| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

السبت 31/1/ 2009



محاورات من وحي الخيال مع الدكتور ممتاز كامل كريدي
( حلاّوي ـ جرماني ـ جرمانستك )
 

د. عدنان الظاهر 

1ـ تحت ظلال أبي نؤاس
سألته ألديك مانع من إجراء حوار معك ؟ قال لا مانعَ لديَّ . توكلنا إذاً .

أخي ممتاز ، أعرف أنك غادرتَ مدينتك ومسقط رأسك الحلة ، مركز محافظة بابل ، صيف عام 1952 بعد أنْ أكملتً الدراسة الثانوية في ثانوية الحلة للبنين ( الفرع الأدبي ) . هل هذا الكلام صحيح ؟ صحيح ، أجاب ممتاز . طيّب ، وأعرف أنك جئتَ إلى ألمانيا الغربية ، كما كانت تُسمى يومذاك ، درستَ وبقيتَ فيها حتى اليوم ، فما الذي أغراك للبقاء في هذا البلد الجرماني طوال هذه السنين ( 57 عاماً ) وهل تُرى تحركت فيك يوماً دواعي الحنين للعراق أو الرجوع إليه أم أنك إعتدتَ الإقامة هنا فمحا بلدُك الجميلُ الجديد بلدك القديم الأصل [ مثلما تطردُ الغيومُ الغيوما / الغرامُ الجديدُ ينفي القديما / نزار قباني ] ؟ دواعي الحنين فيَّ دائمة الحركة لكنَّ الحنينَ للوطن شئ والرجوع إليه شئ آخر ، قال ممتاز . الحنين كما تعلم هو المحرّك الأكبر والأقوى للرجوع للوطن ، فكيف تحنُّ ولا تعودُ ؟ الحنين كالمرض أو قل هو المرض بعينه ، لكنَّ المريض يتعافى ويشفى بالعلاج والأدوية ثم عامل الزمن ، الزمن هو الحكيم الأكبر والأقوى المقاوم لمرض الحنين . فيه يتآكل الحنين رويداً رويداً أي ينكمش ولا يتوسع مثل خلايا السرطان ... علّقَ ممتاز . قلتُ مع نفسي قد بدأ صاحبي يتكلم بمنطق الفلسفة وأراه على حق . أضفتُ قائلاً لنفسي : الأدوية نعم ، الزمن ، نعم ولكنْ من تجاربي مع الغربة الطويلة والتغرّب وجوْبِ الآفاق إكتشفتُ أنَّ هناك ثمّة من عامل آخر شديد القوة والفاعلية يُضعفُ أولاً ثم يقضي على مرض الحنين للأوطان ألا وهو [ هيَ ] ! نعم هيَّ لا غيرها . وداوني بالتي كانت هي الداءُ ! كيف عرفتَ هذا الترياق يا أبا نؤاس ؟ تدخّل في هذا المفصل ممتاز كأنه كان يسمع حواري مع نفسي فقال قد صدق اللعينُ أبو نؤاس . كيف يا صديق ؟ قال قد جربته بنفسي وعرفتُ منافعه وأعراضه الجانبية المضرّة . منافعه أكثر من مضارّه . إنتبهتُ ! ألهذا السبب واصل صديقي البقاءَ في ألمانيا وأصرَّ على هذا البقاء سنينَ عددا ؟ لقد صدق نزار قباني إذاً حين قال [ الجنسُ كان مخدِّراً جربتهُ ... ] . الجنسُ إدمانٌ كالمخدرات والقمار والكحول . ما أنْ تمارسها أو أحدها حتى تقع فريسةُ للإدمان عليها . إنها تُنسيك نفسك ساعة مباشرتها وهذا ما يريد ضحية مرض الحنين إلى الوطن . أن ينسى نفسه فينسى علّة ودواعي الحنين فيه ... تمام ممتاز ؟ تظاهر بالشرود عني فواصل صمته ولم يُجبْ . نال صاحبي بعضُ البرود فقررت مداعبته وتغيير مزاجه الذي تعكَّر قليلاً فسألته هل في شيءٍ من البيرة الباردة ؟ إنتعش صاحبي وشعّت عيناه ببريق غريب فقال أليس لديك شيءٌ آخرغير البيرة ؟ مثلاً ؟ فودكا ، رُمْ ، ويسكي ... مثلاً ؟ لك كل ما تحبُّ وما تهوى نفسك الأبية التي رضعت العفّة والشجاعة وتحدّي الصعوبات من مناخ الحلة الثوري الصاعد في أواسط أربعينيات القرن الماضي . قال وزدتُ على ذلك حكمة حمورابي وما ترك لنا من شرائع محفورة على الصخر . حضرت الفودكا ( ماركة كورباتشوف ) مع الكثير من الفستق مزّته المفضّلة . الآن حَلَت الجلسةُ واحلولت وطاب مقام الندامى [ يا ندامايَ فؤادي عندكمْ / ما فعلتمْ بفؤادي يا ندامى / لا أعرف شاعر هذا البيت ] ... قال ثم أضاف : كيف تستشهد بأشعار أبي نؤاس وتجعل خمرته غائبةً عن عيوني ؟ ليس هذا عدلاً ولا من الإنصاف في شئ ، قال ذلكَ مُحتجّاً يبطِّنُ إحتجاجُهُ الكثيرَ من الغبطة بعد أنْ رأى بأمَّ عينه زجاجة كورباتشوف منتصبة القامة تتحدى الخمّارة الآسكيّة . ودّعنا بعد أقل من ساعة الرفيق كورباتشوف فرجوناهُ أنْ يبعث لنا زجاجةً أخرى من نفس الماركة مع رسولٍ صادقٍ أمينٍ لم يقرب الخمرةَ في حياته فنفذَّ الرفيق وأرسلَ لنا ما طلبنا مع قُصاصة ورق صغيرة كتب فيها باللغة الروسية التي لا يفهمها ضيفي ممتاز [ حذارِ حذارِ ... نسبة الكحول هنا 55 % بدل الأربعين المألوفة !! ] . طلب مني ضيفي ترجمة قصاصة الرفيق فقلتُ : ينصحنا الرجل الرفيق الأعلى أنْ لا نُسرف في شرب الفودكا فإنها تتلف الكبد . أترع كأسه وصبّه في جوفه مُغمضَ العينين جرعةً واحدةً . قال وهو يتناول بضعة حبات من الفستق الأمريكي : قلْ لصاحبك المخرّف هذا أنْ يوفّرَ نصيحته لنفسه . لو كان سكيراً مضبوطاً ( تمامْ ) مثل خروشوف أو بريجنيف لما باع الإتحاد السوفياتي بأبخس الأثمان . أفرغَ صاحبي بقية الزجاجةِ ـ الكوكبِ الدرّيّ في كأسه ثمَّ سأل وقد إحمرّت قليلاً عيناهُ : أين صاحبتُه راييسا ؟ تقصد زوجته ؟ زوجته صاحبته رفيقته سواء ... هبسي برَبار عنفص لري . أغمض عينيه وأفرغ الكأس الثاني في جوفه ثم نظرَّ في عينيَّ كأنه يتساءلُ هل من مزيد ؟ فهمت قصده فقلتُ كفى يا صاحبي . رفيقك كورباتشوف لا يسمح بتعاطي الكثير من الكحول . يقولُ ( والعهدةُ على الراوي ، أيِّ راوٍ ؟ ) : زجاجتان في أقل من ساعتين كثير وخطرٌ على الصحة . أدار عينيه الحمراوين في أرجاء الغرفة ثم كرر سؤاله السابق : أين صاحبته راييسا ؟ توفيت ، أجبته . أخذ حفنة فستق وشرع ينزع القشور مكرراً الفاتحة الفاتحة ... الفاتحة للأموات والأحياء من أمثالنا ... الفاتحة ... متى نقرأ فاتحتكَ يا رفيق كورباتشوف ؟ فَلتَ من الموت ومن قبضة عزرائيل . قال ماذا تقصد ؟ ترك بلاده وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية متزوجاً من سيدة أمريكية كي تيسّر له الحصول على الإقامة الدائمة بالكارد الأخضر ، خُضرة سندس وإستبرق جنّات الخلود هناك ، متزوجاً ... من سيدة ... أمريكية ؟؟ نعم نعم نعم . رئيس الإتحاد السوفياتي السابق وزعيم حزبه الشيوعي يخرّب الأكو والماكو ثم يهرب إلى أمريكا ليُقيمَ فيها تحت مظلّة إمرأةٍ أمريكية ويُقالُ لنا إنَّ المرأةَ بلوى ونقمة وشرٌّ شاورْها وخالفْها وإنها هي لا غيرُها مّن ورّط أبانا الكبير آدم فخالف ربّه وعصى أوامره ونواهيه . قال لا أصدّق هذا الكلام . يتزوج في سن التاسعة والسبعين فماذا ستجد فيه عروسُه الأمريكية وماذا تركت راييسا لها فيه ؟ تركت لها فيه خيانته ونذالته وعبرةً لمن يبحث عن عِبِرٍ في الحياة . الأنذالُ والخونةُ كثيرون هذه الأيام وكلهم مستعدون للزواج من نساء أمريكانيات مقابل الكارد الأخضر الحشيشي اللون والرونق !! ضحك صاحبي وإنفرجت أساريره إذْ فهم قصدي وإلتقط الإشارة البليغة كما أردتها تماماً . قال سأتنازل ، ساقبل منك البيرة بدل الفودكا وليسقط الننل المتأمرك كورباتشوف وليسقط مرض تليّف الكبد. هات البيرة هات . أريد أنْ أسكرَ حتى صياح ديك الفجر كما صاح في أعالي قلعة ألسينور في الدنمارك إيذاناً بإختفاء الشبح ، فلا من شبحٍ حقيقي مع صياح ديكٍ حتى لو كان من صوف أو بلاستيك أو من قماش متخرّق . أريد أنْ أشرب نخبَ النذالةَ والأنذال ثم أبولُ عليهم جميعاً صغاراً وكباراً ، رؤساءَ ومرؤوسين . هل تأكل يا ضيفي شيئاً ؟ هزَّ رأسه َرافضاً الطعام . هل قليل من الحلوى ؟ قال كلا كلا . لا حلوى ولا زقنبوت. إشتعل الرأسُ شيباً والمعدةُ خمرا واليومً خمرٌ وغداً أمرٌ . شعرتُ بالجزع على ضيفي الذي لم أره خلال 57 عاماً إلا مرةً واحدةً . شعرتُ بشيءٍ من تأنيب الضمير . كان خطأً جسيماً مني أنْ أجمعَ الخمرةَ وموضوعاً كبيرَ الحساسية بالغَ الخطورة مثل خيانة كورباتشوف وهروبه ثم إلى أمريكا ، العدو اللدود السابق ! كيف أجنّبه متاعبَ الليلة وأنأى به عن همومها ؟ تركته مع بيرته وإتصلتُ بالصديقين الحلاويين صبيح سلمان موسى الحمداني وحكمت جابر تاج الدين . حضرا على متن بُراق خاص أخضرَ اللون حاملين معهما ما استطاعا حمله من ورودٍ ونبيذ وحلوى كعادة أهل هذا البلد . ذُهلَ الصديقان إذْ رأيا صديقنا المُعتّق والمُعتَق حديثاً مُنتفخَ الوجنتين محمّر العينين يتطاير ُ منهما شعاعٌ مثل شرر نيران جهنمَ . قام ، مع ذلك ، مرحباً بالضيفين مقبّلاً وهو قلّما يُقبلُ أحداً غير النسوان ... دعاهما للجلوس ومشاركته كؤوس البيرة طالباً مني إحضار ما يتوفر في ثلاجتي من طعام لهما . أسرف في كلمات الترحيب والمجاملة رغم تواضعه وإقتصاده في موضوع المجاملات وقول الكلام الجميل جِزافاً . ليس في هذا الأمر من غرابة إذْ أنه حلاويٌّ أصيلٌ يُحبُ الحلّة وأهلَها ويعشق كل ما فيها من جديد وقديم ويا طالما أخذ ثِلةً من صحابه أيام الصبا لزيارة آثار بابل مشياً على الأقدام وما كانت مثل هذه التمشيات الطويلة لتخلو من موضوع السياسة . كان معروفاً زمان دراسته في المدرسة المتوسطة ثم في ثانوية الحلة للبنين ، كان معروفاً جيداً بالنسبة لعناصر شرطة الأمن السرية ومحط أنظارهم ودوام مراقبتهم له في حركاته وفي سكونه حين يجالس قرناءه في بعض مقاهي الحلة وخاصة تلك التي كانت شبه مكرّسة ومخصصة لطلبة المدارس كمقهى السدير على ضفة نهر الفرات وغيرها . ما زال ، حتى اللحظة الراهنة ، ورغم كثرة ما قد تناول من كحوليات ، يتذكر من عناصر شرطة أمن ذاك الزمان كلاً من [ عمران ] و [ مسلم / تعاون فيما بعد مع الشيوعيين سرّاً ] و [ ناجي البصبوص الخفاجي / له ولدان شيوعيان ] كما إنه ما زال يتذكر قصته الطريفة مع الفرخجي بائع الشلغم شتاءً والدوندرمة صيفاً [ كاظم بربوك ] الذي شهد عليه أو قدم للشرطة تقريراً شفاهياً عنه أفاد فيه أنه قد رأى ممتاز كريدي مشاركاً في تظاهرة جماهيرية إحتجاجاً على معاهدة بورتسماوث بين العراق وبريطانيا [ معاهدة بيفن ـ صالح جبر عام 1948] . ثم كيف أنكر إفادته بعد أن هدده ممتاز تهديداً جديّاً ربما بقتله. كانت في حوزته يومئدٍ رشّاشة سترلينك بريطانية . المهم ، كان ترحيبه بالضيفين الحلاويين ترحيباً شديد الحرارة خاصةً وأنَّ السيد صبيح هو نجلُ أستاذنا ومربينا الفاضل السيد سلمان موسى الحمداني ، فنان ومدرِّس الرسم لعقودٍ وعقود في مدارس مدينة الحلة . أما الأخ حكمت فأكرمْ به من صديق وسليل العائلة الحليّة المعروفة [ تاج الدين ] . تمَّ النصاب إذاً ، نصاب الحلة الشهيرة بالباقلاء . أربعة حلاويين يشاركون في جلسة سمر خاصة مركزها وقطبُ رحاها السيد ممتاز سوى أنَّ الجلسة تفتقر إلى صحون ثريد الباقلاء المسلوقة بالدهن الحر مع البيض أو البطنج . ما رأيك يا تاج الدين ؟ ضحك ضحكته الطفولية المعروفة عنه ثم قال لا بأس بالشاورمة التركية الحارة

[ لحم عجل ] بدل الباقلاء . وأنت يا صبيح الوجه والخُلق ؟ سأكتفي بالبيرة ومزة الفستق ، قال ، وسنرى كيف سيكون الأمر في منتصف الليل . غمزني ممتاز بعينه ، وما أحلى غمزة عينه [ لفتاتهُ فراتيّةٌ وعيونُهُ غزالية / من أغنية لسعدي الحلّي ] ، ثم قال : حضر معنا ضيفان عزيزان فاجأتني بحضورهما ، البيرة لا تكفي وأنا ، لعلمك ، ما زلتُ صاحياً أرى الشخص ثلاثة أشخاص وليس أربعة ... وهذا هو مقياس ريختر ... ثم استدرك ليقولَ وهذا هو مقياس درجة السُكْر لدى الشرطة الالمانية ، ثلاثة أو أربعة ؟ ضحكنا جميعاً ثم أحضرتُ إكراماً لممتاز زجاجة { رُمْ } كوبي تركيز الكحولِ فيه 65 % عليها صورة كيفارا بلحيته الكثّة وما يعتمر في رأسه . علّق ممتاز ببهجة لا مثيلَ لها قائلاً : الآن الآن راق مجلسنا وصفا الجو بعد أن خلا من أشباح شرطة الحلة السرية زمان العهد الملكي ... سلامُ الله عليهم كانوا في مجملهم أخياراً ينفعون الناس ولا يظلمون الطلاب كثيراً في تقاريرهم . وكانوا يتقبلون الرشاوى مقابل انْ يغضّوا أبصارهم ويكتموا ما يعرفون . كانوا من فقراء الناس ولا من مورد للرزق لديهم غير هذه الشغلة الحقيرة . كان ما زال ممتاز يفهم ويفسرّ الحياة من منظور طبقي ماركسي ومعه كل الحق . خسر في حياته كلَّ شيء حتى إنه حُرمَ من حصته في الأرض التي حملت إسم شقيقه في أطراف الحلة . نظرته الطبقية وحسُّهُ الإنسانيُّ العالي ما زالا يتحكمان في طبعه ومسلكه فإنه كثير التواضع بادي الزهد راضٍ بما هو أقل من القليل . إنتماؤه للفقراء والمستضعفين في الأرض .. وإذا سأله سائلُ عن طائفته المذهبية أجاب بعد حَرَج شديد يشبه الحياء إنه لا يدري . إنه فوق المذاهب وفوق الطوائف قاطبةً . الفودكا طائفته والبيرةُ مذهبُه والخائنُ كورباتشوف عدوُّهُ . الآن يا ضيوف ، هل نباشر الشراب الكوبي الثوري الثقيل أم نترك هذا لممتاز يتنعمُ به كيفما يشاء بلا شريك أو عذول ونباشر الشراب المتواضع ، البيرة ، شراب عامة الناس وفقرائهم ؟ إحتجَّ ممتاز قائلاً إذا كانت البيرةُ شرابَ فقراء الناس فإني معها ولا من حاجةٍ بي للمشروبات الأرستقراطية الثقيلة الوزن والمفعول . سأجاملكم اليوم وأتواضع مكتفياً بالبيرة شرطَ أنْ أحملَ معي بعد الحفل زجاجة كاسترو إلى بيتي . غرقنا جميعاً بالضحك : أمسى صاحبنا لا يميز بين كيفارا وكاسترو! وهكذا تفعلُ الخمرةُ في رأس متعاطيها . قال وقد أدرك سبب ضحكنا : لستُ سكرانَ يا رفاق ، إنما لا أرى فرقاً في الحقيقة بين الرجلين . كلاهما ثوري نقي الثورية وأصيلها . أحدهما فارق دنياه وظل الثاني حياً متقاعداً مكتفياً بلحيته الكثّة وسيجاره الممتاز الذي كان يهديه لصدام حسين بالأطنان . هذا كوبي وذاك أرجنتيني . غاب الأرجنتيني جسداً لكنَّ صورته على صدور شباب العالم ( المتحضّر ) أو المتحجّر !

2ـ في خيمة هرون الرشيد وعبد الحميد
خصصنا الأمسية التالية لموضوع آخر لا علاقة له بأبي نؤاس وخمرياته ولا بكاسترو أو المرحوم كيفارا . حسب مقترح الصديق الصبيح الصبوح [ إبن أخينا المرحوم سلمان موسى الحمداني ] تقرر أنْ يجري الكلامُ عن بنات حوّاء وكيف أمضى ضيف الشرف الدكتور ممتاز فترةَ 57 عاماً [ 1952 ـ 2009 ] في ثلاثة أقطار أوربية هي النمسا وألمانيا الغربية ثم ألمانيا الشرقية ، الدمقراطية ، وماذا لاقى من مصاعب ومشاكل ومن متعلقات السياسة ولعناتها التي تضربُ البشرَ طولاً وعَرضاً فتُصيبُ فيهم أكثر من مقتل . مرّت خلال هذه الحقبة الطويلة على العراق أحداثٌ جِسامٌ لم يسلمْ منها أحدٌ لا في داخل العراق ولا مَن هُم في خارجه. تساوى في المحنةِ الداخلُ والخارج . توزّعت المصائب على الناس بالتساوي . فمن لم يمُتْ على أرض الوطن شنقاً أو إغتيالاً أو في زنزانة سجن أو أُسقِطَ سياسياً وجُرّدَ من إنسانيته وما يحمل من عقيدة نجا من الموت النصفُ الآخر ، نصف الخارج ، ولكنْ سُحب منه جواز سفره فأُغلقتْ مداخل العراق في وجهه وبات مشرَّداً يعاني من البطالة والجوع والحرمان من نعم الحياة المعروفة في البلدان الأوربية التي أمضى ممتاز فيها 57 عاماً . حدِّثنا يا ممتاز عمّا جرى لك في سياحاتك الإضطرارية في هذه البلدان . أعرف أنَّ الرجل يميلُ إلى تجنّب الكلام عن حياته الخاصة ربما طبيعةً أو تحفظاً وربما من باب التواضع أو حتى حياءً . كذلك أدري أنَّ تحفظه هشٌّ بسبب تواضعه وعفة طبعه ، أعني إنه يفتح صدره وينفتح حين يواجه ضغطاً من صديق يثق به . هذه هي الثنائية التي تحمل الوجهين معاً : التحفظ والتواضع . لا يستطيعُ المتواضعُ أنْ يظلَّ متحفظاً على الدوام .. فكيف إذا ما أضفنا للتواضع فضيلة الصدق في القول والنوايا ، الصدق البللوري في صفائه ووضوحه فممتاز ضد العَتمة والظلام وضد كلَّ ما من شأنه تعكير الحياة أو تعقيدها أو تخريب جمالها وإتزانها أو الإطاحة بهندسة مسيرتها وإنسجام سياقاتها الطبيعية . إنه رجلُ ( الهارموني ) المثالي فأين المثالية في زماننا المتعكّر هذا ؟ قال أمضيتُ ثلاث سنوات في العاصمة النمساوية فيينا درستُ خلالها الإقتصاد لكني أُجبرتُ على ترك دراستي والنمسا بعد أنْ سحبت في خمسينيات القرن الماضي حكومة الزمن الملكي جواز سفري بسبب مشاركاتي المتعددة في مهرجانات الطلبة والشبيبة العالمية في موسكو ووارشو وبخارست وغيرها من العواصم . وأيَّ بلد أو مدينة إخترتَ وقد غادرتَ العاصمة الجميلة فيينا الشهيرة بلياليها وموسيقاها ونبيذها وقد تغنّتْ بها أسمهان الأطرش ؟ قال وقد تنهّد طويلاً وعميقاً إخترتُ مدينة كولن في ألمانيا الغربية لكي أواصل دراسة ما بدأت في فيينا ، الإقتصاد . بقيتُ ، قال ، في هذه المدينة حتى عام 1971 حيثُ إنتقلتُ للعمل ثم الدراسة في مدينة لايبزك في ألمانيا الدمقراطية كما كانت تُسمّى عهدَذاك . وكيف إنتقلتَ من النمسا إلى ألمانيا الغربية ثم الشرقية وأنت مجردٌ من جواز سفرك العراقي ؟ تهريباً مرةً وبجوازات سفر مزوّرة مرّاتٍ عدّة . وهل زرتَ بهذا الجوازات المزوّرة بلداناً أخرى ؟ كثيرة ، أجاب. زرت بها سوريا للقاء المرحومة والدتي في بيروت حيث كانت هناك تنتظرني لكنَّ شرطة الحدود اللبنانية فاجأتني أني ممنوعٌ من دخول لبنان . حاججتُ الضابطَ المسؤول قائلاً إني جئتُ من المانيا لأرى والدتي وإني لستُ مهرّباً وقد فتشتم حقيبتي . قال : لك شو عم تحكي ؟ المسألي مش حكاية تهريب ... كِل ما في لبنان مهرَّب وكل اللبنانيين مهربين ... مشكلتك مع وزارة الداخلية فقد وضعتك في القائمة السوداء قائمة الممنوعين من دخول لبنان . وهكذا ، قال ممتاز، ضاعت عليَّ فُرصة أنْ أرى والدتي التي كانت تنتظرني في بيروتَ على أحرِّ من الجمر ولا تعرف حقيقة ما جرى لي على الحدود فأخذت تضربُ أخماساً بأسداس . وكم جوازاً من شاكلة هذه الجوازات قد حملتَ ؟ أردنياً وتونسياً ثم يمانياً أصلياً بعد أنْ عملتُ في سفارة اليمن في المانيا الدمقراطية . وهل زرتَ بأحدها بلاد الإنكليز ؟ أجل ، قال ، زرت مرةً لندن . أتعبتُ بأسئلتي وإستجواباتي ضيفي العزيز ممتاز فجهزتُ لضيوفي ما تيسرَّ من طعام مع الشاي الثقيل . وبعد الإستراحة تناول الدفّةَ الأستاذ صبيح فسأله ممازحاً مازجاً الجد بالهزل : وماذا عن الجانب الآخر من حياتك ، الجانب الرومانسي ، هل قضيتَ حياتك تحيا على هوامشها أم كانت لديك مغامرات وغراميات كشأن باقي البشر ؟ غاص ممتاز في حيائه وحاول التملص والهروب من الإجابة عن هذا السؤال ولكنْ هيهات هيهاتَ ولا مُناص من الإجابة . هل أنت معنا أخانا حكمت أم أنك تعفي ممتاز من مسؤولية الإجابة عن هذه الأسئلة ؟ قال القرار إنما قرارُ أخينا ممتاز فإنْ شاءَ أجابَ وإنْ شاءَ أعرضَ . تناول ممتاز قدحَ شايه وشرع يترشفُ ما فيه على مهل ورويّة كأنه يحاولُ كسبَ بعض الوقت ليفكّر ثم يقرر كيف يُجيب. إنه موافقٌ من حيث المبدأ على الإجابة ولكنْ كيف ؟ إقترحتُ انْ نٌرجئ أحاديثنا الجادّة هذه حتى لقاء آخر فقد أثقلنا على ضيفنا دونما رحمةٍ وأكثرنا من الأسئلة حول جوانبَ من حياته غير معروفة . وافقَ الربعُ على مقترحي ولكن بشرط : قال حكمت تاج الدين لديَّ سؤال أود طرحه على الدكتور ممتاز في هذه الجلسة إذْ لا أطيقُ عليه صبراً . قال ممتاز تفضّلْ أستاذ حكمت .. حدثّنا عن ظروف سفرتك إلى موسكو وهل زرتها وحيداً ولأية مناسبة زرتها ؟ إنبسط ممتاز خلافاً لما كنتُ أتوقعُ فأراح ظهره على مسند كرسييه لكنه طلبَ شيئاً من البيرة القوية . معه حق ، ذكريات جميلة ثم موسكو مدينة البرد والثلوج شتاءً وما إكتنفَ تلك السفرة من مغامرات ومفاجآت . إنبسط أكثر بعد أنْ تناولَ جرعةً كبيرة متواصلة من كأس البيرة ثم شرع يتحدث كأنه يؤدي إمتحاناً واثقاً من النجاح فيه . كنتُ وقتها ، قال ، في فيينا حين جاءتني دعوة للمشاركة في مهرجان الطلبة والشبيبة الذي سينعقد في موسكو صيف عام 1957 . سافرنا حسب البرنامج وكان معي السيد غضبان السعد وحين وصلنا مطار موسكو كان في إستقبالنا مجموعة أشخاص كان فيهم إبنا الحلة الدكتور المرحوم صفاء الحافظ وفلاح أمين الرهيمي . غاب ممتاز عنّا عميقاً وطويلاً فأحسستُ أنه أو كأنه يريد أن يتجاوزَ أمراً ما كان مسروراً منه حينذاك. لم أتدخلْ ولم أسالْ . واصل كلامه وقد عاد إلينا فقال وحين عدتُ إلى فيينا سحبت الحكومةُ العراقيةُ جواز سفري فحُرِّمَ على أهلي في الحلة حق تحويل المبالغ النقدية التي كانوا يمدونني بها لمواصلة دراستي . بعد زيارة موسكو بدأت متاعبي وبدأتُ صفحاتِ سِفرٍ جديد طويل شديد القسوة قادني من تشرّدٍ لآخر ومن بلد لآخرَ غيره وهكذا أنا كما ترونني أمامكم . ضحك حكمت ثم قال أراك في أفضلِ حالٍ منّا جميعاً . إبتسم ممتاز ولم يعلّق كأنه أراد أنْ يقولَ [[ تيه بدلالكْ تيهْ وآنه بأذيةْ // جاهل وأنا العصفور تلعبْ عليَّ . كلبكْ صخرْ جلمودْ ماحنْ عليَّ // إنتَ بطربْ وبكيفْ والبيةْ بيّةْ ]] .

أنهينا مجلسنا على أنْ نستأنفه مساءً نقضيه في رحاب وتحت أجواء ليالي هرون الرشيد مع قصص وغصص ممتاز مع الجنس الآخر وهل تزوّج ومتى وكم مرةً تزوّج وهل أنجب وأسئلة أخرى غيرها أو متشعبة عنها .. في الساعة السابعة مساء وحسب الإتفاق حضر صبيح وحكمت لكنَّ محور اللقاءات لم يحضر ! هل تخلّف مؤقتاً عن الحضور ؟ كلا ، إنه غاب . حديث النساء ثقيلٌ عليه لذا ظلَّ أمرُهُ مجهولاً أو كالمجهول لأهله وأصدقائه كافّةً .

3ـ حوارٌ قديمٌ منسيٌّ
تحلو المجالس ويحلو الحوار مع الدكتور ممتاز كامل كريدي ، أحد أبناء مدينة الحلة [ بابل ] الذي غادر الحلة والعراق في مطلع خمسينيات القرن الماضي ليقيمَ في ألمانيا الغربية سابقا ثم الشرقية فألمانيا الموحَّدة اليوم . أكمل ثانوية الحلة للبنين / الفرع الأدبي / وهو في الثامنة عشرة ليبلغ اليوم السادسة والسبعين ، عُمر ... عُمر ... ها يا فلان ! له في مدينته الحلة ذكريات طويلة عريضة غنية بالأحداث والمفاجآت وله فيها أصدقاء ومناضلون سياسيون معروفون ما زال بعضهم على قيد الحياة .. اتحادث معه بالتلفون فيثير عجبي كيف لم ينسَ حتى أصغر الأمور المتعلقة بتلك الحُقبة القصيرة التي أمضاها في الحلة . لم ينسَ ناسها صغيرهم وكبيرهم ، المتواضع والثري ، المغمور والمشهور ، لم ينسَ زملاء دراسته الإبتدائية في المدرسة الشرقية أو دراسته في متوسطة الحلة للبنين ولا زملاء ثانوية الحلة للبنين حيث أنهى بكالوريا الخامس الثانوي كما كنا نسميها يومذاك . له ذكريات طريفة مع عناصر شرطة الأمن السريّة بشكل خاص بسبب نشاطه السياسي يومذاك فهو يعرفهم واحداً واحداً بالأسماء كما يعرفونه هم جيداً لكثرة ما أنفقوا من أوقات في مراقبته وإحصاء أنفاسه وما كتبوا عنه من تقارير سرية كما كان دأبهم يومذاك مع كل ناشط سياسي أكان طالبَ مدرسة أو عاملٍ أو مدرّس . لا أعرف عنه أنه دخل السجن كما دخله العديد من رفاقه وأصدقائه لكنه أخبرني أنه فُصل من دراسته عاماً واحداً حين كان ما زال طالباً في ثانوية الحلة للبنين . ما كان له في مدينته أعداءٌ ولا خصومات ولا دخل في شجارات أو مهاترات والفضل في ذلك كما أرى لتربيته البيتية أولاً ثم لدماثة خلقه وسعة دائرة معارفه وأصدقائه وطبيعته اللينة المرنة الهادئة . لعل من المفارقات البيّنة أنَّ ممتازاً هذا جمع الأضداد فيما يخص علاقاته الحميمة مع أصدقائه . فهو الشيوعي المعروف للشرطة وغيرالشرطة ما كان بعيداً عن أبناء العوائل الثرية في الحلة ولا حتى مع أبناء بعض كبار إقطاعيي العهد الملكي حيث عقد معهم علاقات صداقة متينة راسخة ما زالت قائمة حتى اليوم . كيف إحتملهم بل وكيف إحتملوه ؟ كيف إحتمعت الأضداد فيه وكيف نجح في إدامة مثل هذه العلاقات ؟ أية مواضيع كانت تجمعهم وهم على طرفي نقيض في كل مسألة حياتية ؟ هو في أقصى اليسار وهم كانوا في أقصى اليمين . هل جاهر أمامهم في معاداته للإقطاع أو الإستعمار البريطاني وهم كانوا ركيزته وأداة سيطرته السياسية في عراق ذاك الزمان إذْ كان منهم نواب البرلمان ومنهم أغلب وزراء ورجالات ذلك العهد . ما زلتُ أتذكره خلال مرحلتي الدراسة الإبتدائية والمتوسطة إذْ كان يسبقني بثلاث سنوات دراسية وكان زميلاً وصديقاً لأخي قحطان . كان صديقاً للطلبة ناشطاً بينهم وبين صفوفهم ودوداً أنيق المظهر في وقت كانت فيه الأقمشة والملابس الجيّدة نادرة في أواسط أربعينيات القرن المنصرم وخلال وبعد الحرب العالمية الثانية. ثم كان شديد الإهتمام بتصفيف وتمشيط شعر رأسه حتى إنه كان يضع على رأسه شبكة خاصة حين يأوي إلى فراشه ... ولعله ما زال مواظباً على هذه الطريقة فشعر رأسه الأبيض [ إشتعلَ الرأسُ شيبا ] لم يزلْ حتى اليوم شديد الكثافة ثم إنَّ أسنانه عامرة في فمه فهل يغطيها بشبكة خاصة حين ينام ؟ أتذكره جيداً إذْ أزورُ أخي قحطان في متوسطة الحلة للبنين فأجدهما يزاولان لعبة كرة المنضدة ( بينك بونك ) بعد الدوام وكان بارعاً فيها حيث ينتصر على كلِّ مَن يتحداه عدا زميله غازي ، فكان هذا لا يُبارى في هذه اللعبة ولا يُجارى وإذا خسرَ لعبة كسر المضرب وضرب الحائط برأسه .

الآن ، حضر الصديق ممتاز كامل كريدي العزاوي الحلّي وكان ـ كما إتفقنا ـ مستعداً للإجابة على أي سؤال أطرحه عليه . بدأتُ بموضوع العملية الجراحية المعقدة الأخيرة التي أُجريت لإستبدال بعض شرايين قلبه وهل لها مضاعفات وكيف حاله اليوم بعد العملية . أجاب بإقتضاب وتواضع لأنه لا يحب الكلام عن نفسه . قال : كل شئ تمام فأنا سليم قوي معافى . ترددتُ كثيراً قبل أنْ أفتحَ معه موضوعاً عائلياً خاصاً دقيقاً ذا شجون . لكنَّ هدوءَه وطيبته وثقته بي وبنفسه وتعلقه بمدينتا الحلة شجعتني أنْ أمضي قُدُماً فأسأله عما أصابه مما ترك المرحومُ والده كامل كريدي العزاوي من تركة وإرثٍ ولا سيّما قطعة الأرض الكبيرة التي عُرِفت فيما بعد بحي نادرعلى جانب الطريق الرئيس الذي يربط الحلة بمدينة الكفل ثم النجف . نادر هو ثاني شقيقيه والوسط بين أخوته . شعر ممتاز بالكثير من الحَرَج حتى لقد إحمرّت وجنتاه فتردد كيف يُجيب وبمَ يُجيب . قال بهدوء وإقتضاب : لم أحصلْ مما ترك والدي على أي شئ !! ولا حتى قطعة أرض جرداء فيما يُسمّى بحي نادر ؟ لا شئ لا شئ ! أجاب . أنا أعرف أنَّ الأخ المرحوم نادر كان أوائل ستينيات القرن الماضي يُهدي هِبةً [ برمكيّة ً ... كما يقول أهل الحلة ] بعضَ الناس قطعاً من هذه الأرض ليشيدوا عليها دوراً لهم فكيف نسيّ شقيقه ؟ كان هذا الموضوع ثقيلاً على ضيفي فأدرتُ الحديثَ صوبَ ناحيةٍ أخرى . طيّب يا صديق ، هل ساعدك أحدٌ من أهلك في الحقبة الأولى لوصولك أوربا سواء في العاصمة النمساوية فيينا أو في المانيا ؟ قال في سنواتي الأولى في فيينا نعم ، ثم إستحال وصول التحويلات المالية من أهلي بعد سحب جواز سفري . بعد ذلك لم أطلبْ مساعدةً من أحدٍ بل وما كنتُ أتوقعها أصلاً . غامرتُ معتمداً على نفسي فقط . طيّب ، كم مكثتَ في فيينا ولِمَ لمْ تظلَّ هناك للعمل والدراسة حيث سبقك زميلك وصديقك القديم إبن الحلة ومحلة الجامعين السيد شجاع علاء الدين القزويني حيث مكثَ هناك ودرس الطب وتزوج من سيدة نمساوية ؟ قال كانت ظروفنا مختلفة فقد كان شجاع يستلم بإنتظام مساعدات منتظمة سخيّة من أهله في الحلة ، من عمّه أبي فخري وبدري وفائق السيد مرزة القزويني . وكان شريكاً لهذه العائلة فيما ورثوا من آبائهم وأجدادهم فلم يغمطوا حقوقه ولم يظلموه . هل إلتقيتَ بصديقك القديم السيد شجاع القزويني في فيينا ؟ قال بل وساعدني لدى وصولي في أمور كثيرةٍ حتى إنه أستضافني في بيته رغم وجود صديقته النمساوية معه . أتذكّرُ السيد شجاع جيداً ، كان يسبقني في سلّم الدراسة بثلاثة أعوام ، وكنتُ معه وأخي قحطان نرتادُ بعض مقاهي منطقة الجامعين القريبة من نهر الفرات للدراسة على عادة ذاك الزمان ... أخصُّ بالذكر مقهى الشيخ شاكر والد الفنان محمد علي الذي درس فن الرسم في إيطاليا . أتذكر كيف كان شجاع شديد الحرص على نظافة وسلامة أسنانه . كان يحمل في جيب { دشداشته } الفرشاة ومعجون الأسنان فإذا جاع أكل الكبدة المشوية { معلاك أو فشافيش } ثم سارع على عجلٍ لينظّفَ أسنانه وكانت في حديقة مقهى الشيخ حنفية ماءٍ جارٍ . لذا أتوقعُ أنْ تكونَ أسنان شجاع سليمةً بالتمام حتى اليوم ... كما هو الحال مع شعر رأس ضيفنا ممتاز . هذان نموذجان رائعان لجيل ذاك الزمان . غادر شجاع العراقَ صيف عام 1951 ثم عاد إليه طبيباً ليفاجأ أنَّ عليه أنْ يخدمَ العلمَ العراقي فسيقَ جندياً ـ طبيباً ثم صدر بعد ذلك أمرُ تعيينه طبيباً في قصبة الإبراهيمية ( الدبلةْ ) بين الحلة والقاسم . من فيينا للدبلةْ !! يا للمصيبة !! لم يُطقْ شجاعُ هذا الوضع فعاد أدراجه سريعاً إلى النمسا وأقام هناك حتى اليوم . لذا ، كما أحسبُ ، قرر ممتاز أنْ لا يعودَ لوطنه العراق الذي لا يعرفُ قدْرَ أبنائه ولا يُقيمُ لهم وزناً ... كان الحال كذلك ولم يزلْ هو هو كما كان !! كان شجاع يهتم بأسنانه وكان ممتاز يهتم بشعره فأيهما أكثر أهميةً للإنسان ، الأسنان أم شعر الرأس ؟ أجبْ يا أيها الممتاز ، أجبْ نيابةً عن صديقك شجاع وأصالةً عن نفسك . أجبْ لأنك لا شكَّ على علم بسؤال الشاعر والمسرحي الألماني برتولد برخت في إحدى مسرحياته المعروفة ... كان سؤالاً مُحرِجاً غريباً لا يتوقعه قارئ أو مشاهدُ المسرحية ففيه من السخرية بقدر ما فيه من دعابة . لا أستطيعُ ذكرَ هذا السؤال ، أتركه للصديق الأستاذ حسن ذو الفقار ، صديق برخت وممتاز معاً .

هل نعودُ مع ممتاز لمدينة الحلة وذكرياته فيها أم نبقى نتحاورُ في ألمانيا ؟ قال ممتازُ ما دمتَ قد ذكرتَ إسمَ أخينا حسن ذو الفقار وما دمنا ما زلنا معلقين بين المانيا وفيينا فأرى من المناسب أنَّ نتطرق لذكر صديق تعرّفتُ عليه في فيينا وإستمرت علاقاتنا حميمةً حتى اليوم ، إنه كذلك صديق ذي الفقار . مَن هو يا ممتاز . إنه (مُنذر محمود جلال) ! منذر محمود جلال ؟ تساءلتُ كأني لا أصدّقُ ما سمعتُ . لاحظ ممتاز دهشتي وإستغرابي فسألني ما خبرك مع هذا الرجل ؟ لقد أمضى معي عاماً كاملاً في ثانوية الحلة للبنين زمن أنْ أصبح زوجُ شقيقته الفريق نور الدين محمود رئيساً للوزراء خريف عام 1952 فأصبح أخوه سعدي قائم مقام قضاء الهندية ( طويريج ) . جاء الحلةَ من بغداد كطالب مستمع . فوجئ ممتاز بهذه المعلومات. قال هل أنتَ متأكد من صحة هذه المعلومات ؟ بل وأكثر من متأكد ، تفضلْ واساله عن صحتها . قال عجيب ، إنها هي الأخرى مفاجأة كبيرة كشأن الكثير من الأمور في الحياة . ثم ما تعرف عنه ما دام قد قضّى عاماً دراسياً معك في ثانوية الحلة للبنين ؟ كان ودوداً أنيق المظهر وسيم الوجه يجامل زملاء صفه جميعاً لكنه إختارني أنا وزميلاً آخر مقرّبين له جاء مثله من بغداد كطالب مستمع إسمه أحمد الجمعة من سكنة الكرادة الشرقية في بغداد . ثم غادر العراق إلى النمسا مباشرةً وبقيَ حتى اليوم هناك ولا أعرف عنه شيئاً غير ما ذكرتُ . هزَّ ممتازُ رأسه لا يدري ما يقول ولا كيف يسالُ أو يعلّق فالمفاجأة كبيرة . هل تعرفه جيداً يا ممتاز ؟ قال أجل ، إنه صديق مقرّبٌ لي كما هو مقرّبٌ من حسن ذو الفقار .

بعد الشاي الثقيل سألته عن أوجه نشاطاته في حقلي الأدب والترجمة وهل نشر كتباً في هذين الحقلين أو نشرَ أبحاثاً رصينةً موثّقة وكيف فاته أنْ يعملَ في بعض الأقطار العربية أستاذاً للغة الألمانية مثلاً ؟ قال إنه ، لأسباب لا مجالَ لذكرها ، لم ينشرْ كتباً في إختصاصه وما جاورَ هذا الإختصاص لكنه نشر وخاصةً في السنين الأخيرة بعض الترجمات عن الألمانية إلى اللغة العربية وخاصةً أشعار غوته وشيللر وهاينة وريلكةْ . تابعتها وقرأتها منشورةً في بعض المواقع يا دكتور ممتاز وكنتُ معجباً بها كإعجابي بترجمات الدكتور بهجت عباس علي الذي يترجمُ عن الألمانية والإنكليزية إلى العربية . قال أتابع ترجمات الدكتور بهجت ولديَّ عليها بعض الملاحظات قلتُ له عليك أنْ تكتب له وتُشيرُ إليها فسيكون الرجلُ ممتنّاً لك ثم ، إنَّ له كذلك بعض الملاحظات على بعض ترجماتك وقد إقترحتُ عليه قبل بضعة أيامٍ أنْ يكتب لك معلّقاً على هذه الترجمات فقال بهجت بكل ما فيه من أدب جمٍّ إنه يخشى أنْ ترفض ملاحظاته أو أنْ تغضبَ أو تزعل فطمأنته أنَّ ممتازاً رجلٌ على خُلقٍ عظيم يتقبل كلَّ نقدٍ ولا يخشى من كشف أيِّ خِلةٍ في ترجماته . ولخشيةٍ على قلبه كان ممتاز مقتصداً جداً في تناول اقداح الشاي ... أما أنا فقلبي سليم معافى يدقُّ بإنتظامٍ وقوّة كما كان شأنه زمانَ فورة الصبى وأوائل الشباب حتى إنه يتذكرُ كلَّ نبضةٍ عنيفة ومَن التي سببتها . هل نواصل أحاديثنا هنا في بيتي أو نتمشى قليلاً في الغاب المجاور ثم نرتادُ بعد التمشّي مقهىً هادئاً نحتسي فيه بعض البيرة ؟ نهضَ ضيفي فنهضتُ معه . في الغابة كان رأسي محتشداً بالكثير من الأسئلة حول ماضي ممتاز سواء في مدينتا الحلة الفيحاء أو في ألمانيا . يحتاج هذا الأمرُ لا ريبَ إلى الكثير من الوقت والكثير من اللقاءات ولعل مزاج ضيفي يبقى كما هو رائقاً شفافاً متسامحاً ليستوعبَ المزيد من الأسئلة والنقاشات . كان العراق خلال الأعوام 1948 ـ 1952 زاخراً بالأحداث السياسية والإجتماعية والحلة جزء من العراق فكان ضيفي الحلاوي العزاوي شاهدَ عيانها ومشاركاً فيها بنشاط .

ملاحظة : فقد الدكتور الصديق ممتاز كريدي عزيزين من أفراد عائلته عليه بعد سقوط صدام حسين ونظام حكمه في العراق . فقد أُغتيل إبن شقيقه نادر المرحوم باسل سويةً مع الصديق السابق المرحوم قاسم عبد الأمير عجام . ثم قتل الجنود الأمريكان شقيقه الأكبر الضابط المتقاعد ثمَّ المدير العام زمن طاهر يحيى المرحوم فاهم كامل كريدي وكان في سيارة مع مجموعة من أصدقائه متجهين لقراءة الفاتحة على روح صديق لهم في مناطق أبي غريب في ضواحي بغداد !!
 

كانون الثاني 2009
 

free web counter