| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر

 

 

 

 

السبت 30 /6/ 2006

 

 


مع الراحل سعود الناصري
 

عدنان الظاهر 

إلتقينا لأول مرة في شهر أيلول عام 1962 في موسكو إذ كنت قد وصلتها حديثاً قادماً من العراق لدراسة كيمياء التحولات النووية في جامعة موسكو لحساب الوكالة الدولية للطاقة الذرية . ضرب لي موعداً محدداً للقاء يتم بيننا في القسم الداخلي حيث كان يقيم . كان حينذاك يدرس الموسيقى في الكونسرفاتور الوطني . وصلت مكان اللقاء في الوقت المحدد ففاجأني بإلغاء اللقاء ولم يبين الأسباب . ترك لي هذا الأمر إنطباعاً ملتبساً حول سعود الناصري . كان في وقتها عضواً في الهيئة الإدارية لجمعية الطلبة العراقيين في الإتحاد السوفييتي . حان بعد ذلك بفترة قصيرة موعد إنتخابات الهيئة الإدارية الجديدة . سألني رأيي فيه المرحوم الحلاوي ( هادي الحاج حسون الذي كان زميلاً لسعود في الهيئة السابقة ) كمرشح ثانية ً للهيئة الجديدة . أعطيته عنه إنطباعاً غير جيد . قلت له إنه معزول عن جماهير الطلبة . رفض هادي الحاج حسون حجتي ودافع عنه بالقول : بالعكس ... إنه وجه طلابي محبوب ومعروف . وبالفعل ، دخل سعود الهيئة الإدارية الجديدة . لم نلتق بعد ذلك إلا خلال المؤتمرات السنوية التي كانت تنعقد في خريف كل عام دراسي في إحدى قاعات جامعة موسكو . أذكر مرة ً ضمتنا أمسية خاصة تمت في مطعم أساتذة جامعة موسكو حيث قام الزميل المرحوم ( كريم الراوي ) بإعداد أكلة عراقية كدأبه في مثل هذه المناسبات . لا غرابة ، كان كريم قبل مغادرته العراق لدراسة الأدب الروسي يمتلك مطعم الشمس الواقع في باب المعظم في بغداد . حدثت في هذه الأمسية مفاجأة طريفة : طلب المرحوم ( محمد علي عبد الكريم الماشطة ) من الزميلة ( سلوى زكّو ) التي كانت تجلس إلى يمينه أن تغني للحضور إحدى الأغنيات ، فقد كانت معروفة بصوتها الجميل وأدائها المتقن لأغاني فيروز بشكل خاص . قامت سلوى فغنت أغنية محمد عبد الوهاب // فيروز [ خايف أقول اللي في قلبي تسأم وتعند ويايه ... ولو داريت عنك حبي تفضحني عيني في هواي َّ ] . كان المرحوم سعود الناصري في تلك الساعة حاضراً معنا ويجلس إلى شمال محمد علي الماشطة . دار همس ما بين بعض الحضور أن َّ السيدة سلوى زكو غنت هذه الأغنية خصيصا ً لسعود الناصري . وكان الماشطة صديقاً ورفيقاً حميماً لكليهما . بعد فترة غير قصيرة سمعنا بزواج سعود من سلوى زكو. ما كانت الصفقة يسيرة وناعمة الملمس فقد تخللتها ملابسات وظروف لا يعرف تفاصيلها إلا المقربون منهما وخاصة الزميل يومذاك الماشطة . مرت السنين فإنتقل سعود من قسمه الداخلي القديم للسكن في الأقسام الداخلية لجامعة موسكو بعد أنْ لم يستطع تحقيق النجاح المطلوب في دراسته للموسيقى وتحوله لدراسة الصحافة . دعاني والماشطة ذات مساء إلى شقته الجديدة في جامعة موسكو فوجدتها شقة كبيرة رأيت فيها جهاز( بيانو ) ضخم جداً . كان يعاني من متاعب في معدته عزاها إلى غياب زوجه سلوى [ سماها أم عمّار ] التي ـ كما قال ـ عودته على تناول أكلات عراقية معينة جيدة. ما كانت سلوى معنا في الشقة حينذاك .
مرت أعوام أُخر ُ فإلتقينا في أحدى غرف إذاعة راديو موسكو / القسم العربي . كنت قد فرغت للتو من تسجيل قصيدة شعر حسب طلب بعض مسؤولي الإذاعة من الشباب الذين كانوا يزورون الطلبة الأجانب في أقسامهم الداخلية لتسجيل رسائل للأهل . خرج الشاب الروسي من غرفة التسجيل فدخل سعود الناصري ( وكان يعمل حينها في هذه الإذاعة ) ... حياني وغادر ليدخل الروسي ثانية ً ومعه مفاجأة كبيرة : قال سوف لن تُذاع القصيدة . ثم سألني أكان معي أشعار سياسية ؟ قلت له لا ... إتفقنا حين زرتَ أقسامنا الداخلية أن أقرأ اشعاراً رومانسية فقبلت . سألته ما سبب هذا الإنقلاب المفاجئ فقال دون تريث وعلى الفور وبصراحة فأجأتني وأحرجتني : أنت تعرف لا شك َّ بوجود نشاط { ماوي صيني } معاد ٍ لسياسة الإتحاد السوفييتي ... ولم يزدْ . أقفلت الموضوع وغادرت الأستوديو بدون كلمة وداع !! إتهمني هذا الشاب ضمناً أني ( صيني / ماوي ) معاد ٍ للإتحاد السوفييتي وما كنت يوماً كذلك !! .
كنت أوائل صيف عام 1968 أراجع الملحقية الثقافية العراقية في موسكو بخصوص أمر يتعلق بإنهائي لدراستي وأبحاثي في الجامعة . كنت في مكتب معاون الملحق السيد ( عبد الستار الدوري ) إذ دخل سعود الناصري وجلس معنا فظهر لي أن الدوري يعرف الزميل المرحوم سعود الناصري إذ سأله عن (( عبد السلام الناصري )) وما كنت أعرف صاحب هذا الإسم . سألت سعود فرد بإقتضاب شديد قائلاً [[ فد واحد ]]. علمت فيما بعد أن َّ عبد السلام الناصري هو عم سعود .
إفترقنا ... أكملت دراستي وغادرت موسكو إلى جامعة كالفورنيا لإتمام أبحاثي في حقل الكيمياء النووية . رجعت إلى العراق وتم تعييني بعد عذاب وعراقيل ومشقات مدرساً في كلية العلوم / جامعة بغداد . حدث لقاء مع سعود آخر مفاجئ هو الآخر . زرت مكاتب جريدة الجمهوية مساء السابع من شهر حزيران عام 1972 لأنشر خبر وفاة والدتي وموعد إقامة مجلس الفاتحة على روحها الطاهرة . إنتظرت في حجرة الإستعلامات قليلاً وإذا بسعود الناصري يطل علينا باسماً كعادته مرحباً . بينت له الغرض من زيارتي للجريدة . تبين إنه هو المسؤول عن نشر الإعلانات في الجريدة . أمليت عليه صيغة الإعلان عن موعد ومكان الفاتحة وسألته عن مبلغ الأجور فقال المرحوم : لا نأخذ منك أجوراً . وبالفعل ظهر الإعلان صباح اليوم التالي .
وكرّت السنون سريعا ً فإلتقينا مرة ً أخرى عام 1976 في الحفل الذي أقامه الحزب الشيوعي العراقي في نادي نقابة المعلمين في المنصور على هامش المؤتمر الثالث . كنتُ ضمن فريق مستقبلي كبار الضيوف فجاء عامر عبد الله وجاء بعده عزيز محمد ثم جاءت نزيهة الدليمي وماجد عبد الرضا والدكتور رحيم عجينة . ثم حضر وزير الداخلية ( عزت الدوري ) ممثلاً لحكومته وحزبه . لفت نظري هياج وعصبية الدكتورة نزيهة وماجد عبد الرضا ولم أستطع معرفة الأسباب ولم أر َ ما يبررها . أخجلني تواضع عامر عبد الله إذ وضع كفه في كفي وقادني نحو قاعة الأحتفال . أما عزيز محمد فقد أضحكني حقاً . إستقبلته وعرفته علي َ فقال مرحباً بادي السرور والغبطة بمعرفتي : ما شاء الله ما شاء الله !! زعيمنا يلفظ إسم الله !! أمر لم أكن أتوقعه . ثم جاءت المرحومة الممثلة ( زينب ) سألتها مازحاً أين زميلك ( يوسف العاني ) !! قالت إنه إعتذر عن المجئ ثم أضافت همساً [[ إنه يخاف ]] . مفاجأة أخرى : إقترب مني المرحوم الشاعر ( رشدي العامل ) في فترة الإستراحة ليحذرني من معلم وقف ليس بعيداً عنا . قال إنه بعثي وإنه أحد أبناء الشاعر محمد صالح بحر العلوم !! قلت له لا نخاف منه . ليس لدينا ما نخافه . ثم قلت له مداعباً : متى تتوقف عن مراهانات سباق الخيل (( الريسز )) ؟ قال ذلك أمر مستحيل . قلت له سأخبر عنك شقيقتك الست ( جمانة ) ... مط َّ شفته السفلى علامة اللامبالاة ثم قال : ( كلها ... أي قل لها ) . كنت أعرف أنه يأخذ نقوداً من شقيقته وهي زوج الصديق العزيز والزميل الأستاذ الدكتور ( سامي السامرائي ) .
في فترة الإستراحة هذه جاءني المرحوم سعود الناصري باسماً ودوداً ثم همس في أذني قائلا ً : أنا قمت بتلحين موسيقى الرقصة والأناشيد . وكانت فرقة الحزب قد قدمت عروضاً مذهلة ورأيت من بين فرقة الإنشاد المرحومة الدكتورة ( صبيحة الخطيب ) .
ثمة مفارقة أخرى غير متوقعة : كنت أستقبل الضيوف في مدخل بناية نقابة المعلمين وإذا بالأخ الأستاذ ( رضا الظاهر ) ... سألته مازحا ً ماذا تعمل هنا ؟ رد سريعا ً : وماذا تعمل أنت هنا ؟ ذكرته بهذه الحادثة أواخر شهر آب من عام 2000 في ديوان < كاليريه > الكوفة في لندن . قبل يومين وصلني هدية ً منه كتابه القيم [[ موضوعات نقدية في الماركسية والثقافة ]] .
كنت في مكتب الدكتور ( عماد سلمان جاسم الحمداني ) في لندن أوائل شهر آيلول 1998 حيث قدمت مساء اليوم التالي بعض أشعاري أمام المنتدى الثقافي العراقي في بريطانيا ... ففوجئت بسلام يأتيني من المرحوم سعود الناصري أثناء مكالمة تلفونية بينه وبين دكتور عماد . إعتذر عن حضور أمسيتي بسبب مرض أو وفاة والدته .
هذه مسيرتي المتواضعة جداً مع الراحل سعود الناصري . لم أسمع بمرضه وقد إنقلبت الدنيا حين أجرى الدكتور عبد الأله الصائغ في أمريكا عملية جراحية للقلب ولم يبق عراقي لم يسمع بأنبائها ...!! لا أعرف لِمَ لم يجر ِ العملية في لندن بدل دمشق ؟


30.06.2007