| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

الخميس 27/12/ 2007



دينا سليم
(رواية تراتيل عزاء البحر)
(2)

عدنان الظاهر

(
رواية تراتيل عزاء البحر / الطبعة الأولى يناير 2007 . الناشر : دار العودة ، بيروت )

أولا : اللوحة ... الفرشاة ... الرسم والألوان
سر أو لغز اللوحة :
الروائية دينا سليم على حدِّ علمي ليست رسّامة ، فهل لشغفها باللوحات والألوان من سر لا يعرفه القارئ وما هو هذا السر ؟ وجدتها تجنح بقوة لموضوعات الرسم والألوان حين تكون في أقصى درجات التوتر ... أعني حين تتعرض لذكرياتها مع مَن أحبت في سالف الزمان وخاصة ً تلك المتعلقة بأوقات الحب ومطارحة الحبيب الغرام ومداعباته الآيروسية ومن رغبة فيها ووصف لأدق أعضاء وتفاصيل جسدها . تستحضر هنا بطلتنا ( زينة ) فن الرسم وتمزجه بلحظات الحب والعشق والغزل والغرام كأنَّ هذه الأمور لا تستقيم إلا بوجود فن الرسم ولوحات الرسم يتمم بعضهاً بعضاً . فهل الحب فن وللغرام قواعد وأصول فنية عالية المستوى أم أن َّ هذه الظاهرة خاصة بطبيعة ( زينة ) فقط ؟ الحب فن إذا ً . يخيل لي إن َّ زينة تشعر بحاجة ماسة إلى عوامل مساعدة خارجية تخدمها في أمرين في الأقل : تصعيد الحالة الغرامية إلى أقصى مديات ممكنة ، الأمر الذي يدل في نظري على إنها جنسياً ذات طبيعة باردة يتطلب جسدها والعناصر المسؤولة عن تحفيزها أو تهييجها إلى ما يشبه الرجات الكهربائية التي توقظ هذه العناصر من سباتها وهمودها . أو ، وهو الإحتمال الثاني ، أن َّ قدرة جسدها الطبيعية وسعته لإستيعاب المحفزات والمنشطات الخارجية عميقتان وواسعتان جداً فلا يكفيها محفز واحد ولا تكون ردود أفعالها في مستوى الحافز المطروح أمامها وفي حوزتها . جسد مزدوج القدرة فهزة أو خضة واحدة لا تكفيه . تلزمه خضات متعددة قوية كي تتغلغل فيه وتلج سراديبه العميقة الشديدة الغموض وتحركه في الإتجاه الصحيح . ليست بطلة الرواية ( زينة ) مقتنعة وليست مكتفية بمن يغازلها ويطارحها الغرام في غرفة نومه أو في غرفة نومها . تتعرى له لكنها لا تسمح له بأكثر من مداعبة حلمتي نهديها وتمسيد ظهرها من الأعلى إلى الأسفل ولثم شفتيها . لا يمثل هذا الرجل حلمها ولا هو بفتى أحلامها ... لا يشبعها جنسياً حسب قناعاتها . ليس من وزنها والحب مراتب وأوزان كما هو الحال في المصارعة والملاكمة . تسمح له ولكن أن يلعب معها دوراً محدوداً تقول له قف حين تشاء وحين تبلغ الأمور حداً معيناً هي التي تخطط وتؤشر خطوطه الحمر التي لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال . ولي في وجهة النظر هذه دليل قاطع : عزفت عن الزواج بالرجل الذي بادلته حبه العاصف في إحدى العواصم العربية . وحين أقامت في مستقرها الجديد النائي إعتذرت منه وتركته يحترق وهو قريب منها. غامر بحياته مراراً في سبيل أن يكون قريباً منها وحين نجح في ذلك صدته وإعتذرت . نسمع إفادتها بهذا الخصوص [[ ...لا تريد ُ أن تكون َ أسيرته ولا هو أسيرها ، ترفض ُ الإرتباط به ، تريد روحه فقط ، ستبقى روحاهما متصلتين وأحلامهما واحدة ، ماذا لو تحولت حياتهما إلى عادات تأخذها الرتابة إلى السأم ؟ يعيشان تحت سقف واحد ، يكونان مثل باقي الأزواج فتغيب نُدرة العلاقة ويُرزقان بأبناء . أيُعقلُ أنْ تُصبحَ أمّاً بعد هذا العمر ؟ ويكون أبا ً صالحاً بعد ما عاناه من عذاب ؟ هل يمضيان بقية سنواتهما بين صراخ الأطفال وضجيجهم ؟ يرجع منهكا ً متعبا ً كلَّ مساء حزيناً ، غلاء المعيشة والتهديد بعدم الأمان فيختلفان على نقاط كبيرة كانت أو صغيرة ، من يعلم ، ربما تسوقهما الخلافات أيضا ً إلى الفراق /
الصفحة 113 ]] . لو كانت عاشقة لصاحبها عشقاً عميقاً حقيقياً لما صدته وإعتذرت منه . لتزوجته بل ولشجعته بكافة السبل لأن ْ يتزوجها وعند ذاك ستحثه هي على أن تنجب منه أطفالا يشبهون أباهم طولاً وسحنة ً ولونَ عيونٍ وما شابه ذلك من سمات وأوصاف تحسن النساء تعدادها . كانت علاقاتها من حيث البدء بهذا الرجل ( حازم ) باردة وإن شبتها عواطف ومذكيات نار الحرمان الجنسي ف ( زينة ) إمرأة عازبة أو مطلقة أو ثكلى أي إنها خارج نطاق الزوجية . ما زال الإحتمالان السالفان واردين أحدهما يتمم الثاني . أعني ، أن ( زينة ) باردة جنسياً في الأصل وتلك ظاهرة معروفة في عالم الطب . وإنها مع ذلك وبسبب ذلك عميقة الإحساس الجنسي ، فمع مواصلة البرود والإعتياد عليه تتوسع وتتعمق الرغبة في إتيان الجنس وممارسة الجسد الناضج المهيأ والمتقد بالحرارة الغريزية . النار تحت الرماد كما يقولون . زينة عميقة العواطف دفينة المشاعر عالية القمم وأطوار التهيّج . أمواجها عميقة وواسعة فهي بحاجة ماسة لرجل يفهمها ويستطيع قراءة خارطة جسدها وهندسة بنائها الداخلي. رجل أصغر منها سناً لا يكفيها ... لا يلبي طموحات جسدها الملتهب ناراً وجنساً . تستصغره في لا وعيها إنْ جاملت وتنازلت وتحتقره واعية ً إنْ أسفرت عن طبيعتها وواجهتها كما هي بدون أقنعة ومجاملات .
أعود بعد هذه السياحة الطويلة من التكهنات الفرضية لأقدم أمثلة على موضوعة الرسم واللوحة والألوان وعلاقتها بأوج الحماس الجنسي حيث تختلط الذكرى بالعشق ومداعبة أكثر مناطق جسد المرأة حساسيةً . نقرأ :
[[ ... جسّد الحلم بفرشاته ، إنحنى أمامها بتلقائية كما ينحني لكل إبداع جديد . غذاها بألوان من روحه ، سمعها ، تحسسها وشعرتْ بأنامله ، أوقدَ وسكبَ نار عواطفه داخلها ، أُغرمَ بها وأسمعها آهاته ، لم يبخلْ عليها ، أبعدَ الأوهامَ عنها وألبسها الحقيقة ، غمرها وَلها ً وكحّل عينيها بسهاده ، أذابته وأذابها ، عاشا أجملَ لحظاتهما وعندما إنتهيا إكتشفا أنَّ للوحة وجهاً آخرَ لم يعهداه /
الصفحة 26 ]] .
لوحة رائعة فاخرة في بنائها وتعابيرها ومجازاتها ورموزها السوريالية ... لوحة يقف أمامها القارئ خاشعاً حيث يختلط الحب بألوان الرسم حتى نكاد أن نعجز عن الجزم هل الكلام في الرسم أم في العشق والتوله المفرط ؟ [[ جسّد الحلم بفرشاته ... غذاها بألوان روحه ...كحّلَ عينيها بسهاده ... وعندما إنتهيا إكتشفا أن للوحة وجهاً آخر ]] . مفاجأتان ... إثنتان أمامنا : الإنتهاء الذي لم تفصح الروائية عن كنهه أبداً ! أي إنتهاء وما طبيعته ؟ نهاية عمل جنسي بين زينة وحازم أم الإنتهاء من رسم اللوحة ؟ المفاجأة الثانية الأكبر والأعظم : أنَّ للوحة وجهاً آخر ! أي وجه وما طبيعة هذا الوجه وما طبيعة الخلاف بينه وبين الوجه الآخر أو المتوقع أو الوجه الأصل ؟ مفاجآت صاغتها الكاتبة بإبداع متميز يأخذ بمجامع القلوب ولب العقول. الأرجح أن النهاية المقصودة هي نهاية ممارسة جنسية عادية بين رجل وأمرأة بدليل قولها [[ أُغرمَ بها وأسمعها آهاتهِ ، لم يبخل عليها ...أذابته وأذابها ، عاشا أجمل لحظاتهما ]] . يبقى لغزالوجه الآخر للوحة لغزاً محيراً يصعب تفسيره !! فهل الممارسة الجنسية المفترضة غيرت علاقاتهما جذرياً بالطفرة النوعية إذ وضعا الحرمان جانباً ليبدءا عهداً جديداً من علاقات الحب المختلط : حب روحي ـ جسدي ؟ لا من بأس بالرجوع إلى بعض آيات القرآن الكريم لنرى تحولاً مماثلاً وقع بين آدم وحواء حين كانا في الأعالي ينعمان بجنات الخلد [[ ... فوسوسَ لهما الشيطانُ ليُبدي لهما ما وُري َ عنهما من سوأتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أنْ تكونا مَلكين أو تكونا من الخالدين . وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين . فدلاهما بغرور ٍ فلما ذاقا الشجرةَ بدتْ لهما سوأتهما وطفقا يخصفان ِ عليهما من ورق الجنةِ وناداهما ربهما ألمْ أنهاكما عن تلكما الشجرة ِ وأقلْ لكما إنَّ الشيطانَ لكما عدو ٌ مبين .
الآيات 20 ـ 21 ـ 22 ـ من سورة الأعراف ]] . حصل التحول الأكبر في حياة آدم وحواء بعد أن (( ذاقا الشجرة المحرَّمة )) أي مارسا الجنس خلافاً لأمر ربهما ... الشيطان هنا هو قوة الغريزة الجنسية التي عصت الأمر الرباني أي المثالية الروحانية أو العفة الفطرية ... الجسد والغريزة أقوى من المثال . هذا هو وجه لوحة ( زينة وحازم ) الثاني ... مارسا الجنس فتحولا نوعياً كما حصل لآدم وزوجه حواء إذْ مارسا جسديهما فأصبحا رجلاً وإمرأةً ناضجين يعرفان خفايا جسديهما ويستجيبان لنداء وإغراءات الغريزة الجنسية الطبيعية وأدركا أنَّ مكانهما الطبيعي هو سطح الكرة الأرضية لا فوق في عالم خيالي لا وجود له أو ليس مصمماً للجنس البشري !! إستجابا لنداء الطبيعة القوي الجبّار فأنجبا ذرية ً بشرية لا مكانَ لها بين الملائكة في الجنان . الملائكة هناك من الذكور فقط فكيف يتوالدون وينسلون وينجبون ؟ الجنة عدم . الجنة فراغ أو صحراء مجدبة قاحلة من من ماء فيها ولا نبتة ولا شجر . الجنة موت . ( زينة ) تخشى عملية إنتاج أو إنجاب بشر يخلفونها ففضلت أن تختار لها مكاناً في الأعالي بين الملائكة وكلهم ذكور فأين المفر يا زينة ؟ أينما تولون لا بدَّ أنكم ستلاقون بشراً ذكوراً يسعون للقاء إناثهم سواء كنَّ من البشر أو من الملائكة فالأنثى هي أنثى على الأرض أو في السماء !!
كلما مضيناً عميقاً في قراءة رواية ( تراتيل عزاء البحر ) إكتشفنا أنَّ للوحة ( زينة ) وجوهاً أخرى متعددة لا وجهين . [[ وعندما إنتهيا إكتشفا أن َّ للوحة وجهاً آخرَ لم يعهداه ]] . التحوّ ل، نعم هو التحوّ ل ، التحول في الطبيعة والحياة ، التحول وليد التراكم . مارسا جسديهما فإنتقلا إلى مستوى آخر من العلاقات الروحية وذاقا وعانا من أصناف شتى من المشاعر والعواطف واللهفات . الحب الجارف أفرزه الجسد وقد تأسس عليه وبدأ به لكن بعد أن ْ مورس هذا الجسد إرتفعت نوعية الحب إلى مستويات أعلى في سلالم العشق والتوله . هذا هو أحد أبرز وجوه التحول في لعبة وملعب الحياة المتحركة .
ثمة مثال ٌ آخر على رمز اللوحة الخطير في علاقة الحب التي ربطت زينة بحازم ودلالاتها الجنسية الصريحة نجده في الصفحة 74 من الرواية. أنقله ثم أعلق عليه .
[[ إنطلقت حيث ُ فرشاتها تملي بواسطتها أعباءها وهواجسها كما في كل مرة . التعابير اللونية دعامة لوجودها ومنها تستمد البقاء ، بأناملها تصنع وتدوِّن الحدث ، وكلما أمسكت بالفرشاة إبتسمت لذكريات لن تنطوي أبداً : ـ لكنني مبتدئة فقط وكيف تريدني إنجاز ما بدأته بهذه السرعة يا ( حازم ) ؟
ـ بل أصبحتِ أستاذة تستطيعين تحويل الألوان َ إلى قدرة محسوسة بها لغة خاصة مميَّزة ، بلمساتك تصبح الوجوه ناطقةً ... هاتي يدكِ ... إلى هنا ... جسّي نبضات قلبي المشتعل ، صدري يحترق ...يتخبط ... لا يستطيع مجابهة أجمل إمرأة وأجمل أنامل ...لو تعيدين النظر إلى تلك اللوحة ...
وعندما أدارت وجهها تتأمل المكان غافلها بقبلة ساخنة طاف بشفتيه المحمومتين يُلهب عنقها فشفتيها ، وما كان منها إلا الإستسلام ، ترتجف كطفلة مدللة في حضن عشيق تعلم أنها ستفقده في يوم ما .
ـ أخشى الإستسلام لك
ـ ولِمَ ، ألستُ حبيبكِ ؟ لا تفوّتي لحظات لا عودة َ لها بالتردد .
إرتعدت بين يديه ِ كذبيحة ، مغمضة العينين ، كان قد شغلها بلثمة فما تبقى لها دموع ٌ، يبتلع من رحيق الهوى ويمتص بقايا حزن ، وبلمسة حنون يختلس بعض الدفء من عنقها ، يهمس بصمت ٍ في أُذنها :
ـ لن أدعكِ تفلتين مني /
الصفحتان 74 ـ 75 ]] .
يستوقفني طويلاً هنا مقطعان فأحار كيف أفهم مغازيهما العميقة المبتكرة التي تدل بقوة على قدرات عقلية غير عادية لدى الكاتبة دينا سليم ... تتمخض عن أفكار هي الأخرى غير عادية لا أتوقع حدوثها إلا في عالم الإبداعات الروائية والتحليقات الحائمة قريباً أو حول آفاق وبطاح وديان عبقر حيث سكنى ومُقام أنصاف المجانين من الشعراء والشواعر والكتاب والكواتب . المقطع الأول
[[ التعابير اللونية دعامة لوجودها ومنها تستمد البقاء ، بأناملها تصنع وتدوّن الحدث ، وكلما أمسكت بالفرشاة إبتسمت لذكريات ٍ لن تنطوي أبداً ]] .
كيف نفهم هذا الكلام ؟ كيف تكونُ التعابير اللونية دعامة ً لوجود زينة المرأة العاشقة ؟ أفهم هذا التعبير المجازي ـ نصف السوريالي إذا ربطنا ألوان الرسم وفرشاة الرسم بموضوع الرسم : اللوحة ! اللوحة الفنية موضوعة مركزية في هذه الرواية وفي بؤرة خيال وتفكير الكاتبة وفي نسيج عدسة وشبكية مرآتها الداخلية ( حاستها السادسة ) التي ذكرتها بضعة مرات في متن الرواية . ما زينة إلا صورة ملونة حقيقية محاطة بإطار خيالي يراها القارئ وتراها هي لوحةً ً معلقة ً في فضاء موجود ـ غير موجود ، واقعي ـ وهمي ، ملموس ـ متخيّل . إذا كانت المرآة رمزاً ودلالة ً وموضوعة مركزية في أدب بعض الكتاب والشعراء من كلا الجنسين فاللوحة لا المرآة هي الرمز ـ الشيفرة وإحدى الدلالات الأثيرة في أدب وكتابات دينا سليم . اللوحة مقابل المرآة . يرى الناسُ وجوههم في المرآة لكنَّ زينة ترى نفسها في اللوحة . صورتها مرآتها فأين الصورة الحقيقية ؟ أين الوجه الحقيقي للإنسان ؟ لا لوحة بالنسبة لدينا أو زينة دونما ألوان . لا تحب اللوحات بالأسود والأبيض . حياتها ألوان ففي الألوان جمال وفتنة وإيحاء وفيها بقاء لها مستدام متصل يحاكي خلود ودوام الجنة التي رفضتها . بدون ضوء لا نرى الألوان . فاللون إبن النور ، و زينة ـ دينة خُلقت داخل فضاء النور مكشوفة لألوان طيف قوس قزح الطبيعية وهي أساس جميع باقي مشتقات الألوان . إنها ترى للنور لوناً ، بل وتراه متعدد الألوان مجسَّداً في لوحة يضمها ويحددها إطار ذو إعتبارات نفسية ـ فنية ـ إبداعية قد يكون هو الآخر بعضاً من هذا النور . نور في نور في نور والجنة عتمة ٌ وظلام ٌ دامس .
المقطع الثاني :
[[ ... تستطيعين تحويل الألوان إلى قدرة محسوسة بها لغة خاصة مميزة ، بلمساتك تصبح الوجوه ناطقة ً ... ]] .
حسب رؤية حازم ، عاشق زينة ، فإنَّ هذه قادرة كالمسيح أن تحيي الموتى ... إذا لا مست زينة الوجوه أنطقتها . إنها تستطيع أن تبعث الحياة في وجه في لوحة رسمته يدا حبيبته زينة . فزينة ليست ساحرة مجرد ساحرة كباقي السواحر ، إنما إنها خالقة ... إنها ربّة ، تنطق الجمادات ، تمنحها الحرارة اللازمة للحركة فتتحرك ....أي تبعث الحياة فيها . ألوان زينة تتكلم بلغتها الخاصة . تخاطب الجمادات والموتى فتنطق تلك وتنهض من موتها هذه . ألوان زينة ـ دينا تتحول بقدرتها وتخضع لمشيئتها ، اللون يتحول ككل شئ في الحياة والطبيعة . موضوعة وفلسفة التحول هي واحدة من بين المسائل التي تشغل بال الروائية السيدة دينا سليم .
تكرر موضوع اللون والفرشاة واللوحة في مواضع قليلة أخرى من الرواية وجدت أبرزها في الصفحات 38 / 41 / 97 ... فضلاً عما ذكرتُ آنفاً حيث شرحت بالتفصيل .

ثانياً : الجنس ... الحب ... الرومانس
إذا تركنا جانياً موضوع اللون واللوحة فسنواجه عالماً آخرَ هو الآخرُ شديد التفرّد رافل ٌ بشتى صنوف وسائل التعبير الخاصة وآليات كشف دواخل الإنسان العاشق إمرأة ً ورجلاً . كيف تقلب الكاتبة باطن الإنسان وتحرث روحه وتعرضها للنور والشمس والضوء . من أي نبع تغترف الإلهام وتجبل عباراتها خليطاً ناجحاً من الجوهر السائل المصهور بحرارة فائقة القوة تخترق الحُجب والجُدر والمسافات . أحسب الكاتبة تقارب موضوعات الجسد والجنس والعشق مقاربة غير مرئية ، تدنو منها وتراها ولكن ليس بعينيها إنما خلال عدسة آلة فيديو سينمائية تسجل فيها الصوت والصورة وتظل هي صامتة محايدة لا من حركة ولا من صوت . تقترب من هذه الموضوعات مقاربة راهبة تتعبد في مقامات الهوى والعشق . تختار ألفاظها بدقة وحذر وذوق رفيع وأدب جم . قالت أو وصفت الحب والعشق بعبارات هنا وهناك من قبيل (( العشق هو ضد الموت ... أجمل ما في الوجود ... الحب هو الأمل ... الحب يتجاوز حدود الزمان والمكان ... إنه أعظم شعور في حياة المرء ... إنه أعظم أسباب الإلهام ... إنه المطلق ... )) . في الصفحة 22 من رواية دينا سليم مقطع طويل رائع إختلطت فيه الريشة والألوان والرسم بالحب والجسد والممارسة الصريحة. أنقله لطرافته كما هو ثم سأعلق على بعض أجزائه إذا رأيتُ ذلك ضروريا ً لإلقاء المزيد من الضوء على إبداعيات كاتبة الرواية وقدرتها على الخلق والتخليق ، خلق الصور والمجازات الجديدة وتخليق الطريف منها بالطريف الآخر ، توليف الطرائف أو مونتاج النظائر والمتخالفات .
[[ رغبة غريبة تداعب تفكيره وشهوة حيوانية تستحوذ على مخيلته . توقفت نظراته السكرى على صدرها ، يبحث عن حلمتيها النافرتين ، ومن تحت ثوبها الناعم تحوطهما دائرتان واسعتان بلون القهوة . لم يستطعْ الثوبُ حجب الرؤية عن ناظريهِ وربما خيَّل إليهِ أنه يرى بروزهما .
ـ لا تزمّي شفتيكِ فالنشوة تفوق إحتمالي ، تثيرانني ، ونهداكِ يأخذانني إلى عالم مجنون .
وبحركة سريعة يحرر قميصه عن جسده المرتعش وينتظر البقية :
ـ إنزعي عنكِ الخجل يا حبيبةَ القلب والروح ...
تنزوي الأضواءُ الخافتةُ بين ساقيها ، عاريتين تخترقان العَتمة ... تلوذُ وتذوبُ لذّة ُ الذكرى بأشباح الماضي ...
ـ دعيني أنزعْ عنكِ ما تبقى ...
إضطربت أنفاسها و ( حازم ) متكئ أرضاً يلملم شُتاتَ أنفاسهِ :
ـ لا ترتجفي ولا تتحركي ريثما أنجز ما بدأتُ ...
ـ أخشى عدمَ تعرفي على نفسي !
ـ ألا تدركين أني رسام ٌ محترف ٌ ، ستحكمين حال رؤيتكِ لنفسكِ داخلها .
ـ لماذا لا تعلمني الرسم ؟
ـ هيا ، إقتربي ، سأعلّمك كيف تضربين الريشةَ َ بالألوان .
سكنت الأصباغُ السوادَ وتجمدت الحياةُ بخصلات ريشة معطوبة ، قبعت طويلاً داخل كأس ماء ، شراب الأحزان يحتل ُّ المكانَ وتأوهات الهجران تملأ الفراغ . إمتزجت ألوانُ النشوة بالشهوة المؤجلة ، تعددت ألوانُ الدمع ، إلتقت البرودةُ الحرارة َ وإنصهر القلبان وإزدادا وهنا ً . لِمَ وشى بهما القمرُ المخادعُ وإختفى ؟ أُضرمتْ النيرانُ في جسدين عاريين ، أخفت
( زينة ) عينيها بيديها تحاولُ ضبطَ أنفاسها ، إرتمت على سجاد الغرفة كغزال شارد عَطِش ٍ ، تحن ُّ إلى الماء والماءُ لا يحن ُّ إلى سواها /
الصفحة 22 من الرواية ]] .
حتى هنا ونحن أمام مشهد سينمائي بالشاشة العريضة ( سينما سكوب / باناروما ) يعرض لنا كمشاهدين صوراً حية ً ناطقة بالألوان قريبةً جداً من أفلام ( البورنو ) ... حتى هنا نُجابَه باللون وريشة الفنان وأصباغ الرسام المحترف التي تجد لها سَكَنا ً في السواد رمزاً للتشاؤم أو خوف الفشل ، فشل تجربة الحب بين حازم وزينة . تجربة متأزمة دوماً مضطربة لا مستقرَ لها تتأرجح ما بين أقصى اليمين وأقصى الشمال . غيرَ أنَّ
( زينة ) لا تتحرج من ممارسة الجنس مع حازم وهي على خط النار تجهد أن تظلَّ قامتها متوازنة ً وهي تسعى مغمضة العينين على حافة السراط غير المستقيم. نعم ، تعالج الكاتبة دينا وتقترب من موضوعات الجسد والجنس بأساليبها الخاصة ووسائلها الخاصة ومفرداتها الخاصة غير المطروقة فيحس القارئ بصدق حرارة قلبها وجسدها ونقاوة ألفاظها تماماً كما تحسُّ هي وتلتقط نأمات جسد وأعماق دواخل بطليها حازم وزينة . هي الوسيط الأمين بيننا كقرّاء وبينهما . ننحاز بقوة لطرفها كلما إنحازت هي للطرف الآخر . نميل إليها حيثما مالت لجهة زينة وحازم . نقع في حبها ما دامت صادقة ً مع نفسها من خلال ( زينة ) حتى نراها تتماها بها مائة بالمائة [[ فتمتزج ألوانُ النشوة بالشهوة المؤجلة ...وتضرمُ النيرانُ في جسدين عاريين وتُخفي زينة عينيها بيديها ]] ... إنها تُغري القارئ بالحلول المطلق فيرى نفسه في حازم ويراها زينة أو حلّت في زينة .
نقرأ في الصفحة 89 كلاماً فيه قدرٌ ليس بالقليل من البورنو الجنسي .
حازم يهذي [[ ... أنتِ يا شمسَ الكون ! هل إستطعت ِ أخيراً لثمَ ثدي
( إينانا ) فإستفاقت من غيبوبتها ؟ أشتهي لثمَ فمَ حبيبتي الملقاة أرضا ً تنتظرني ، أزيحُ ثوبها عن ثدييها وسرتها ، فيرتعدُ ردفاها شوقا ً . ستمنحني جسدها ولن تطلق أبداً لعنتها على الكون كما أطلقتها ( إينانا ) التي إختلستُ منها حرمتها ، عضوي يضاهي عضو ( شوكليوتا ) قوة ً ، وعصري يضاهي عصره رقيّا ً . لن أغتصب َ حبيبتي وهي نائمة ، ولن أسلبها أنوثتها وهي في سبات ، سأطلب وصالها عندما تمنحني هي جسدها وروحها وعقلها وكيانها /
89 ]] .
هنا كما في مواقعَ أخرى رأيتُ بعض آثار واضحة من ( نشيد الإنشاد ) في التوراة من العهد القديم .
يحيلنا هذا النص إلى هذيان حازم ، أي أنَّ الجنس والبورنو فيه ما هما إلا مجرد أحلام ، أضغاث أحلام وتمنيات تعصف في رأس حازم . يتمنى أن يفعل كذا وكذا مع حبيبته الغائبة عنه . إنه يستحلم ويستمني لا أكثر . رغبات محروم حسبُ .
تنتهي الرواية بالرسم والوحدة القتالة . تسمع ( زينة ) صوت ( حازم ) يخاطبها في الوهم من باب التمني ، هو يحلم وهي تتمنى : [[ من الآن وإلى الأبد ستمارسين الرسم ما دمتِ تملكين روعةَ الإبداع ، تدونين السعادة ، لا لزوم للوحات الماضي العابسة ... /
116 ]] .
تنتهي الرواية نهاية عابسة حزينة . إختفى حازم ، أما مصير زينة فهو بألفاظها هي [[ غاصت زينة بالواقع متألمة ... لم يشاركها الحبيبُ السريرَ ... تطوي جراحَ الذكريات النازفة ، تركل الشظايا بقدميها المكسوتين ، يؤرِّقها سريرٌ فارغ ٌ بارد ٌ ... يشف ُّ عن وحدتها /
الصفحة 116 ]] .
إلتفت الساقُ بالساق ِ ولاقت النهاية ُ البداية َ ، إكتملت الدائرة فلم نفاجأ بسوداوية وتشاؤمية عنوان الرواية فالخاتمة محفورة في الجبهة .
متعة ، متعة كبرى يحسها قارئ صفحات رواية ( تراتيل عزاء البحر ) ... متعة وثقافة ترتسمان أمام القارئ في أُطر من الإعجاب بإبداع
الروائية ( نادية سليم ) والوقوع في أسر قوة شخصيتها وفخامة هيبتها وسعة خيالها وقدراتها غير المحدودة على توظيف أفكارها الجديدة المبتكرة في خلق وتخليق جمل وتراكيب لغوية متسربلة بترف المعاني وألوان الصور وغرابة المجازات . يفتخر بك قرّاؤك يا سيدة دينا سليم .

هامش
(
ثم أُصعِدَ يسوع إلى البريّة ليُجرَّب من إبليس . فبعدما صامَ أربعين نهاراً وأربعين ليلة ً جاعَ أخيراً . فتقدّم َ إليه المجرِّب ُ وقال له إن ْ كنتَ إبنَ الله فقلْ أن تصيرَ هذه الحجارة ُ خبزاً . فأجاب وقالَ مكتوب ٌ ليس بالخبز وحده ُ يحيا الإنسانُ بل بكل كلمة ٍ تخرجُ من فم اللهِ . ثم َّ أخذهُ إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل . وقال له إنْ كنتَ إبن َ الله فاطرحْ نفسكَ إلى أسفل .لأنه مكتوب ٌ أنه يوصي ملائكته بك . فعلى أياديهم يحملونك َ لكي لا تصطدمَ بحجر ٍ رجلكَ . قال له يسوعُ مكتوبٌ أيضاً لا تجرِّب َ الرب َّ إلهكَ . ثم أخذه أيضاً إبليسُ إلى جبلٍ عالٍ جداً وأراهُ جميعَ ممالكِ العالم ومجدِها . وقال له أُعطيكَ هذهِ جميعَها إنْ خررتَ وسجدتَ لي . حينئذ ٍ قال يسوعُ إذهبْ يا شيطانُ . لأنه مكتوبٌ للرب ِّ إلهكَ تسجدُ وإياهُ تعبدُ . ثم َّ تركه إبليسُ وإذا ملائكة ٌ قد جاءت فصارت تخدمه ُ / إنجيل متّى ، الإصحاح الرابع) .











 


 

free web counter