| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

 

الخميس 4 /10/ 2007

 

 


المتنبي متوعك الصحة


عدنان الظاهر

- 7 -
كنتُ الساعةَ الواحدةَ بعد ظهر نهار الأثنين أنتظر المتنبي في المكان الذي سبق وأن إتفقنا عليه. بقيتُ مُنتظِرا قرابةَ الربع ساعة. هذا أمرٌ غير مألوف من صاحبي الذي عرفته دقيقا يحترم مواعيده بشكل يفوق ما تعارفنا عليه. قلتُ سأنتظرُ خمسَ دقائق أخرى لعلَّ أمرا طارئا، وما أكثرها في هذه الأيام، عاقه عن المجيء. مرّت الدقائق الخمس هى الأخرى سُدى. ما كان في بيت الرجل جهاز تلفون فقررتُ الذهاب إليه لعلَّ أمرا ما ذا خطر قد طرأ على الرجل الغريب والوحيد والذي لا يتكلمُ إلاّ العربية. خرج لإستقبالي بملابس نومه شاحبَ الوجه ضعيف القوى. أشار لي بالدخول دون أنْ ينبسَ ببنت شَفَة. ما الذي ألمَّ بك يا أبا مُحسَّد، خيرا إن شاء الله ؟؟؟ قال وعكة بسيطة. ثُمَّ إني لم أنمْ الليلة الفائتة إلا لُماما. هيّا إذنْ للطبيب. قال كلاّ. لا أُحبُ الأطباء. ثم شرعَ يقرأ أبياتا من إحدى قصائده المشهورة التي قالها وقد أصابته الحُمّى يوم أن كان في مصر :

أَقمتُ بأرضِ مصرَ فلا ورائي
تَخبُّ بيَ الرِكابُ ولا أمامي

ومَلّني َ الفِراشُ وكان جنبي
يَملُّ لقاءه في كلِّ عامِ

عليلُ الجسمِ مُمتنعُ القيامِ
شديدُ السُكرِ من غيرِ المُدامِ

أَبنتَ الدهرِ عندي كلُّ بنتٍ
فكيف وصلتِ أنتِ من الزحامِ

جرَحتِ مُجرَّحا لم يبقَ فيهِ
مكانٌ للسيوفِ ولا السهامِ

يقولُ لي الطبيبُ أكلتَ شيئا
وداؤكَ في شرابكَ والطعامِ

وما في طبّهِ أني جوادٌ
أضرَّ بجسمهِ طولُ الجمامِ

فأُمسِكَ لا يُطالُ له فيرعى
ولا هو في العليقِ أو اللجامِ

قلتُ بعد أطراقة عميقة لا بأس عليك أبا الطيب. هل أكلتَ أو شربتَ شيئا هذا الصباح ؟ قال كلا. لقد أيقظني رنين جرس باب شقتي وكنتُ لتوّي قد خلدتُ إلى الراحة بعد ليلة عسيرة. هل أُغادرك على أن أرجع إليك بعد ساعات ؟ قال كلاّ. إبقَ معي وستتحسنُ الحال معك وتصفو الأجواء. قلتُ حَسَنا سأبقى معك. سأُجهزُ لك الشاي. هل لديك ما تأكلُ فطورا ؟ قال لديَّ كِسرةُ خبز وبقايا جُبنة. قلتُ سأجلبُ طعاما يكفيك اليومَ وغدا. قال ليس بي حاجة لأي طعام. معدتي مغلوقة. إشترِ لي علبة سيجائر " كَنْتْ "
KENT والله يُجازيك خيرا على خير، نِعمَ الصديق. أتيتُ له بعلبة سيجائر وبعض الطعام دسسته دون أنْ يدري في ثلاجته الصغيرة. جهزتُ الشاي الثقيل كما أرادَ. وحين شمَّ رائحة الهيل في الشاي الثقيل طابتْ نفسه فرجاني أنْ أجلبَ له كِسرةَ الخبز اليابسة وقطعة الجبن. جلبتُ له ما قد إشتريتُ من خبز جديد وقشطة فرنسية مضاعفة الدهن مع جبنة ماعز قبرصية. لم يُعلّقْ. لقد فهم الأمر. لم يدعْ له جوعه الشديد فُرصة للتعليق أو السؤال فهجم فورا على الطعام يأكل بشهوة عارمة فارقها مُذ أن فارق العراق. كنتُ سعيدا وأنا أراه يأكل برغبة قوية للأكل. وكنتُ كلما أنهى قدح شايه ملأتُ له قدحا آخر. وكان هو الآخر مسرورا بما أحطته به من رعاية وإهتمام. كان يُقدّرُ صامتا - شأن الرجال الرجال - هذا الفضل الذي لم يكلفني شيئا يُذكر. إنه واجبي تجاه هذا الرجل النادر والرائع بين الرجال. الغريب والمُشرّد. عاملته كما كنتُ أُعاملُ أطفالي في صغرهم. أو كما كانت المرحومة والدتي تعاملني وتُدللني حين أمرض فتغدقُ عليَّ بالنقود والحلوى. بعد أن شبع الشاعر إعتدلَ في جلسته مادّا ذراعيه على مائدة الطعام وتجشأَ مرتين قائلا ( عوافي. الحمد لله الذي لا يُحمدُ على مكروه سواه ). قام نشطا قويا ليُجهزَّ لكلينا المزيد من الشاي. وربما ليتناول مع الشاي المزيد من الطعام. كان واضحا أنَّ الرجلَ ما زال توّاقا للمزيد من الأكل. أتى بعد قليل من الوقت بالشاي الجديد مُنتشيا وهو يغني أُغنية عراقية قديمة تقول :

خَدري الشاي خَدري
عيوني إلمن أخدرهْ

راح إليشرب الشاي
سِكَنْ ديرةْ البصرةْ

قلتُ له متسائلا ولماذا ديرة البصرة ؟ قال لأن الشاي الهندي الممتاز كان يأتينا من الهند عن طريق البصرة. وكذلك ليمون الشاي الحامض الذي نسميه " نومي بصرة ". قلتُ له قد واللهِ ذكرتني بأُغنية شاعت خلال سني الحرب العالمية الثانية إذ عزَّ الشاي والسُكّر والأقمشة والكثير من متطلبات الحياة السوية. قال هات، ما قالت الأغنية. أنشدته :

يُمّهَ إشتري لي شاي من شاي الهنودْ
إيسَمِّن الذرعان ويحَمْر الخدودْ

ضحك الرجلُ طويلا ثم قال أَضفْ إلى معلوماتك أغنية أُخرى شاعت وسط العراق أيام الحرب إياها تقول (( آ يالشاي آ يالشاي هو دوشِكي وغطايْ )). ضحكنا معا وقد تذكرنا العراق أيام الحرب وما يعاني الناس عادة من الحروب.
دخنَ صاحبي عميقا وإرتشفَ الكثير من أقداح الشاي المُعَطّر هيلا ثم قال : أفلمْ تسمعْ بما حلَّ بالبصرة إياها من خراب ودمار منذ عام 1980 وحتى عام 1991 ؟؟ قلتُ بلى، قد سمعت كما سمع غيري. قال من يسمع ليس كمن يرى. كنتُ وقتها شاهد عيان. كنتُ في مدينة السماوة قريبا من الكوفة مسقط رأسي ورأيتُ العجب العجاب مزدوجا بل ومُركّبا. وحشية ودمار طائرات وصواريخ قوات التحالف على العراق زمن الحرب. وبعد أن إنسحب العراق من الكويت مهزوما ووقّع إتفاقية صفوان عانينا من هول صواريخ ومروحيات الحكومة العراقية المهزومة زمن إنتفاضة آذار 1991كأنما لتنتقمَ لشرفها المثلوم لا من الأعداء الذين هزموها لكن من الشعب الأعزل. هذا هو شأن الأنذال الجبناء. لقد عاملنا رأسُ النظام العراقي كما يُعاملُ شارون السفّاح الشعب الفلسطيني تماما. كلاهما فاشي عنصري مُحتل. إقترحتُ على المتنبي أن يأخذ حمّاما ساخنا وأن يحلق ذقنه ويتعطّر وأن يرتدي بدلة ( الطلعة ) التي لا يملك سواها. قال حسنا، أنا الأن في كامل صحتي وتمام عافيتي. شبعتُ خبزا وجبنة قبرصية. سأستحمُّ كما أمرتَ لنخرجَ معا ولكنْ إلى أين ؟ قلتُ إستحمْ وإستعدْ أولا ثم ستعرفُ إلى أين سنمضي. قال فَرِحا " صارْ ". أسرع إلى الحمّامِ يُغني ويدندن وبقيتُ أنا أُفكّر في أمر البيت الشعري الذي ما إنفكَّ يُعذبني ليلَ نهار. أعددتُ نفسي للمناقشة مُستحضرا ما قال محمد بن الحسن بن المُظفّر الحاتمي عنه. كررتُ البيت مع نفسي مرارا (( وإذا كانتْ النفوسُ كِبارا // تَعِبتْ في مُرادها الأجسامُ )). تذكرتُ أنَّ البيتَ جزء من قصيدة قالها المتنبي في شهر جمادي الأولى سنة سبع وثلاثين وثلاث مائة للهجرة ( 948 ميلادية ) مادحا سيف الدولة الحمداني لمناسبة إنتصاره على الروم وظفره بحُصْن برزويهْ ثم قفوله إلى إنطاكية ثم عزمه على مغادرتها.
أكمل المتنبي حمّامه فجاءني نشطا معافى حليق الوجه والشارب. تتضوع منه رائحة عطر ما بعد الحلاقة
AFTER SHAVE . قبّلني من رأسي ثم قال ( وما أكثرَ الإخوان حين تعدّهم ) فسارعتُ إلى تكملة هذا البيت الشعري قائلا ( ولكنهمْ في النائباتِ قليلُ ) فأردفَ قائلا ( تُعيّرُنا أنّا قليلٌ عديدنا ) فأكملتُ ( فقلتُ لها إنَّ الرجالَ قليلُ ). إصطنعَ الجدَّ صاحبي فقال هيا، هيا نرَ العالمَ ونشُمُّ الهواء النقي. كادت هذه الغرفة - الشقّة - القبر أنْ تخنق أنفاسي وتقتلني. هيا أسرعْ علّنا أن نرى وجهَ الله.
أخذته لمقهى غير بعيد عن سكنه. أخذ الرجل يعتاد المقاهي، بل وأستطيع القولَ إنه أصبح مُغرما بإرتيادها إلى حد الإدمان. لا يلومه أحد، فأجواء مقاهي الغرب مُغرية حقّا. إخترنا ركنا قصيا من أركان المقهى ثم طلبنا القهوة السوداء والماء المعدني. سألتُ صاحبي إنْ كان مستعدا للنقاش. قال نعم، أنا مُستعد ولكن شرط أنْ لا يكون النقاش جادّا وثقيلا على المعدة التي أتخمتُها بأجبان ماعيز إخوتنا القبارصة الذين آوونا وأكرموا وِفادتنا يوم أنْ تشردنا في شتى أصقاع الدنيا وخاصة بعد حصار بيروت عام 1982. قلتُ لا أستطيعُ نسيان أيام تلك المحنة. ما زالت أحداث ما جرى في صبرا وشاتيلا حية طرية ماثلة أمام عيني. بعد عشر سنوات أعاد الجزّارون مذبحة صبرا وشاتيلا ولكن هذه المرة في مخيم جنين في قلب فلسطين. قال ما هي مشكلتك مع (( وإذا كانت النفوسُ كِبارا ... )) ؟؟ قلتُ مشكلتي يا أبا الطيب مع هذا البيت مشكلة مُركّبة وليست بسيطة. إنها مرة معك والمرة الأخرى مع صديقك اللدود وناقد شعرك محمد بن الحسن بن المُظفّر الحاتمي الذي كلّفه الوزير المُهلّبي أنْ يستفزّك وأن يهتك حريمك ويعزق أديمك وأن يُحوِجك إلى مفارقة العراق. قال وبمن ستبدأ نقاشك ؟ قلتُ بمن أحببتَ أنتَ. قال إذنْ إبدأ معي فإني أجدُ أمامك نفسي أهونَ الشرّين وأبعد الخطرين، فالوزير المُهلبي ما زال يحكم بغداد ويأمر الآلاف من أمثال الحاتمي أن يستفزوا ويهينوا ويطردوا من العراق كلَ من يرفع رأسه ويتاجسر على مخالفة مُعزّ الدولة البويهي أو وزيره المُهلّبي. طيّب يا أبا الطيب، ما دام هذا خيارك فإني لأودُّ أن أقولَ لك إنك قد ناقضتَ نفسك في هذا البيت مع بيت آخر قلته في قصيدة أخرى. قال أخبرني عن البيت الآخر. قلتُ إنما قصدتُ بيت الشعر الآتي :

ومُرادُ النفوسِ أصغرُ من أنْ
تتعادى فيه وأنْ تتفانى

إنتفض الشاعر قائلا وأين التناقضُ في هذين البيتين ؟؟ قلتُ أحقّا أبا الطيب لا تراه ؟ لقد جعلتَ النفوسَ في هذا البيت صغيرة بما تريد. وصَغار النفوس بصِغر مُرادها. أما في البيت الآخر فقد تكلمتَ عن كبرياء النفوس وأعظمتَ من شأنها إذ كرّمتها فوضعتها فوق مقام الأجسام. (( وإذا كانت النفوسُ كِبارا // تَعِبتْ في مرادها الأجسامُ )). أي أنَّ الأجسام خادمة مُطيعة لنفوس البشر. قال تفسيرك هذا صحيح إذا إفترضنا أنك قد أَحَلتَ عائدية الضمير في مُراد(ها) إلى النفوس. أما إذا أَحَلتَ عائدية هذا الضمير إلى الأجسام ( وكان هذا عين مرامي ) فستنقلبُ الآية وتكون النفوسُ هي من يخدم الجسوم وليس العكس. إذا خالفت النفوسُ مرامَ وإرادةَ الجسوم أتعبتها وحالت بينها وبين ما تروم. أي أوعرتْ النفوسُ السُبلَ أمام الأجسام وجعلتْ أهدافها مستحيلة أو في حكم المستحيلة. الجسد، أضاف المتنبي، في فلسفتي أولا من ثم تأتي النفس الأمّارةُ بالسوء. أَفَلمْ يقلْ الحلاّجُ (( عليك بنفسك، إنْ لم تشغلها شغلتك )). كلام رائع. وقبل الحلاّج قال سقراط (( إعرفْ نفسك )). ها ؟ أفحمتك يا رجل... قال المتنبي مُنتشيا بنصرٍ غَلَبني فيه أو هكذا خُيّلَ له. لقد ضَؤلَ قَدْري وصَغُر شأني فشعرتُ بالهزيمة أمام هذا الرجل العملاق الذي إذا ما إستفزّه أو تحداه أحدٌ ينقلب وحشا كاسرا لا يرحم ولا يُجامل ولا يلين أبدا. إنقلبَ وجهه في لحظة واحدة فقط أمامي إلى رأس غضنفر من حجر البازلتْ الصلد كأسد بابل أو ثور آشور المُجنّح. قلتُ له قد سلّمتُ لك أمري وإني لأعترفُ بعجزي وخسارتي هذه الجولة أمامك. لكنْ لا تنسَ... سيكونُ لي معك شأن وستكون لي معك جولات وصولات ثم جولات وصولات. قال لا تنسَ أني أنا القائل (( أيَّ محلٍ أرتقي // أيَّ عظيمٍ أتقّي... )) . لم أدعْ صاحبي يسترسل في قول الباقي من أبيات هذه القصيدة فسارعتُ إلى القول كفى يا أبا الطيب. بالله عليك لا تُكملْ باقي الأبيات. ضحِكَ المتنبي ضحكة المنتصر الغالب والواثق من نفسه ومن باقي أُموره. جمع أصابع كفه اليمنى ووضعها على فمه ثم سعلَ سعلتين فإحمرّتْ وجنتاه وإتقدت عيناه. أشعلَ سيجارة أُخرى وكانت ما زالت بقايا السابقة مُتقدّة في صحن الرماد. قلتُ لصاحبي وقد طلبنا قهوة ثانية وزجاجة ماء معدني أخرى سأغلبك يا أبا الطيب في الثانية. قال هيهات !! هات ما عندك... ثانية... ثالثة... أو رابعة، هات. قلتُ له إنَّ صديقك اللدود الحاتمي، صاحب المُهلّبي الوزير كان قد أشار لامزا غامزا بخبث في معرض الإعجاب والإطراء أنك قد سرقتَ معنى البيت إياه (( وإذا كانت النفوسُ كِبارا...)) من إحدى مقولات الفيلسوف الإغريقي أرسطوطاليس التي يقول نصها :

(( إذا كانت الشهوةُ فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغها )).

قال مُمتعِظا وما تقولُ أنتَ في دعوى الحاتمي ؟ قلتُ لا أرى أي شبه أو نسب بين مقولة أرسطو ومعنى بيتك الشعري موضوع النقاش. قال مُنبسطا قليلا أحسنتَ، وخاصة إذا ما أخذنا تفسيرك الثاني لهذا البيت بعين الإعتبار. أعني أنَّ النفس البشرية هي من يخدم الجسد أو الجسم. ثمَّ إنَّ الفرق جدَّ شاسعٍ بين معنى بيتي ومنطوق مقولة أرسطو. أرسطو يتكلم عن شهوة الجسم وعن قدرة هذا الجسم على بلوغ هذه الشهوة. أما بيت الشعر فإنه يتكلم لا عن شهوة الجسم لكنْ عن إرادة ومرام النفس البشرية، أو إذا شئتَ عن مُراد الجسم. وليست الشهوات هي كل مُراد الجسوم كما تعلم. الشهوة محدودة أما مُرادُ النفوس والجسوم فبلا حدود.
ضحكتُ مُتحفِظا قليلا فتساءل المتنبي عن سبب ضَحِكي. قلتُ قد ذكّرني قولك بمنظمات عالمية معروفة منها " أطباء بلا حدود " و " صحافيون بلا حدود " فعلّقَ على الفور وبسخرية لاذعة و " لاجئون بلا حدود ". قلتُ إنَّ اللاجئين اليوم هم عناصر وظواهر عابرة للقارات. وإنهم لا يعرفون حدودا ولا يعترفون بوجودها أصلا. قال بل غجرٌ دوليون يتنقلون ويعبرون حدود الدول تهريبا دون مال يحملون ودون جوازات سفر أو بجوازات سفَرٍ مُزوّرة في أحسن الأحوال. قلتُ وأحيانا لا يحتاجون إلى وسائط للسَفَر، يخترقون الحدود الدولية ليلا مشيا على الأقدام. تحرسهم الثعالب والذئاب وتطاردهم أحيانا كلاب الشرطة المُدرّبة على الرؤية في ظلام الليل. بادر الشاعر فورا إلى القول :

وكمْ لظلامِ الليلِ عندكَ من يدٍ
تُخبّرُ أنَّ المانويةَ تكذبُ

تثاءبَ المتنبي ثم سألَ كم الساعة الآن ؟ إنها الخامسة يا أبا الطيّب. قال طيّبْ، أما من رغبة في التمشي قبل الأوبة إلى بيوتنا ؟ ونحن نغادر المقهى قلتُ " صار " وعلى عيني التي لا يأكلها إلاّ ذئبٌ وإبن ذئب. قال تقصد عيون الذئاب التي تطارد ليلا رفاقنا اللاحئين ؟ الذئاب لا تطارد لاجئينا يا أبا الطيب، قلتُ، إنما تطاردهم كلابُ الزمهرير. كلاب البوليس الدولي... الإنتربول. قال لم أسمع بهذا الإسم قبلا. قلتُ ستعرفه يوما... سيطاردك إينما كنتَ. تضايق المتنبي من هذا النقاش الذي أخذ على حين غرة منحى جديا فيه الكثير من الحزن والأسى فتهرّبَ من إستطراداته السوداوية قائلا وأين سنتمشى لتمضية هذه العصرية الرائعة ؟ سأريكَ، أجبتُ، مُتنَزّها آخر لم تتعرفْ عليه من قبلُ. إنه يقع خلف وزارة العدل تماما. ويقع خلفه شارع ( صافين
SAPHIEN STR. ) المُزدحم بمكاتب المحامين.
قال ذلكم شيء طبيعي. حيثما كان العدلُ مطلوبا تزاحم المحامون وكثُرتْ مكاتبهم. الواحد يُكمل الثاني. قلتُ بل أحدهم يعتاش على ظُلم الثاني. إنها إزدواجية الجريمة والعقاب. المحامون يدافعون حتّى عن جرائم المجرمين أو يبررونها باحثين عن براءة موكليهم أو التخفيف من العقوبات التي يستحقون. المخالفات والجُنح والجنايات هي مصدر رزق المحامين الوحيد. بدونها يأكلهم العِثُ وجرب الجلود. شأنهم شأن حفاري القبور، موت العباد مصدر رزقهم الوحيد.
أما وزارة العدل فهي من يوقع العقاب. قال المتنبي تماما مثل ظاهرة الأطباء والصيادلة. تكون الصيدليات حيثما تكون عيادات الأطباء. المرض هو مصدر رزق الإثنين. وهو الجسر والقاسم المشترك. علّقتُ متضاحكا : وينهدم هذا الجسر وتبطل قسمة الرزق المُشترك بموت المريض حيث تبدأ مهمة حفّار القبور.
إكفهرَّ وإعتوتم وجه المتنبي إذ سمع كلمة الموت. قال لا أُريدُ أنْ أموتَ غريبا. أريدُ أنْ أموتَ وأن أُدفنَ في مقبرة عائلتنا تحت تربة العراق. هناك عظامُ أهلي وإخوتي وأجدادي. هناك شجرة أصلي الضاربة في طينة سومر وبابل وآشور. ثم شرع يقرأ بحيث أسمعه جيدا

ألا لا أُري الأحداثَ مدحا ولا ذمّا
فما بطشها جهلا ولا كفُّها حِلما

أحنُّ إلى الكأسِ التي شَرِبتْ بها
وأهوى لمثواها الترابَ وما ضمّا

رقا دمعها الجاري وجفّتْ جفونها
وفارقَ حبّي قلبَها بعدما أدمى

فأصبحتُ أستسقي الغَمامَ لقبرها
وقد كنتُ أستسقي الوغى والقنا الصُمّا

هبيني أخذتُ الثأرَ فيكِ من العِدا
فكيفَ بأخذِ الثأرِ فيكِ من الحُمّى

تغرّبَ لا مُستعظِما غيرَ نفسهِ
ولا قابلا إلاّ لخالقهِ حُكما
...
جلسنا في المنتزه ( أو المتنزه = بارك ) الأنيق الجميل ذي النافورة التي يتوسطها تمثالٌ هائلٌ للإله نبتون ينفخ من منخريه وعينيه وأُذنيه شلالاتِ الأضواء الملونة الممزوجة بالماء الهادر. قال الشاعر إنما صوت وضوء. قلتُ بالضبط. ضوء وصوت. قال مُفتعلا الجد المُبطّن بالسخرية أمسموحٌ هنا بالتدخين ؟ قلتُ وما الذي يمنعك ؟ قال قد أجلستنا هذا اليوم في مقهى فيها ركنٌ خاصٌّ بالمدخنين معزول عن بقية أنحاء وأركان المقهى الأخرى. قلتُ وما وجه الغرابة في ذلك ؟ قال قد شعرتُ وكأني في حجرة عزل، كأني مُصاب بمرض مُعدٍ أو جَرَبٍ يخشاه المُعافون ( لا تربطْ الجرباء ... ). قلتُ أُواسيه وأطيّب خاطره تلك أوهام يا أبا الطيب. لا مرض ولا وباء ولا جَرَب ولا عَزل ولا هُم يحزنون. هنا يُدارون أمزجةَ الناس ويوفرون لهم كافة مستلزمات الراحة لكي يكسبونهم روّادا لمقاهيهم دائمين. المنافسة على الرزق شديدة. فغير المُدخّن لا يُطيقُ الدخان ولا رائحة التبغ. ولعلمك... هناك مشروع قرار في أن تمنع الحكومة التدخين في محطات قطارات الأنفاق. قال ساخرا وبغير أناة : وقياسا على ما أرى سيأتي يوم يُمنَعُ في البشرُ من التنفّس. تتدخل الحكومة في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الناس. هنا ممنوع التدخين. لا تبصق هناك. لا ترمِ أوراقا هنا. لا تمشِ من هنا. هذا الطريق لراكبي الدراجات. لا تعبرْ الشارع من هنا. لا ...لا...لا...لا / أجلْ، سيأتي يوم تحرمنا الحكومات فيه من حق التثاؤب والتجشؤ وربما الضحك والكلام بصوت عالٍ. بل وربما تُحدد لنا أوقات وعدد المرات التي نزور فيها بيوت الراحة وكم مرة نتنفس في الدقيقة الواحدة وما نأكل صيفا وما نأكل شتاء. قلتُ هذه أمور مألوفة اليوم بدون أوامر أو تعليمات من الحكومة. أقصدُ أنَّ الناسَ يتكلمون ويضحكون عادة بأصوات خفيضة، وخاصة في المقاهي والمحلات العامة. وهم مسرورون بذلك لأنَّ عالي الأصوات يُزعجُ أمزجتهم الرقيقة التي صقلتها مدنيتهم حتى أصبحتْ مثل حدِّ موسى الحلاقة. قال مبتسما أراكَ تقصدُ موسى حلاقة رأسي. قلتُ بل وأكثر حِدة من موسى حلاقة رأسك وأرق نصلا. رفع الشاعر قبعته التي لا تفارق رأسه ثم مررَ كفّه عليه بهدوء وأناة فإنعكستْ على صلعته أضواء النافورة المختلطة برذاذ الإله نبتون الذي إنتبه لقول صديقي الشاعر فوجّه إليه الخطاب قائلا : تصوّرْ عزيزي أيها اللاجيء الجديد أنَّ حكومتنا لا تسمح حتى لي - أنا إله المياه المعروف - أن أتحركَ وأن أتركَ مكاني لأتجولَ في أنحاء هذه المدينة الجميلة لساعة أو ساعتين مرة كلَّ عام. لا أستطيع الحركة ولا أستطيع التنقل. هنا سَكَني وهنا مقامي مُقيَّد الرجلين وتخترقني المياه عرضا وطولا صيفا وشتاء. أقف عاريا تحت زخّات المطر وندف الثلوج. وإنْ شكوتُ فوزارة العدل المهيبة الشامخة أمامي تُوسّعُ في وجهي حَدَقتي عينيها تهديدا وإخافة. أصبحتُ كما ترى حجرا بلا روح وجسدا بلا نَفَس. إصبرْ عزيزي أيها اللاجيء الطارف وتأسَّ بي وتحملْ ما قد إعتدتُ أنْ أتحمل وهذه كما تعلم من شيم الرجال. ألمْ تسمع بحديث الحمار مع الأسد ملك الغاب حين آذى الحمار الأسد فشكا هذا أجابه الحمارُ ساخرا : تحمّلْ... إنما أنتَ الأسد السَبعُ...، ضحك المتنبي وقد أدرك مغزى الحكاية ثم خاطب إله الأمواه نبتون قائلا أنا أحسدك يا صديقي الإله المُجمّد والعاري والمعزول. أحسدك أنك الآن حجر بلا روح وأنك جسدٌ بلا نفس. تذكّرْ قولي :

وإذا كانتْ النفوسُ كِبارا ً
تَعِبتْ في مرادها الأجسامُ

ضحك نبتون كما لم يضحك من قبلُ. وظل نبتون يضحك حتى مرَّ بالقرب منّا وليس بمحض الصدفة شرطيٌ سريٌّ. أبرز هويته لنا ولنبتون طالبا منه أنْ يكفَّ عن الكلام معنا والضحك علينا وعلى نفسه والسخرية من وزارة العدل !!!
رجع نبتون إلى مكانه في قلب النافورة نافخا الماء من جوانبه كافة وكالحوت من رأسه ومن أصابع يديه وقدميه. وحين غادرنا الشرطي السريُّ أخذ الإله ينفخُ دما ويصرخ مثل ثور جلجامش السماوي في سومر قتيلا أمامَ عيني عشتار.
وحين كفَّ عن النزف والصُراخ إنطفأتْ أضواء النافورة فوضع المتنبي قبعته فوق رأسه الذي كان يلمعُ كالمرآة وتجهم وجهه مرة أخرى وقال هيا نُغادر هذا المكان. لقد تشاءمتُ إلى الحد الأقصى. قلتُ وأنا كذلك يا عزيزي.
رافقته حتى باب العِمارة الشاهقة ثم ودعته على أنْ نتفقَ لاحقا على موعد للقاء.
سأصطحبه إلى بعض الجهات الحكومية لإنجاز الكثير من المهمات وإكمال تعبئة الكثير من الأوراق. ثم إنه يحتاج إلى بعض الفحوص الطبية.