| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

 

الخميس 4 /10/ 2007

 

 


المتنبي يروي قصة لجوئه

عدنان الظاهر

- 6 -
كنتُ أنتظر صاحبي في المحطة المركزية للقاطرات التي تقع في وسط المدينة. كنتُ أنتظره حسب الإتفاق على رصيف القطار المُتجه نحو المدينة الأنيقة والبحيرة الفاتنة المُسماة Starnbergersee التي ذكرها الشاعر الأنجليزي توماس إليوت في المقطع الأول المُسمّى ( دفن الميّت ) من قصيدته الشهيرة ( الأرض الخراب أو الأرض المهجورة ). القطار الآتي يتحرك بإتجاه البحيرة الساعة الثانية عشرة وعشرين دقيقة. جاء المتنبي هذه المرة مرتديا قميصا أبيضَ وبنطرونا أزرقَ فاتح اللون والقبعة على رأسه والسيجارة في يده. قال السلام عليكم فقلتُ صباح النور. قال لِمَ خالفتَ قواعد التحية والسلام ؟ قلتُ لمْ أُخالفْ، إنما أَرَدتُ إشعاركَ أنك قد أتيتَ هذه المرة متأخرا عن موعدنا بحوالي العشر دقائق، وذلك أمر لا أعرفه عنك. قال معك حق، لكن لا تَلمْني يا اْبنَ أُمّي. لقد تأخرتْ الحافلة عن موعدها ولسبب لا أعرفه. أهذا أمر مألوف في هذه المدينة ؟ قلتُ كلاّ، إنه إستثناء نادر الحصول. كلُ شيء هنا مُنتظم ودقيق كل الدقة فأرجو أنْ تَطمَئنَ ولا تقلقْ. حوادث المرور والحريق وتصادم السيارات هي التي تؤثر على حركة سير السيارات والحافلات العمومية. عليك أن تتوقع حدوث ذلك في المدن الكبيرة المُكتظة بالسُكّان والسيارات. ما كدتُ أُكملُ حديثي حتى وصل قطارنا وتوقفَ على الرصيف المُثَبّت رقمه في اللوحة الألكترونية الخاصة بحركة وإتجاهات وأوقات سير القطارات داخل وخارج المدينة. جلسنا مُتجاورين فسألني، وكنتُ أتوقعُ ذلك منه، كم ستستغرق رحلتنا إلى المدينة وبحيرتها ؟ تستغرق عادة نصف ساعة... قلتُ. قال وهل يتوقف القطار أثناء الطريق ؟ قلتُ نعم، يتوقف في إحدى عشرة محطة. سأل ثانية وكم يستغرق وقوفه في كل محطة ؟ قلتُ نصف دقيقة فقط. قال أيكفي هذا الوقتُ لنزول بعض الراكبين وصعود آخرين ؟ قلتُ أجلْ. لقد تَعوّدَ الناس على سرعة النزول والصعود. هذا هو نمط حياتهم وليس لهم له من بديل. قال وماذا يحدث لو لم يَستطعْ راكب مريضٌ أو مُسّنٌ من النزول أو الصعود في الوقت المُحدد ؟ قلتُ من فاته النزول يبقى في قطاره ويتركه في المحطة القادمة ليأخذ القطار المتجه صوب محطته التي يروم. قال الآن فهمتُ. لا تؤاخذني... مازلتُ واحدا من معدان لندن الأصليين. لقد أصبحتُ ثرثارا، ثُمَّ، بعد أن ضيعتُ أصلي وأهلي وفصلي.
مر القطار بالكثير من الغابات والمدن الصغيرة وظل صاحبي يُلِحُ في السؤال عن كل كبيرة وصغيرة. كنتُ بدوري أُجيبه بكثير من الصبر والهدوء والأدب الجم لكيما يظلُ خاطره طيّبا رائقا. فالرجل لا يُطاقُ إنْ إنقلبَ مزاجه وتعكّر صفاء نفسه. وصلنا المدينة الأنيقة وبحيرتها التي تحمل إسمها فعلّقَ الشاعر على الفور قائلا إنه لم يَرَ في حياته شيئا مثيلا لما يرى. بلى، قالَ، إنه رأى وفُتِنَ في حينه بشِعِب بوّان في أرِّجِان من بلاد فارس. ورأى وأعجبته البحيرةُ في مصر. كما رأى جبال بلاد الروم أيام كان يَصحَبُ سيف الدولة الحمداني غازيا أو مُدافعا عن ثغور المسلمين. كما أنه قطع مرّة على فرسه عِقابَ جبال لبنان المنيعة التي كانت يومذاك مُغطاة بالثلوج. تنهّدَ صاحبي عميقا وقال هيهات هيهات.

جلسنا على إحدى المصطبات المُثبّتة على مَقرُبة من ساحل البحيرة. لمحَ من بعيد شيئا يَمخُرُ عُبابَ الماء فسألني ما هذا ؟ إنها باخرة تجوبُ البحيرة بمسافريها من طالبي فُرص الإستمتاع بالتنقل فوق سطوح الماء أو التنقل بين محطات توقف الباخرة هنا أو هناك. قال، وقد أخذتْ الباخرةُ الضخمةُ تدنو من مكان رسوّها على الرصيف الخاص بها قريبا من مجلسنا : لا أفهمُ كيف جاءت الباخرة إلى البحيرة بكل وزنها وأثقالها من خشب وحديد ومُعدّات ومكائن وسوى ذلك. ثم، قال، لا أرى نهرا أو بحرا تمخره حتى تصل إلى هذا المكان. قلتُ لا عجب يا أبا الطيّب. الباخرة لا تأتي إلى هنا جاهزة كاملة العُدة والتجهيز.يجري تركيب أجزائها هنا فوق سطح البحيرة جزءا بعد جزء. لا يأتون بها كُلاّ كاملا متكاملا.
حين أرستْ الباخرة مراسيها تناهى إلى سمع الشاعر صوتُ موسيقى مَرِحة. وحين أبصر المسافرين يُغادرونها مرحين قال أفي الإمكان أنْ نُمّتع أنفسنا بسفرة فوق ظهر هذه السفينة التي تُذكّرني بسفينة نوح جدنا ؟ أجبتُ بالطبع، لكن سيكون ذلك في مناسبة أخرى. لدينا لهذا اليوم برنامج آخر مُغاير حافل بالمفاجآت. إنسَ الماء والبحر والسفائن. علّق صاحبي على الفور ساخرا : تجري الرياحُ بما لا تشتهي السَفَنُ. إلتَفَتَ صوب البحيرة فرآها ملأى بأنواع البط والأوّز العراقي يحوم فوقها طائر النورس الشرس الذي يُنافسها في رزقها ويسرقُ منها ما يرميه الناس لها من خبز وسواه مما يجلبون معهم خصيصا لمداعبتها وإطعامها والإستئناس بما ينظرون. كانت أشعة الشمس تسقط قوية فوق رؤوسنا، الأمر الذي جعل شاعرنا يحتفظ بقبعته فوق رأسه الأصلع. قال أما من ظلٍ يحمينا من نار جهنم هذه ؟ قلتُ ما أكثرَ الشجر هنا والظلال. إنتقلنا إلى مكان آخر ظلاله وارفة كثيفة لكنه كان مزدحما بالجالسين وأغلبهم من كبار السن. كانوا كعادتهم يتحادثون في كل أمر من أمور دنياهم. وكانوا بين آكل طعاما خفيفا أو مُدخّنٍ أو لاطعٍ الآيس كريم ( الدوندرمة ). وثَمّةَ فيهم الغافي على كرسيه مُطأطيء الرأس وجرديته ما زالتْ مبسوطة بين يديه. أبعد صاحبي قبعته عن رأسه ثم أشعل سيجارة وسرّحَ طرفه في أُفق البحيرة البعيد بلا حدود. كنتُ أُراقبه مَليا ثم أردتُ أن أُيسّر له بعض ما اْلتبس عليه من أمور. قلتُ هذه الجبال الشاهقة أمامك والتي تغطيها الثلوج شتاء وصيفا هي بعض سلاسل جبال الألب الشهيرة التي تتقاسمها عدّةُ بلدان. فإنَّ ما ترى في أقصى البحيرة منها هي القمم الجبلية العالية التي تفصل ألمانيا عن النمسا وإيطاليا. هل تُصدّق يا أبا الطيب أنَّ علىأعلى قِمّةٍ منها كانت توجد يوما نقطة لحرس الحدود مهمتها مراقبة وضبط حدود ألمانيا عن النمسا. وكانت في حينه تطلب ممن يروم إجتياز هذه الحدود إلى البلد الآخر إبراز جواز المرور. قال هازئا - جادّا صرتُ أُصدّقُ كل شيء تقوله لي حتى لو كذِبتَ عليَّ وجعلتني هُزءا ومسخرة. الله كريم، إذا كَبُر السبع أكلته العناكب !! إحتججتُ مُتضاحكا قائلا كلا يا أبا الطيب... إنما الأصل في القول أن تقول أكلته الثعالب وليس العناكب. قال ساخرا وهل يُضيرُ الأسد إنْ كَبُر وشاخ وعجز أنْ تأكله الطحالب أو الضفادع أو الثعالب ؟؟ قلتُ على الفور :

وطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ
كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ

فعقّبَ في الحال مُنشدا :

منْ يَهُنْ يسهُل الهوانُ عليه
ما لجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ

ثم قال الآن قد إصطففتَ أنت وبالحق معي. إذا كبُرَ الرجل يغدو حكيما حكمة بنات آوى. قلتُ لكن مع حكمته هذه يغدو قليل الصبر ضيّق الصدر مُخشوشن الطباع. قال هذا صحيح. أتفق معك. ثم قال هازءا قد غدوتَ أنت كذلك تتكلم كلام الحكماء، من أين أتاك فجأة هذا العلم ؟ الحياة يا أبا الطيب. الحياة. قال إي ... ه ...ه ... إيه !!
إقتربتَ الساعة من الثالثة بعد الظهر فإقترحتُ أن نرتاد مطعما هو في عين الوقت مقهى ومرقص قريبا منّا يُطلُّ مباشرة على البحيرة، بحيرة الشاعر توماس إليوت. قال ذلك سيكلفنا بكل تأكيد الكثير من النقود ونحن كما تعلم فقراء لرب العالمين. قلتُ نستطيع أنْ نأكل شيئا خفيفا رخيصا وأن نشربَ القهوة أو الشاي أو عصير البرتقال، وذلك سوف لن يُكلّفنا الكثير. وبين الأكل والشرب، واصلتُ كلامي، يستطيع أبو الطيّب أنْ يُراقصَ سيدة جميلة. قال مُتسائلا جادّا كيف سأراقص السيدة الجميلة، أعني هل تأتي هي وتطلبُ مني أن أُراقصها أو أنا من سيقومُ بذلك ؟ ثم ماذا سأقول لها... كيف سأدعوها للرقص وإني لم أرقص في حياتي ولا أفقه شيئا من لغة هذه السيدة الجميلة. دخيلك، قال، لا تورّطني. جرّبْ أنت قبلي بدلا عني. لا تورطني في أُمورٍ لستُ منها وليست منّي. قلتُ ونحن في الطريق إلى المطعم - المرقص - المقهى جرّبْ، جرّب أبا الطيب. أليست الدنيا تجارب ؟ قال بَرِما متضايقا التجربة الجديدة في مثل عُمري الراهن مغامرة ليست مأمونة العواقب. ربما تتسبب في كسر ظهري الذي أضحى ركيكا ضعيفا. جلسنا في ركن يُطلُّ على ساحل البحيرة تحت أشجار وارفة الظلال. بعد قليل جاءت إحدى الفتيات العاملات في المحل تحمل نسختين من سِجلِّ قوائم المأكولات والمشروبات لذاك اليوم. إبتسمتْ وحيتنا ثم تركتْ أشواكا وسكاكين وملاعق على المائدة ومضتْ. قال أبو الطيب تحت تأثير ما في جوفه من جوع وأين الطعام ؟ لم تجلبْ لنا البنت الحلوة شيئا نسدُّ به الرمق بعد كل هذه الشمس القوية وثرثرة الجيران من العجائز. قلتُ إصبرْ قليلا. المفروض أولا أنْ نقرأ هذه القوائم جيدا ثم نختار ما يعجبنا من طعام وشراب وما يُلائم جيوبنا من أسعار. أليسَ كذلك ؟ قالَ بلى والله، لا تؤاخذني يا صديقي فإنني ما زلتُ ذاك المُعيدي الذي تعرف. سألته عما يحب أن يأكل من طعام للغداء فقال الأمر والحلُّ والربط لك. إخترْ أنتَ وستجدني إنْ شاء الله من الصابرين. جاءت فتاة المطعم إياها تحمل بيدها قلما ودفترا صغيرا فأمليتُ عليها ما شاءت جيوبنا لا ما شئنا نحن أن نأكلَ وأنْ نشرب. بعد فترةإنتظار قصيرة فقد المتنبي صبره فسأل مُتبرما متضايقا متى يأتينا الطعامُ والمشروب ؟ قال إنه يشعرُ بظمأ شديد ولا ظمأ بادية الشام والسماوة. قلتُ إنتظر. سيأتي لا مَحالةَ ما طلبنا. تسلّحْ أبا الطيّب بالصبر ( سمعته يُتَمتم : الصبر مفتاح الفَرَج ). لسنا وحدنا في هذا المكان. هناك زبائن آخرون غيرنا جاءوا قبلنا وهنا يأخذ كلُّ شيء دوره جدول زمني دقيق مضبوط. إنتظرْ. كان صاحبي جائعا حقّا سيّما وقد أسرفَ في التدخين كيما يُلهي نفسه عمّا في أحشائه من جوع مُمِض صارخ. بعد حوالي ربع ساعة جاء طعامنا ومشروبنا فمدّ صاحبي يده إلى كأس عصير البرتقال وأفرغه في جوفه دفعة واحدة، تجشأَ الرجل ثم قال الحمد لله، أشعر الآن أني قد إرتويتُ. الحمدُ لله. كدتُ أنْ أموتَ ظمأ. الحمدُ لله. أشعل سيجارة أخرى قبلَ أن يمُدَّ يده إلى طعامه مُسرِّحا الطرفَ فيما حوله من مياه عَذّبةٍ رقراقة وبَشرٍ جذلانَ وخُضرةٍ وبطٍ وأوّز وجبال على البعد شاهقةٍ تُكللها الثلوج. قلتُ كُلْ أبا الطيب، كُلْ يكادُ الجوعُ أن يقتلك. قال كلا، ليس جوع البطن بقاتلي، إنما الغربةُ والتشرد وضياع الأصل والفصل. وجدتُ الفُرصةَ قد واتت لأسأله عن تفصيلات وصوله إلى ألمانيا لاجئا فقلتُ يُشغلني يا صديقي العزيز أمرُ طلبك اللجوء وكيف أمكنك الوصول إلى هذا البلد. قال إنَّ وراء مجيئي إلى هنا قصة طويلة عريضة. قلتُ بل قُصّها بإيجاز إنْ أمكن. قال سأحاولُ أنْ أختصرَ ما أمكنني ذلك. مدَّ يده فتناول شيئا من صحن طعامه وشرع يمضغ ما تناول ببطء شديد مُسترسلا في الحديث كأنه حَفِظ قصّةَ لجوئه عن ظهر قلب. لقد فتح سؤالي لديه شهوتي الطعام والكلامِ معا :
قال قد علِمتَ بخبر زيارة الحاتمي لي في بيتي ببغداد بطلب من المُهلّبي وزير مُعزَّ الدولة البويهي. قلتُ لا والله ما قد عَلِمتُ. قال أرسله الوزير للتشنيع عليَّ بالباطل وإستفزازي وهتك حريمي وتعزيق أديمي ومناقشتي في أُمورٍ تَخصُّ بعض قصائدي. وأخطرُ من كل ذلك أنَّ الوزير قد حثّه على إلجائي لمغادرة العراق مُهددا متوعدا تارة وناصحا تارة أخرى. قلتُ، وما زال الكلام للمتنبي، بعد أن أصغيتُ له بصبر وسعة صدرٍ بإعتباره كان ضيفا في بيتي لا واللهِ ما أنا مُغادرٌ بلدي وأهلي وخلاّني. أما أنتَ ووزيرك الذي أَوفدكَ كيما تستفزني وتَحُطَّ من قَدْري فإفعلا ما شئتما وعلى الله المُستعان وهو أرحمُ الراحمين.
أمال الضيفُ الثقيلُ جسمه قليلا نحوي ثمَّ قال أَنصَحُكَ كأديب وناقدٍ وذوّاقة شعر أنْ تُذعِنَ وتسلم بجلدك وتغادر بغداد. لا مكانَ لك آمنا هنا بين أظهرنا. وأقترحُ كحلٍّ وسط دون علم مُعزِّ الدولة أن تُغادرَ بغدادَ وأنْ تُقيمَ في الكوفة مسقط رأسك. إبتعدْ عن بغداد. كررتُ رفضي قائلا للحاتمي بل سأمكتُ في بغدادَ وليكنْ ما يكن. يعد تفكير طويل قال الحاتمي إذنْ سأرتّبُ لك حلاّ يُرضيك ويُرضي مركز الخلافة في بغداد. سألته عن جوهر هذا الحل. قال سنزوّدكَ بجواز سفرٍ وتأشيرة دخولٍ إلى الجماهيرية العربية الليبية حيث تستطيعُ هناك أنْ تعملَ في بعض مدارسها مُدرِّسا للغة والأدب وفنون الشعر. قلتُ له دعني أُفكّر في هذا الأمر. قال حَسَنا، فكّرْ وسأمرُّ عليك غدا ليلا لتبلغني بقرارك النهائي. ثم أضاف الحاتمي : تَذَكّرْ، يمرُّ الوقت ضدك وليس في صالحك. والوقتُ كما تعلمُ كالماء لا يجري في نهرٍ مرتين. عجّلْ ولا تؤجّلْ البتَ في قرارك. ودعته على أنْ نلتقي مساء غدٍ.
توقف المتنبي عن الكلام قليلا ثم إستأنفه قائلا : زارني الحاتمي كما إتفقنا حاملا معه جواز سَفَرٍ عراقيا جديدا يحمل إسمي كاملا وصورتي الشمسية وتأشيرةَ دخولٍ ليبية. لا أدري، قال المتنبي، لِمَ أسعدني هذا الإنجاز السريع الذي تقبّلته بدون تحفظٍ لحظةَ أنْ رأيتُ الجواز يحمل إسمي وكُنيتي وصورتي مُلصَقة على إحدى صَفحاته الداخلية. لم أرَ جواز سفر من قبلُ. ثم إنَّ فكرة السفر بحد ذاتها ومزاولة مهنة تدريس اللغة والأدب فكرة مُغرية وأكثر من مغرية. ولعلني كنتُ قد إستشعرتُ حجم الخطر المُحيق بي. قلتُ لعل في السفر خلاصي ونجاتي من الكرب العظيم. سألتُ الحاتمي كيف دبّرتم أمر تأشيرة الدخول الليبية على عَجَل ؟ قال إنما هذا شأننا. لا يقفُ أمامنا أمر صعب أو عثرة. لدينا لكل مشكلة حل. ثم، أضاف الحاتمي، لدينا أختام كافة أقطار الدنيا لذا نستطيعُ تزويدك بتأشيرة دخول أي بلدٍ يُعجبك. توكلْ على الله وأُترك على عَجَلٍ بغداد والعراق. لا حظَ لك فيهما.
قبل أن يُغادر بيتي سألني الحاتمي هل لدي أسئلة أو إستفسارات أو إشكالات. قلتُ له أجلْ لدي سؤال : كيف سيكون مصيري لو لم أستطع أن أهظم الحياة في ليبيا، وهل سأستطيع الرجوع عندذاك إلى العراق ثانية ؟؟ قال بعصبية حاول جاهدا أن يضبط فورتها كلاّ، لا تُفكّر في هذا الأمر على الإطلاق. ثم أردف مُثبِتا ناظريه في عيوني بشكل لا يخلو من تحدٍ ونفاد صبر : شيلها من بالك !!! لا رجعة لك بعد الغيبة عن العراق !!! وإذا ما ضاقت بك الدنيا في ليبيا راجعْ سفارتنا في طرابلس كي تُدبّر لك أمر اللجوء إلى أحد الأقطار الأوربية !!!
غادرَ الحاتمي داري فشرعتُ أُرددُ بين الفرح والدموع مُخاطبا بغداد :

وما اْسودّت الدنيا بعيني لضيقها
ولكنَّ طَرْفا لا أراكِ به أعمى

أنهينا صحونَ طعامنا المُتواضع فطلبتُ له شيئا آخر أكثر تزاضعا. قال هاتِ لي المزيد من العصير أو الماء أو أي شيء يساعدني على مواصلة الكلام فالحديث ذو شجون. قال المتنبي : مارستُ التدريس في بعض مدارس ليبيا بشغف ورغبة وإقدام في باديء الأمر. ثم أخَذَتْ رغبتي في مواصلة مهنة التدريس تخفُّ مع مرور الزمن ومزاجي يسوء تَعَطلتْ المدارسُ آواخر شهر مايس فراجعتُ سفارتنا في العاصمة طرابلس وقابلت القنصل أو المستشار وطالبته أن يُيسرَ لي أمرَ السفر إلى بلد أوربي كلاجيء ( كانتْ هذه خطة وآوامر وزير بغداد المُهلَّبي التي بلّغها لي الأديب الحاتمي ). أعطتني السفارةُ عنوانَ ورقم تلفون شخص مقيمٍ في مدينة فيينا عاصمة النمسا. لم يذكرْ مسؤولو السفارة العراقية إسم هذا الشخص. حين سألتُ عن الإسم إمتعظوا وقالوا لي العنوان ورقم التلفون والرمز السري تَفي بالغرض. طلبوا مني أن أحفظَ هذه المعلومات عن ظهر قلب كأسرارٍ مُقدّسةٍ وأن لا أكتب منها شيئا على الورق. قالوا لي راجع غدا السفارة النمساوية وأُطلبْ تأشيرةَ دخولٍ مُتَعددٍ لأراضي النمسا. أَدِرْ، قالوا لي، قُرصَ التلفون ساعة وصولك فيينا سيأتيك على خط التلفون الآخر رجل أُذكرْ له الرمز السرّي الذي بحوزتك. حوّلتُ مستحقاتي من عملي إلى الدولار الأمريكي حسب تعليمات السفارة. ثم راجعتُ السفارة النمساوية فزودتني بتأشيرة الدخول التي طلبتُ دون عراقيل. ذاك لأنَّ جواز سفري يحملُ خَتمَ تجديد عقد العمل عاما آخرَ. مع عقد العمل المُجَدَد تُجدد الجهاتُ المسؤولة إقامةَ العاملين المغتربين في الجماهيرية الليبية. الإقامة في ليبيا يُحددها عقد العمل فقط. عقد العمل المُجدد وختمُ السماح بالإقامة ضروريان لضمان الحصول على تأشيرات دخول البلدان الأخرى. عقد العمل وختم الإقامة يسمحان بمغادرة الجماهيرية والعودة إليها لمواصلة العمل فيها. سفارات البلدان الأخرى تخشى بقاءنا في بلدانها إنْ لم نكنْ عاملين في ليبيا وليس في حوزتنا ما يُثبِتُ أنَّ في مقدورنا الرجوع لإستئناف العمل فيها. تخشى خشية كبيرة أن نبقى هناك وأن نطلب اللجوء. طلب صاحبي المزيد من الكولا ( وأصبح مع صعود نجم السكرتير العام لهيئة الأمم المتحدة يُسميها كولا عِنان، ويُسمي الرجلَ كوفي أتان ) بعدَ أنْ جرّبها فأعجبته خاصة بعد أن إكتشفَ أن هناك أمرا يجمعها مع هذا السكر( تير ) - الأتان. قال المتنبي قد جفَّ ريقي وألهاني فضولكَ الزائد عن الإستمتاع بالموسيقى الصادحة بالقرب منّا وحرمني من بهجةِ مراقبة الراقصات والراقصين. حثثته أنْ يواصلَ حديثه بعد أن وجدته شيّقا مُثيرا للكثير من الفضول. قال لا أطيل عليك الكلام. في الوقت المحدد واليوم المحدد غادرتُ مطار طرابلس راكِبا الطائرة المتوجهة إلى فيينا. بعد وصولنا مطار فيينا ركبتُ الحافلة متوجها إلى قلب المدينة. لم أبحثْ حسب التعليمات عن سَكَن، بل إتجهتُ إلى أقرب تلفون في الشارع فأدرتُ الرقم الذي زودتني به سفارتنا في طرابلس. سمعتُ صوت رجل على الطرف الآخر يقول ( نعم ). مرّرتُ له كلمة السر الرمزية فرحب بي على الفور وسألني عن مكاني فوصفته بدقّةٍ له. قال إنتظرني حيث أنت. لا تغادره. ما نوع ولون ما ترتدي من ملابس ؟ هل تحملُ شيئا في يدك أو تُعلّقُ حقيبة في كتفك ؟ قلتُ له أجَلْ. تتدلى من كتفي حقيبةٌ جلدية صغيرة سوداء ماركة سمسونايت اليابانية. وعلى رأسي قبعةٌ صيفية صفراء اللون. وأنا رجل رَبعَةٌ جاوزتُ الخمسين. قال إنتظر حيث أنت وسآتيك في الحال.
بعد أقل من نصف ساعة إقترب مني شاب تخيلته في الثلاثين من عمره وكنتُ ما زلتُ واقفا على رصيف الشارع بالقرب من التلفون. مدَّ لي يده مُرّحِبا كأنه يعرفني منذ آلاف السنين. أوقفَ سيارة تاكسي وفي الطريق قال ستقضي معي في بيتي بضعة ليالٍ للراحة، ثم نُدبِّرُ بعد ذلك أمر سفرك إلى ألمانيا. لم أسأله كيف سيكون ذلك ولا متى. لم أسأل هل أستطيع البقاء في النمسا بدل السفر إلى ألمانيا. تصورتُ أنني سأطيرُ إلى ألمانيا فقلتُ في سري خيرا إنْ شاء اللهُ. الطيرانُ تجربة شيقة مُغرية لم أمارسها في حياتي من قبلُ.
في بيته أخذتُ حمّاما ساخنا بينما إنصرفَ زميلي الجديد المضياف لإعدادِ الشاي مع بعض المأكولات الخفيفة. في المساء تمشينا سوية حتى مركز المدينة وكان الجو صيفيا دافئا رائعا. في طريق العودة إلى بيته سألني هل أحضرتُ معي أجور أتعابه وتكاليف السفرة ومستحقات الدلالين ؟ لم أُفاجأ بالسؤال فقلتُ نعم. ذاك لأنَّ سفارتنا في طرابلس كانت قد أخبرتني أنَّ مُتعهد إيصالي إلى ألمانيا يتقاضى مقابل أتعابه ثلاثة آلاف من الدولارات الأمريكية. كنتُ في الواقع على علم بكافة التفاصيل والفضل بالطبع لسفارتنا الميمونة.
بعد مرور ثلاثة أيامٍ على وصولي إلى فيينا قال الدلاّلُ تهيأ. سنسافرُ اليوم بسيارتي إلى ألمانيا. قلتُ له مبهوتا سنسافر بسيارتك أم سنطير ؟ قال بسيارتي، لا يمكنك الوصول إلى ألمانيا طيرانا. سلّمته النقود وسلّمتُ للهِ أمري.
في الطريق الواسع والرائع إلى المانيا لقّنني صاحبي الكثير من الأمور. قال سنصل مدينة ميونيخ بعد حوالي الأربع ساعات. في ميونيخ سأقف بسيارتي أمام بناية كبيرة. تتركُ أنتَ السيارة وتدخل هذه البناية. ستجدُ في الطابق الأرضي غرفة يشغلها شخص يتطلمُ الألمانية والعربية والكردية. قلْ له وصلتُ المدينة في هذه الساعة وأروم طلب اللجوء في ألمانيا. سيسألكَ من أي بلدٍ أتيتَ وما هي قوميتك وهل معك نقود وجواز سفرٍ. قلْ له أتيتُ من العراق ولم يبقَ معي شيء مما حملتُ من نقود. غادرتُ العراقَ بجوازِ سَفَرٍ مُزوّرٍ أتلفتهُ حال دخولي حدود ألمانيا. وإذا ما سألكَ أنْ تُريه تذكرةَ سفركَ بالطائرة قلْ له طِرتُ من بغدادَ إلى فيينا. وفي فيينا وجدتُ بعض المُهربين الذين أتوا بي إلى هنا مُقابل ثلاثة آلاف دولارٍ أمريكي. قلْ له نقلني المهرِبون من فيينا إلى ميونيخ بسيارة ثم تركوني قريبا من هذه البناية. لآ أعرفُ أحدا منهم. كان ما زال المتنبي راغبا أنْ يواصلَ سردَ قصة لجوئه عليَّ. لكني تعبتُ من الأصغاء. ثم إنَّ صوت الموسيقى العالي لم يَعُدْ مُحتملا. وما كان فيما طلبنا من طعام متواضع ما يكفي من السعرات الحرارية لتحَمّلِ هذه الأجواء الثقيلة. قلتُ لصاحبي ألا نتمشى بحِذاءِ سواحل البحيرة لنقضي بعض الوقت بعيدا عن صخب الموسيقى وضوضاء المقهى، وتؤجلَّ حديث اللجوء إلى مناسبة أخرى ؟ قال إنها والله لفكرة جيدة. أنا مثلك أشعر بالتعب وشيء من ضيق الصدر. لا تحسب أن إختلاق مثل هذه القصص والمغامرات البهلوانية وحفظها عن ظهر قلب نزهة " ويك أندْ ". لقد أنهكَ أمرُ اللجوءِ قوايَ الجسدية والنفسية والعقلية. حين تركنا المطعم - المقهى - المرقص سألني المتنبي وقد أعجبه المكانُ عن إسمه. قلتُ إنه يُدعى أُندوزا
UNDOSA . قال أُندوزا أم ميدوزا ؟ قلتُ أُندوزا. سلكنا الطريق المُحاذي للبحيرة في وسط غابات كثيفة مُلتفّة الشَجَر تتخللها طرق خاصة للماشين على الأقدامِ من أمثالنا وأُخرى لراكبي الدراجات. سألني عن طول البحيرة وعن عرضها. قلتُ عشرين كيلومترا طولا، ويتراوح عرضها بين 3 - 5 كيلومترات ضيقا وإتساعا. قال واأسفاه أننا لا نستطيعُ أن نقطعها طولا مشيا على الأقدام. واأسفاه، كبرنا يا أخي. قلتُ إنما يفعلُ ذلك الكثير من الناسِ شيبا وشبابا. يحملون معهم ما خفَّ حمله من طعامٍ وشراب ويمضون فرادى وجماعات أو زرافاتٍ ووحدانا كما يقول الأجداد.
وما دام الحديث عن البحيرة، إستطردتُ،... لقد حدثَ يوما في هذه البحيرة حادث لا ينساه الناس هنا وفي ميونيخ وربما في عموم ألمانيا. قال، وهو لا يُخفي الكثير من الفضول، ما هو ؟ قلتُ غَرِقَ في مياه هذه البحيرة ملك بافاريا الشاب ليودفيغ الثاني. لقد وُجِدَ ميتا غَرَقا في المياه المقابلة لقصره الصيفي الذي ما زال قائما كما كان في سالف الزمان ويُسمى
BERG . يُمثّل القصر اليوم إحدى محطات وقوف البواخر والزوارق التي تمخرُ مياه البحيرة جيئة وذهابا خلال خط مائي يربط قرى ومنتجعات ومسابح ومصحات تقع على سواحل هذه البحيرة تزخر بالمقاهي والمطاعم والفنادق. ولعل من إسم قصر الملك جاءت تسمية البحيرة بالإسم الذي نعرف اليوم، أعني STARNBERGERSEE
واصلتُ حديثي قائلا : هناك الكثير من التكهنات حول أسباب هذا الموت المُبكّر للملك الشاب. يُقال كان الملكُ مصابا بمرض إنفصام الشخصية ( الشيزوفرينيا ). وكان فظ الطبع لا يَقرُب النساء أبدا. وكان كما أشيع عنه منحرفَ الميل الطبيعي الجنسي. منا هنا كَثُرتْ وتنوعتْ الأقاويلُ والتكهنات حول أساب وظروف موته غَرَقا، وهل كان هذا الموت عارضا طبيعيا أو مؤامرة وحادث قتل مُتَعَمدٍ مع سبق الإصرار كما يقول القضاة ورجال القانون. علّقَ المتنبي قائلا لا أستغرب أمرَ هذا الملك. كان رأيي في الملوك سيئا ابدا. ثم شرع صاحبي يقرأ (( قالتْ إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعِزّةَ أهلها أذلّة وكذلك يفعلون / من سورة النمل )). غرِق كلانا في صمتٍ عميق. لا أنا أتكلم ولا هو يُدخّن. كان الرجل يبدو مأخوذا بجمال ما يرى. إلا أنه سألني بغتة من أين يأتي البحيرةَ ماؤها ؟ قلتُ يأتيها من مصادرَ شتى. يأتيها من منصهر الثلوج التي تراها تُكلل رؤوس الجبال الشاهقة أمامك. ويأتيها الماءُ من العديد من الأنهار التي تصبُّ في نهاية المطاف في البحيرة. فضلا عمّا في أعماقها من عيون فوارة يتدفق منها عذبُ الماء. وسّعَ المتنبي عينيه ورفع حاجبيه قائلا : عجيب !! هل أفهم أنَّ ماء البحيرة نميرٌ صافٍ يسوغ شرابه ؟ قلتُ أجلْ، ماؤها يا أبا الطيب حلو لا ملح فيه. قال وما بال ماء بحيرة ( ساوة ) بالقرب من سماوة بادية العراق مالحا أجاجا مرّا لا يقربه بشرٌ ولا حيوان ؟؟ قلتُ أمر بحيرة ساوة مختلف يا عزيزي. الأرض التي تحيطُ بها وما تحتها من طبقات أرضية تختلف كل الإختلاف عن طبيعة وظروف هذه البحيرة الجيولوجية والمناخية. لا غابات حول بحيرة ساوة ولا جبال تحيط بها ولا ثلوج تتساقط فيها أو حواليها. وما يتساقط فوقها من مطر هو في الحقيقة جدَّ شحيح. أي أنَّ ماءها راكد محدود ودائم التبخر. وعليه فإني أتوقع أن ما في بحيرة ساوة من ماء سوف ينضب بعد حين طال أم قصر. أي أنها ستجف يوما بالتمام ولا يتبقى في قعرها إلا طبقات من الملح شديد المرارة. بإختصار... ستؤول إلى بحر ميت. وستلحقها بعد أمد بحيرة لوط التى تُسمى البحر الميت في فلسطين. هزَّ الشاعر رأسه في شيء من الأسى ثم قال قد ذكرتني بقوم لوط وما حلَّ بقريتي سادوم وعامورة. كانوا قوما فاسقين يقطعون السبيل ويمارسون في ناديهم المُنكر ويأتون الذُكران من العالمين. تماما مثل صاحبنا ملك بافاريا اللوطي. طَفِقتُ أقرأ مع نفسي (( فأخذتهم الصيحةُ مُشرِقين. فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل / سورة الحجر )). لاحظ ونحن نخترق طرقات الغابة مشيا على أقدامنا الكثير من أكشاك الصحف والمجلات والمشروبات المنوعة من بيرة وكولا وسواهما. ثم البارات الصيفية والمقاهي المنتشرة في أرجاء الغابة حيث الحركة الدؤوبة لمرتاديها وعمالها من كلا الجنسين. أحسستُ أنَّ لدى شاعرنا هوى للجلوس في إحدى هذه المقاهي الغاصة بالبِشرِ والبَشرِ والغارقة في ظلال باسق الشجر عليها الطير أشكالٌ وألوانُ. سألته هل لديه رغبة في أنْ يشربَ شيئا . قال كلا. نواصل الحديث والتمشي في هذا الفردوس الأرضي. قبل أن أبدأ وأن أواصل الحديث سألني صاحبي عن حال البحيرة في فصل الشتاء وهل يأتيها كل هذا الجمهور الهائل من البشر. سؤال جيد يا أبا الطيب، أجبتُ،... سؤال وجيه. يتجمد ماء البحيرة شتاء حتى أن زوّارها يأتون للتزلج فوق جليدها بدل التنزه الصيفي المألوف أوالسباحة وممارسة شتى أشكال الرياضة البدنية أوالسفر على سطوح البواخر أو قيادة السفن الشراعية وسواها من القوارب البخارية. لكل فصل مزاجه وأحواله وظروفه وطقسه. لا يترك الناس هنا فُرصة أو موسما أو فصلا إلاّ وإستغلوه وإستمتعوا بما يوفره لهم من نِعَمٍ وفضائل وخصوصيات. حياتهم يا أبا الطيب حياة متحركة متغيرة أبدا. لا يحرمون أنفسهم من شيء مُتاح في الحياة. مأكلا وملبسا وجِنسا وأسفارا وأعيادا وحفلات ومناسبات شتى. لذلك فإنهم يعملون بجدٍ وحيوية وإنتاجية عملهم عالية كمّا وكيفا وكفاءة. قانون وناموس حياتهم الُمهيمن هو معكوس منطق الحديث الذي حفظناه منذ طفولتنا عن ظهر قلب محفورا على صخرة مسلّةِ حمورابي (( إعملْ لدنياك كأنكَ تعيشُ أبدا وإعملْ لآخرتك كأنك تموتُ غدا )). هذا الكلام الجميل لم نعرف كيف نُطبّقه ولا كيف نهتدي به راية وعَلَما في حياتنا. أسأنا إليه كما سيَْ بنا رغم أرادتنا. شوَّهَنا وأساء إلينا الماضي ( الروزخون ) من جهة والحاضر ( الشرطي ) من الجهة الأخرى. قيَّدانا بالكبول وبثقيل الأصفاد قديمها وحديثها المستورد. كان صاحبي مُصغيا لي بكل جوارحه حين سألني وما هو ناموس حياتهم وقانونها إذن ؟ قلتُ قانون حياتهم الراهن والمهيمن هو (( تمتعْ بدنياك كأنكَ تموتُ غدا )). ثم زدتُ : سأضع القولين بإزاءِ بعضهما لكي يتوضحَ الفرق بينهما جليا :

تَمَتّعْ بدنياك كأنك تموتُ غدا 
إعملْ لدنياك كأنك تعيشُ أبدا

ثم سأكرر ضعهما تحت بعض للمبالغة في تكبير الفارق بينهما :

تمتعْ بدنياك كأنك تموتُ غدا
إعملْ لدنياك كأنك تعيشُ أبدا

هكذا يا عزيزي هم يفهمون الحياة وهكذا يفهمون علاقة النفس بالجسد. يجعلون نفس الإنسان خادما لجسده حينا ويجعلون الجسد خادما للنفس حينا آخر. العلاقة بينهما مُتحركة غير ثابتة، علاقة جدلية الطابع. يتبادلان الأدوار. يعطون لكل ذي حق حقه ويوفرون له متطلباته الجوهرية. لا يقهرون هذا لحساب ذاك ولا يُعطّلون آلياته الطبيعية التي فُطِرَ عليها. تماما كحاجة الإنسان للهواء والطعام والشراب. إنها، مع ذلك، معادلة صعبة يا أبا الطيب، جدَّ صعبة ولا يستطيع التحكم بأطرافها إلا الشخص المتحضّر الذي مر أسلافه بعصور التخلف والصراعات والمحن من جوع ودمار وحروب قومية أو دينية أو طائفية ليخرج من هذا الدمار مُعتّقا مُحنكا منتصرا على كلٍ من روزخون الماضي الثقيل وشرطي الحاضر البغيض. أقام هذا الإنسانُ المنتصر مؤسساته المُنتخبة ونظامه الدستوري وكفل له حاكموه الذين إنتخبهم حرية الرأي وحرية المعتقد وحرية التعبير عنهما.
خرج المتنبي من ذهوله المُطلق ليقول : إنما قد واللهِ أدركتُ مقصدك. لكننا قد سبقناهم إلى القول (( ساعة لقلبك وساعة لربك ))، أليس هذا هو عين ما يقصدون ؟ أحسنتَ، قلتُ، أحسنتَ أبا الطيب، أحسنت. هذا هو المطلوب من إنسان هذا العصر، وإلاّ فلسوف يظلُ جاثما على صدورنا حُكّامٌ من أمثال كافور الإخشيدي والحجاج بن يوسف الثقفي وقره قوش بغداد وهولاكو وجنكيزخان وقشامر المعتوهين ممن تعرف وأعرف من أشباه الرجال من أمثال أبي زيد الهلالي ودون كيخوت وأضرابهم. لا تتحرر أجسادنا إلاّ بزوال هذه الطبقة النَخِرة والمهترئة من الحكام. أزيلوها... كسّروا قيودكم... تتحرروا جسدا ونفسا أيها الناس.
صرخ المتنبي على حين غرّة رافعا يديه إلى الأعلى برافو برافو ... حرروا أيها الناس أنفسكم. ثوروا على من ظلمكم. كان حماس صاحبي قويا حتى قد إنتبهَ لصُراخه من كان يمشي على مَقرُبة منّا في الغابة. ثم أضاف : وبتحرر الأجساد تتحرر النفوس. فالنفوس الحُرّة إنما في الأجساد الحُرّة. والأجساد الُحرّةُ إنما في النفوس الحُرّة. قلتُ مُردِدا بهدوء برافو برافو أبا الطيب. شرع صاحبي يهزج بحبور ويردح مُنشِدا بيته الشعري :

وإذا كانتْ النفوسُ كِبارا
تَعِبتْ في مُرادها الأجسامُ

قلتُ ولكنَّ في هذا البيت إلتباسا لغويا أدى بدوره إلى إلتباسٍ آخر في المعنى. قال وما الذي إلتبس عليك ؟ قلتُ لِمَنْ يعود الضمير في " مرادها " ، هل يعودُ إلى النفوس أم إلى الأجسام ؟ قال أتركُ ذلك إلى فطنة وبلاغة اللبيب من قرّاءِ شِعري. قلتُ له أشعر بالكثير من القلق كلّما أعَدتُ قراءة هذا البيت من الشعر. أشعرُ برجّةٍ في العصب وإرتباكٍ من أمرٍ مُبهمٍ غير واضحٍ لي تمام الوضوح كأنه قائم فوق أرض تحتها زلزال. أو أجد نفسي في حالة من يمشي غير واثق من مواضع قدميه فوق حبل كالصراط المستقيم الذي عَبَره أبو العلاء المعري محمولا على ظهر جارية حسناء من حور الجنة العِين. قال، مفتعلا السخرية، يبدو أنَّ أعصابك مُهترِئةٌ كأعصابي. أضعفتها ولَعِبتْ بها قساوة الغُربة ومشاكسة الزمان الخؤون. ثم، أضاف صاحبي، قلْ لي بالله عليك مِنْ أين أتيتَ بقصّةِ أبي العلاء والجارية الحسناء وعبوره الصراط المستقيم ؟ قرأتُ ذلك في كتابه " رسالة الغُفران " يا أبا الطيب. قال سامحني، إنما كتبه بعد مقتلي. لم أقرأه للأسف الشديد. ثم عاد المتنبي يسأل : وهل كان عبور أبي العلاء المعري إلى الجنّةِ سهلا مُيسّرا ؟ قلتُ كلا، كان مستحيلا لولا شفاعة فاطمة وأخيها إبراهيم. هذا ما قاله المعري نفسه. سمعتُ صاحبي يردد بصوتٍ خفيض مرير : واسطة ! واسطة ! لا تمشي أُمورنا حتى في العالم الآخر إلاّ بالوساطات. إلى أين المفر ؟؟؟
لم أتركْ صاحبي سارحا مع أخيلةِ وأحلام وفُرص الدخول إلى الجنّة فكررتُ عليه سؤالي السابق حول حول تأرجحِ وغموض عائدية الضمير في كلمة " مُرادها ". قال أصارحك القول بأني أنا نفسي لا أعرفُ الجواب القطعي. لا أدري علام يعود هذا الضمير. هكذا كنتُ أبدا مع الشعر. تفرض الألفاظ نفسها عليَّ في ساعات الهيام والتطواف تحت ضغط وتأثير جنون الشعر. وحين أفيقُ أجد أمامي ما قد قلتُ. عندئذٍ لا أسعى لتغيير ما كتبتُ. أترُكُه كما جاء وليس كما يريدُ أو يتوقعُ القرّاءُ والنُقّادُ. صاحبك معروف بعناده ومن أكابر مَنْ تأخذه العزّةُ بالإثم فلا يتراجع ولا يعترفُ بخطأه. ثم ألا ترى هذا البيتَ مُغريا جذابا طريفا مُستحدثا رغم وضوح وبساطة ألفاظه ؟ لا تسعَ إلى تشريح جثة إنسان حي. الشعر مخلوقٌ حيٌ فأعطهِ الفرصةَ كي يؤثرَ فيك ويترك فيك الأثرَ البليغ الذي يريد الشاعر. لا تُعضله بالمنطق ومقاييس العقل وما عرفتَ من قواعد النحو والصرف والإشتقاق. لا تقتله حيا. ما كان صعبا عليَّ ملاحظة علامات الإعياء والإجهاد على وجه الشاعر. تركته لكي يلتقط أنفاسه لكنه بادر إلى السؤال : أين نحنُ الآن وكم ميلا قطعنا مشيا على أقدامنا المُرهقة ؟ قلتُ قطعنا قرابةَ الأربعة كيلومتراتٍ مشيا. وإننا قريبين جدا من محطة للقطار تُسمّى
POSSENHOFEN وسنأخذُ القطارَ قافلين رجوعا إلى مدينة ميونيخ.
وصلنا محطة القطارات الرئيسة في وسط المدينة المُسماة
HAUPTBAHNHOF فودّعتُ الشاعر المُتعب القَلِق وداعا حارّا على أنْ نلتقي الأثنين القادم ظهرا كي نواصلَ النقاش حول بيته الشعري ( وإذا كانت النفوسُ كِبارا" ... ).