزلٍ أو برزخ . قلتُ لكنَّ حبسها هناك يُزيد من مخاطرها ويسبب الكثير من الألم . لم يعلّق دون كيخوت بل أطرق حزيناً وهو يردد بصوتٍ جدَّ خفيض :

              واحتمالُ الأذى ورؤيةُ جاني                   هِ غذاءٌ تذوى بهِ الأجسامُ

ساقني عميقاً في موجة حزنه فقرأتُ :

              ذلَ مَن يغبِطُ الذليلَ بعيشٍ                     ربَّ عيشٍ أخفُ منهُ الحِمامُ


01.12.2008

free web counter