| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

الخميس 2/10/ 2008



الأمُّ ومعتقل الفاشيست

عدنان الظاهر

( القسم الأول )

قالَ أكتبْ . مسكتُ القلمَ وشرعتُ أكتبُ :
بعد أنْ عذبوني أشدَّ عذاب فقدت الرغبة في مواصلة الحياة . كيف يحاولون إنتزاع إنسانيتي مني وماذا سيتبقى مني ومنها إذا ما إنتزعوها عنوةً وبالتعذيب الوحشي ؟ هل خُلقنا لنواجه مثل هذا العذاب ؟ هل تستحق منا إنسانيتنا التي وُلدت فينا طبيعة ً وجبلّة ً أنْ أن نتحمل عذاب الدنيا والآخرة معاً ؟ لماذا خُلقنا إضا ً بطبيعة سوية ؟ خذْ يا جلادُ جسدي المتورم المنقوش بالجروح والكدمات الزُرق والحُمر . خذ بقايا عظامي وما قد إلتصق عليها من أديم فقد لونه وحيوته وقابيلته على تحسس العالم الخارجي والتفاعل معه . خذْ يا جلادُ كلَّ شئ إلا شعوري بإنسانيتي ففيها طبيعتي السوية وفيها جينات أبي وأمي ثم أجدادي وأجداد أجدادي الذين لم أرهم ْ قطُّ ولم يرونني . فيها تأريخي وعائلتي وإرث العراق القديم والحديث . فيها كل ما تراكم من موروث البشر منذ عصر الإنسان الحجري حتى سقوطي بين براثن وحوش بشرية محسوبة خطأ ً على عالم البشر . ماذا أفيدُ ومَن سيفيدُ مني منزوعاً من إنسانيتي وما قيمة الحياة بدونها وما لونها وطعمها . لم أستطع التفكير إلا بهذه الأفكار وأنا معلق بين الموت والحياة . لذا قررتُ أن أموتَ وأن أنسحب َ من حياة خالية من القيم التي أتحسسها في صدري ورأسي وذاكرتي . كيف أموتُ وأنا بالفعل مل بين موت ٍ وشبه حياة ؟ قررتُ الإمتناع عن تناول الطعام وقد وجدته أمراً يسيراً ، ذاك أني فقدتُ الرغبة َ فيه ، كنتُ راغباً فيه فغدوتُ راغباً عنه . هكذت قررتُ إنتزاع الرغبة في الحياة سالكاً ذات السبيل المؤدي إليها ولكن متخذاً الإتجاه المعاكس المقلوب . واصلتُ إضرابي عن الطعام ولم تفلحْ تهديدات الشرطة والحرس بنوعيه القومي واللاقومي . فقدت القدرة على الحركة والنطق . فقدت سيطرتي على جهازي البولي فصرتُ أتبول على نفسي وعلى البطانية الجرباء التي كانت تحتي . لا أدري كم مرة ً حملوني للطابق العلوي للتحقيق وتكرير ذات الأسئلة وذلت الأسلوب الذي يبدأ رقيقاً خفيفاً ثم يتدرج عنفاً وخشونة ً وسباباً وتهديداتٍ شتى . كنتُ بالكاد أسمع ما يقولون بل أقل من نصف ما كانوا يقولون . لم أردَّ ولم أجب . ما كنتً قادراً أصلاً على الكلام ... لحسن الحظ ! دأبوا قبل أن يتردى وضعي على عرض أوراق فيها تفاصيل إعترافات عليَّ وعلى غيري موقعة بإسماء صريحة أعرف أصحابها بالطبع . كانوا يطلبون مني أن (( أصدِّق َ )) هذه الإعترافات فقط . كانوا يقولون إنهم يعرفون كلَّ شئ عني فما جدوى إصراري على رفض تصديق شهادات مكتوبة ومختومة بأسماء أصحابها ؟ كنتُ في بداية التحقيقات الليلية عادة ً أُنكر أني أعرف أسماء المعترفين وأنكر أية َ علاقة ٍ تربطني بهم لا من قريب ولا من بعيد. كانوا يضحكون عالياً هازئين . قلتُ لهم مرة ً متحدياً : إذا كنتم تدعون أنكم تعرفون كلَّ شئ عني فما سببُ إصراركم على أخذ توقيعي على ما لديكم من كشوف وإعترافات ؟ قالوا هذا يعني أنك تؤيد ما جاء فيها فلِمَ لا تؤكد صحتها حتى نطلق سراحك وتعودَ تمارس وظيفتك السابقة. هززت رأسي الواهن المشعث الشعر نافياً حجتهم مؤكداً أني لا أعرفُ أحداً من بين أصحاب الإعترافات . بعد مسلسل هذه التحقيقات كانت عادةً تبدأ حلقلت مسلسل آخر من طبيعة أخرى : التعذيب بنوعيه الجسدي والنفسي . الضرب والتعليق حتى إنخلع كتفي الأيسر . لذا إتخذتُ قراري ان أفارق الحياة التي يذلني فيها بشرٌ مثلي . لا من حياة ٍ مع الذل . واصلتُ إضرابي ضد الحياة وعن الطعام الشحيح الذي كانوا يعرضون عليَّ مطروحاً على بطانية جرباء ووسادة لا لونَ لها . لا أدري كيف سمحوا لها ومَن سمح ... زارتني في زنزانتي فجأة والدتي وشقيقتي وكنتُ فاقدَ الوعي ناحلاً مثل شبح تهيأ لي أني أسمعُ صوتَ والدتي تخاطب الحراس والشُرط قائلة ً هذا ليس ولدي ! أروني ولدي . جثمت على ركبتيها ورفعت ذراعي اليسرى التي ممددة ً على بقايا ساقي ... رفعتها للأعلى كريشة ثم تركتها تسقط في مكانها السابق غيرَ مصدقة ٍ أني بالفعل ولدها أو من كان يوماً أحد أبنائها . جثمت شقيقتي قرب رأسي ... تفحصت وجهي ... رفعت جفني ثم نهضت صارخة ً لا طمة ً وجهها بكفيها بشكل هيستيري فجفلت الوالدة متسائلة ً ما الخبر ؟ إنه أخي ... إنه ولدك يا أمي ... إنه شقيقي ... هل حقاً تعسّرتْ عليكِ معرفته وأنت التي حملتِ به وأنتِ التي أنجبته ؟ إنه أخي ... يبو ... يبو ... أخرجتها الشرطة ثم تبعتها والدتي صامدة ً شامخة ً عالية َ الرأس لم تبكِ ولم تصرخْ ولم تلطمْ وجهاً . أخذتهنَّ الشرطة إلى غرفة التحقيق حيثُ كانت في إنتظارهنَّ مجموعة من الفاشيست عسكريين ومدنيين جلس في الوسط شابُ مدني تعرفه والدتي وكان من زملاء الدراسة المتوسطة والثانوية . قامَ مرحِّباً مفتعلاً الصرامة والجد َّ وأشار لهنَّ بالجلوس . وبدون مقدمات طفقَ يعنِّف والدتي بغليظ القول متسائلاً بلؤم ونذالة : ماذا يريد إبنك منّا وما يروم في الحياة ؟ عرضنا عليه حريته والرجوع لوظيفته بل وما هو أكثر من ذلك . أعرض عليكِ وأنت بمقام والدتي ولكي تتجنبي الرواحَ والمجئ والمراجعات التي لا من طائل ٍ وراءهاَ ... أعرض عليك أن تقنعيه [[ بالنزول عن بغلتهِ ]] بتأكيد ما جاء من إعترافات مثبتة بحقه ... أعرضُ عليكِ وهذا هو العرضُ الأخير وإلا فعقوبته الإعدام شنقاً حتى الموت أو رمياً بالرصاص . ما أنْ أتمَّ جملته الأخيرة حتى نهضتْ والدتي مثلَ لبؤة ٍ وبصقت بوجهه فذُعِرَ ولم يتحرك ولم يتحرك ْ باقي رفاقه الفاشيست . غير َ أنَّ واحداً منهم
( شمريّ ) العينين والهيئة تكلم بحدة ٍ وعصبية ٍ مخاطباً والدتي فقالَ لها وشرارة نار في عينينه : تسمّين نفسكِ حجية زائرة الحرمين الشريفين
لكنكِ تدافعين عن سياسي خطير كافر زنديق لا دينَ له ولا ربّا ً ولا شيئاً من أخلاقنا وعاداتنا وتراثنا . لم تسكت الوالدة طويلاً بل سارعت لرده بصوت ٍ عالٍ : ولدي أشرفُ منكم جميعاً وأتقى منكم ومن أبائكم وأمهاتكم لم يمنعني يوماً من أداء صلاتي ولا سحبَ سجادة َ الصلاة ِ من تحت قدميَّ ولم يمنعني من زياراتي الكثيرة للعتبات المقدسّة ولا إلى حج ِّ بيتِ اللهِ الحرام . كيف تقولون عنه إنه ملحدٌ وكافرٌ وزنديق يا كلاب ويا أولاد الكلاب ؟ وقفت طوداً شامخاً لتغادر َ غرفة التحقيق وتبعتها شقيقتي التي نظرت ملياً في كالحِ الوجوه ثم قالت بهدوء : قندرة أخوية تشرّفكم وتشرّفُ آباءكم يا سرسرية يا هتلية يا أولاد ...
حملوني ذات يوم إلى الطابق العلوي وقد شعرتُ بشئ من الحيوية بعد أن أدخل الطبيب بعض السوائل المغذية في أوردتي . كنتُ أستطيعُ أنْ أفتح عيني لأرى وجوه المستجوبين مدنيين وعسكريين وكلها وجوه غريبة منكرة الملامح ذئبية العيون . شرعوا بمحاضرتهم المعهودة وأمروا لي بكأس شاي رفضتُ تناوله فبقيَّ أمامي بارداً . ما كنتُ أستطيع الجلوس على كرسي الخشب فكنتُ أتهاوى يمنة ً ويسرة ً فتتلاقفني أيدي الشرطة لإسنادي إلى ظهر الكرسي . كانوا يستجوبون وكنتُ أواصلُ صمتي لأنني لا أقدر على الكلام أولاً ولأنني لا أريد الكلام ثانياً . كان بيننا جدار باردٌ أصمُ ولا جدار الصين . كنتُ في وادٍ آخر وعالم آخر أكثر من نصفه يمتُّ لعالم الموت لا لعالم الحياة . ولمّا لم يتبقَ في جسدي مكان ٌ يُضربُ أو يُجلدُ أو موضع ٌ لإسالة المزيد من الدم تركوني بدون تعذيب [خلف الله عليهم !! ] . واصلتُ إضرابي عن الطعام فساءت صحتي وتردّت إلى مستويات خطيرة . قيل لي فيما بعد إنَّ الطبيبَ ما كان يفارقُ زنزانتي [[ وكان هو الآخر أحدَ زملاء الدراسة المتوسطة والثانوية ]] . دخلتُ في غيبوبة عميقة ولم تنفع السوائل المغذية لأنَّ جسدي كان يرفضها حتى يئسَ الطبيب مني . زار بيتَ أهلي خفية ً ليلاً وحاول إقناعهم الطلب مني أنْ أضعَ توقيعي على كومة أوراق الإعترافات فقد فعلها هو وأنقذَ نفسه وعاد يمارس مهنته السابقة . ذهبتْ محاولاتهُ أدراجَ الرياح بعد أنْ إنقسمتْ العائلة ُ بين مؤيد لفكرة الطبيب ورافض ٍ لها . كانت الوالدة على رأس الفريق الرافض . ما كانت تنام الليل ولا تتناول شيئاً من الطعام سوى التدخين والماء القراح .

( القسم الثاني )

بعد جلسة طويلة معه في بيته بيننا تمّت بحضور والدته دارَ خلالها ما دارَ من أحاديثَ شتى منوَّعة تخللتها أقداحُ الشاي حيناً وصحونُ الطعام أحيانا ً أخرى وكان ما زال يعاني مما لحق به من تعذيب وحشي ونفسي لذا كان يميل للصمت الطويل والغياب عن الحضور والإستغراق في تفكير عميق ثم يؤوب لنا ولنفسه ... يتنفس عميقاً كأنه غير مُصدِّق ٍ نجاته سالماً من الموت وأوبته للحياة التي بَرِمَ خلالَ مُعتقله بها وصمّم على نبذها والتخلي طواعية ً عنها . قال ، وسط دخان سجائر الحجية الكثيف ... قال أكتبْ فكتبتُ :
حدث بعد أنْ إنقلب عبد السلام عارف شهر تشرين من عام 1963 على حلفائه البعثيين أنْ صعد لأعالي السلطة أحدُ أقاربنا فبذل الجهد المطلوبَ لإطلاق سراحي وعودتي لأهلي وبيتنا . أشار لوالدته أنْ تُكملَ الحديثَ فقالت : أبلغتنا الشرطة بقرار العفوعن ولدنا طالبة ً منا الذهاب إلى المعتقل لإستلامه . ما صدقناهم ومن ذا الذي يصدّق الشرطة ؟! دخلنا زنزانته فلم نتعرفْ عليه . كان كومة َعظام ٍ لا تزن أكثرَ من 25 كيلوغراماً لا أكثر . جلدٌ على عظم لا من حركة ولا من علامة حياة سوى أنفاس متقطعة بطيئة تخفق في قفص ٍ من جريد . حمله الأهلُ والأقارب من الرجال على ظهورهم وكانت سيارتنا الخاصة في الإنتظار . دخلنا البيت فتعالى البكاءُ والصراخُ ولطمُ الخدود وشقُّ الجيوبِ إذْ أيقن الجميعُ أنْ لا من أمل ٍ في عودته ثانية ً للحياة . وسّدناه فراشا ً وثيراً في وسط دارنا لكي يعودَهُ باقي الأهل والجيران . إقترحَ البعضُ أخذه لتطهيره في الحمام العمومي فالماءُ شديد السخونة قد يعجّلُ في شفاءِ آثارِ جروحه وينعشه . إقترح آخرون المبادرة الفورية لإطعامه ببعض الآكلات الخفيفة وإعطائه الكثير من السوائل المغذية الطبيعية . إقترحَ آخرون أنْ ندعه مضطجعا ًً فلربما يسمع أصوات ذويه وأهله فينتعش قليلاً ويستعيد رغبته وقدرته على الكلام فيطلب طعاماً معيناً أو يعرب عن رغبته في حاجة مُحددة . أما أنا الأم المنكوبة بولدها فقد إرتأيتُ أنْ ندعه ينام لفترة ٍ من الزمن من ثم نحاول إطعامه بما كان يهوى قبل محنته من طعام ٍ فالطعامُ هو البلسمُ الشافي في مثل حالته الراهنة . حضرَ طبيبُ العائلة مشكوراً وأجرى الكثير من الفحوصات وزرق أوردته الناتئة فوق عظامه ببعض السوائل مقترحاً أن ندعه يرتاح لبضعة ساعات ثم نحاول إستشارته فيما يودُ أن يأكلَ أو أنْ يشربَ إذا إستطاع أو رغبَ في الكلام . قال إنه سيعود إليه وعيُهُ بعد مضيِّ بضعةِ ساعاتٍ بتأثير ما أعطاهُ من عقاقيرَ مقويّة منشِّطة . وحصل بالفعل ما توقع الطبيبُ. فتحَ عينيه المجهدتين الغارقتين بعتمة وظلمة غريبة لكأنه ما كان يرى شيئاً أو ما كان ليصدّقَ ما كان يرى. كان يديرُ عينيه متفحّصاً وجوهَ الحاضرين . ما أنْ وقعت ْ عيناهُ عليَّ حتى سالت من عينيه بعضُ قطيراتٍ من الدمع . لم أصبرْ ولم أستطعْ السيطرة على نفسي فأجهشتُ في نوبة بكاء ٍ مرِّ لم أعرفه في حياتي قط ُّ ، أنا التي لم أضعفْ ولم أتخاذلْ ولم أذرفْ دمعاً أمام عناصر الفاشيست الأنذال . أنا أمّكَ يا جابر ... كيف إستدرجتني إلى ضعفي البشري بضعة دمعاتٍ إنسكبت بعفوية من بين محجري ولدي وفلذة كبدي ؟! لا ، ليست دموعُ ولدي التي إستدرجتني إنما مجملُ وضعه العام وطول محنته في المعتقل ومحنتنا جميعاً معه وبه ثم محنة العراق والعراقيين ببلاء الإنقلابيين وجرائمهم التي تجاوزت كافةَ الحدود . كنا منه يائسين كل اليأس فلا الدعاءُ إلى السماءِ أنقذهُ من مخالب الوحوش المتعشطة للدم البشري ولا النذورُ السخية لأئمّتنا وأوليائنا ولا كثرة ُ الوساطات . وها هو اليوم نصف حي ـ نصف ميت ٍ بيننا وها هو أخيراً يفتح عينيه ويستطيع بهما رغم كل شئ تمييز والدته ومعرفته لها من بين سائر الحضور .
سادت فترة ُ هدوءٍ مَهيب خيّم علينا وعلى هواء حجرة إجتماعنا . واصلت والدته التدخين دون توقف . جاءنا المزيد من الطعام وأقداح الشاي الثقيل.

( القسم الثالث )

قال أكتبْ فكتبتُ :
تحسّنت صحتي تدريجاً والفضلُ للزمن وحركة مروره التي لا تتوقف ثم رعاية أهلي والطبيب ونوع ما كنتُ أتناول من أطعمة ثم زيارات الأقارب والأصدقاء . بعد فترة شهرين أو أكثر قليلاً إستأنفتُ عملي السابق وإستلمتُ حقوقي الوظيفية المالية التي توقفت إثرَ إعتقالي مباشرة ً بعد وقوع إنقلاب شباط 1963 . جاءني بعض البعثيين يعتذر وكلٌّ يتهمُ سواه بما وقع لي ولغيري من أمثالي . ثم تكررت زياراتُ رفاقٍ سابقين ممن إعترفوا عليَّ وعلى أنفسهم ورأيت أسماءهم وتواقيعهم وخطوطهم أثناء جلسات التحقيق مارة الذكر . جاء بعضهم يعتذر وجاء آخرون يعرضون عليَّ العودة للتنظيم وجاء آخرون يحملون بعض النشرات الداخلية ... قابلتُ الجميع بأدب وكياسة مقدراً ظروفهم القاسية في المعتقل ومتفهماً للطبيعة البشرية فيهم المتفاوتة المعدن والقابلية على تحمّل العذاب أو الموت تحت يدي الجلادين . كان أدبي وترحيبي بهم قد شجعهم إلى حدِّ التمادي والإلحاح على ضرورة العودة للتنظيم فالظرف ـ كما كانوا يقولون ـ يتطلب ذلك . كنتُ أعتذر وكنتُ أُصرُّ على إعتذاري ورفضي العودة والعمل ثانية ً مع أناس ٍ خانوني وأنفسَهم وخانوا عقيدتهم وأفشوا ما يحملون من أسرار ومعلومات . مع ذلك لا هم كانوا باليائسين مني ولا كنتُ من جهتي لأرضخَ وألينَ فأقبلَ دعواتِهم التي كنتُ أراها سخيفة ً لا تستحقُّ حتى مجرَّدَ التفكير بها . كان قراري واضحاً صارماً صريحاً . حين ظلوا يلحّون وجدتُ نفسيَ مُضطراً إلى رفض زياراتهم لي في بيتي.
سارت الأمورُ على هذا المنوال ومع تحسِّنِ صحتي وعودةِ مزاجي الطبيعي لي وسّعتُ مجالاتِ حركتي وزرتُ العاصمة َ مِراراً وكنتُ أضعُ نظاراتٍ سوداً على عينيَّ لا تخفياً أو خوفاً من الشرطة لكنْ للتهرّبِ من بعض المعارف والأصدقاء السابقين . غدوتُ زاهداً في علاقات الصداقة والرفقة الحزبية دونَ أنْ أكفرَ بها أو ألعنها فالإنسانُ بحاجةٍ لصديقٍ أو جليس ِ مقهى أو رفيق ِ سَفرٍ . ما كنتُ غريبَ الأطوارِ لكني كنتُ كثيرَ الميل للعزلةِ والهدوءِ والإبتعادِ عن الثرثرةِ والصخبِ والجدالِ . كنتُ مكتفياً بأهلي حتى أولئك الذين لم يزوروني خلال أشهر إعتقالي وتعذيبي . مع ذلك ظلوا أهلي من رَحِمي ودمي سامحتهم لأني أعرف ظروفهم وأقدّر خشيتهم من قسوة ومظالم الفاشيست وحرصهم على البقاء في وظائفهم .
كنت أشعرُ كأني أدافعُ عن حقهم في مواصلة الحياة خطاً دفاعياً أضحّي بحياتي من أجلهم وأقدِّمُ دمي أُضحية ً لبقائهم على قيد الحياة بعد أن عانيتُ ما عانيتُ على أيدي القتلة الفاشيست . لم تفارقني خلال هذه الفترة من حياتي كلماتُ أغنية عراقية قديمة تقواُ [[ لا يا هلي الظلاّم // ما رحمْ عدكمْ // حنّوا عليَّ عادْ // موش آنه بنكمْ ]] . مرّت حياتي هكذا رتيبة ً هادئةً أمضيتُ بعضَ العطلِ الصيفية ِ الطويلة ِ سائحاً في بعض العواصم القريبة لأمارسَ عملي بعد التعطيل الصيفي برتابةٍ وهدوءٍ حتى وقع إنقلابُ السابع عشر من شهر تموز 1968 . إكتأبتُ ، حزنتُ ، تشاءمتُ ، عادت لي كوابيسُ ليالي التعذيب والدم والجروح والإستجوابات الطويلة المملة وعادت لي رغبتي في التوقف عن مواصلة الحياة . أيقنتُ ، وكنتُ على صوابٍ ، أنْ لا من حياة ٍ طبيعية مع أصحاب الإنقلاب الجديد وقد خبرهم العراقيون بعد الثامن من شهر شباط 1963 . إعتوتمت الحياةُ بعد أنْ بهُتَ لونها وقلَّ نومي وقلّت رغبتي في الطعام والشراب فقلَّ وزني وذبلتُ وإنكمشتُ منكفئاً إلى داخل نفسي إلى حدِّ العزلة عن أهلي مما أثار قلقهم وخوفهم عليَّ وهم يرون ما طرأ عليَّ من تغيّرات يومية .
كان يبدو لي مُجهداً وهو يقصُّ عليَّ أحاديث ما بعدَ إنقلاب تموز ـ آب 1968 إذْ أخذّ لسانهُ يثقلُ وكلامه يتقطع ويفقد الكثير من الترابط والمعاني. قلتُ فلأستأذنَ منه ومن والدته الحاجة أم جابر وباقي أفراد أسرته رجالاً ونساءً لعله يوافق على عقد لقاء آخر معه في زمنٍ آخر مناسبٍ لكلينا . إلتقينا حسبَ رغبته في بيته بعد أنْ مرَّ أسبوع واحد على لقائنا الأخير . كان ما زالَ متعَباً مكتئباً شاحبَ الوجهِ غيرحليق . أين الوالدة ؟ سألته . إنها في مدينة النجف ... سافرت لتوفي أحد نذورها الكثيرة بخروجي من المعتقل حيّاً لا قتيلاً . هل نواصل الحديث السابق ؟ قال كلا، إني كما تراني لا أقوى على صياغة الكلام الدقيق الموزون . سنختتمُ الأحاديث المؤلمة وسأختصرُ التأريخ قافزاً على الأعوامِ الشِدادِ الشديدةِ التلوّن ِ والتبدّلِ سيّما أعوام الجبهة الوطنية والقومية التقدمية مع حزب البعث . لا أريد أنْ أتذكَرها ففيها أكثر من ألم ورعب وكابوس . فقط ... فقط أردتُ أنْ أخبركَ أني غادرتُ العراق أوائل عام 1978 ولم أعدْ إليه إلا بعد سقوط صدام ونظام حكمه ربيع عام 2003 . أردتُ أنْ أسأله عن حاله ومجمل أوضاعه زمن الجبهة الوطنية ( 1973 ـ 1978 ) لكني أحجمتُ ولم أسألْ !!


29.09.2008

 

free web counter