| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

الخميس 26/6/ 2008



مع مظفر النوّاب في طرابلس
1978 / 1984

د. عدنان الظاهر

( مرّينا بيكم حَمَدْ / وإحنة بقطار الليلْ ... )
لم أرَ الأخ مظفر النواب في العراق إلا مرة واحدة فقط . كان ذلك في مقر إتحاد الأدباء العراقيين في بغداد حيث رأيته مع مجموعة من أصدقائه في حدائق الإتحاد أمسية َ يوم صائف من عام 1960 . أتذكر مَن شاركه مجلسه ذاك كلاً من المرحوم شمران الياسري ( أبو كاطع ) وبلند الحيدري ورشدي العامل وآخرين لا أتذكرهم جيداً . كان قليل شعر الرأس مُذ حينذاك أسمر البشرة مع شحوب واضح في الوجه . وكان يرتدي بدلة أنيقة لونها نيلي غامق وكان هذا اللون مودة تلك الفترة .
مرَّ الزمن سريعاً يوماً بطيئاً آخرَ لنلتقي خريف عام 1978 في العاصمة الليبية طرابلس . كنت وعائلتي الصغيرة قد وصلت طرابلس آواخر شهر آب لنفس العام 1978 هارباً مما كان ينتظرني وأمثالي على أيدي جزاري نظام حكم البعث وصدام حسين بعد أنْ أبعدوني في قائمة واحدة تضم مجموعة من أساتذة الجامعات العراقية إلى أماكنَ ووظائفَ لا علاقة لها لا بالبحث العلمي ولا بالتدريس الجامعي . لا أتوقف لدى هذه النقطة طويلاً فقد تعرّضت ُ لها تفصيلاً في الجزأين الرابع والخامس من مذكراتي وهي موجودة في موقعي الخاص لمن يود الإطلاع عليها من الإخوة الكرام على الرابط التالي :
http://d-adnan.i8.com

سمعنا ـ مجموعة عراقية من أساتذة جامعة الفاتح الليبية ـ أنّ مظفر النواب يزور الجماهيرية الليبية بين حين وآخر وإنه يقيم عادةً في فندق الشاطئ المطل على البحر الأبيض المتوسط في منطقة جرجارش الراقية . وكان أشدنا شوقاً لرؤيته الصديق الزميل دكتور نعيم سيلان الشذر إذ كانت له معه علاقة ما منذ سني الحكم الملكي . رتبنا لمظفر زيارة وحددنا موعداً معيناً لعله هو مَن حدده . وتمَّ اللقاء المنتظر مساءً في قاعة صغيرة ملحقة ببنايات الأقسام الداخلية لطلبة جامعة الفاتح حيث كان بعض هذه البنايات مخصصا ً لسكنى الأساتذة الأجانب المتعاقدين مع الجامعة . حضر مظفر برفقة الضابط العراقي السابق والهارب هو الآخر من العراق الأخ صارم صالح السامرائي . بعد السلام وتبادل الأشواق وبعض الذكريات فاجأنا مظفر بإلقاء محاضرة تأريخية عن القرامطة ( وقد دعوناه لنسمع منه أشعاراً ) . لفت نظري خطأ وقع فيه مظفر إذْ حسب أنَّ الإسم أو الكنية ( قرمَط ... أحمد بن قرمط مؤسس الحركة القرمطية ) تعني اللون الأحمر ... إشارةً إلى أنَّ هذه الحركة هي حركة يسارية بالمفهوم الحديث . بعد المحاضرة كان الأخ نعيم الشذر سبّاقاً في طلب سماع قصيدة ( حجّام ) . لبى مظفر طلبه فقرأ هذه القصيدة. ثم إنبرى الزميل المصلاوي الدكتور منيب يوسف الشاكرفطلب قصيدة ( البراءة ) . قرأها مظفر ... ثم توالت القراءات حتى ساعة متأخرة من الليل .
كان مظفر حينذاك إذا غادر طرابلس فإلى دمشق تحديداً . وتوالت زياراته لطرابلس وكان واسطة الإتصال بيننا وبينه ومصدر أخبارنا عنه طالب كلية الطب الشاب الطيب ( عبد الباقي الحيّاني / من الدجيل ) . كان يقرأ أشعاره في بعض المناسبات وفي بعض المدارس الليبية أو في تلفزيون الجماهيرية لكنه ما كان ينشر أشعاراً أو مقالات ٍ في الصحف أو المجلات المعروفة في الجماهيرية يومذاك . كنت حين نقرر زيارته في مقر إقامته في فندق الشاطئ أصطحب معي بسيارتي الكولف الألمانية الخضراء كلا من الصديقين نعيم الشذر والجزائري محمد عيسى المختص بتدريس مادة قراءة الخرائط الجغرافية في كلية التربية في جامعة الفاتح .

مع كمال السيد في طرابلس /
زار مظفر طرابلس ذات مرة وكان المرحوم الموسيقي كمال السيد بصحبته إذ رافقه وهو يقرأ بعض أشعاره في أكثر من مناسبة . إلتقيت المرحوم مرة وحين عرف أني من الحلة أصلاً قال إنه عمل مدرساً للموسيقى هناك . سألته عمّن يعرف من الحلة ومن العاملين في سلك التعليم فيها ؟ قال إنه يعرف جيداً المدرس الأخ ( جعفر حمّود الهجوَّل ) . لم يبقَ المرحوم كمال في الجماهيرية ولم يعمل في مدارسها ولا أعرف هل جاء مع مظفر بحثاً عن عمل أم لا ولم يشأ أحدٌ أن يوجه له مثل هذا السؤال الفضولي .

القطيعة
حدثت بيني ومظفر قطيعة جدية إذ أخلف موعداً حدده هو لزيارته مقترحاً أن أزوره في فندقه برفقة صديقه القديم نعيم الشذر . ركبتُ سيارتي وبصحبتي أبو غسق نعيم الشذر ففوجئنا وقد دخلنا فندق الشاطئ حيث اللقاء الموعود ... فوجئنا بمظفر النوّاب خارجاً من الفندق ، وبمعيته شاب ليبي ، معتذراً أنَّ أمامه لقاء لقراءة أشعاره في بعض المدارس في طرابلس !! قلت له لكنك أنت مَن طلب هذا اللقاء وأنتَ مَن حدد ساعته ويومه . لم يجبْ . لم أشأ أن ألتقي الشاعر بعد ذلك وكان دائم السؤال عني خاصة ً خلال مناسبات قراءاته لشعره هنا أو هناك . ثم تعقدت علاقتي معه أكثر من ذلك بعد أنَّ سبَّ وفد المعارضة العراقية الذي كان يزور طرابلس هو الآخر بين فترة وأخرى << من أبرز وجوه الزائرين المرحوم مهدي عبد الكريم أبو سنّة وجلال طالباني ومبدر الويس وعبد الإله النصراوي ومحمد أو أحمد الحبوبي والمرحوم سامي عبد الرحمن >> . كيف وأين حدث ذلك ؟ في لقاء سياسي حاشد حضره الأخ القذافي متأخراً أُذاعه تلفزيون الجماهيرية مباشرة ً على الهواء ، وكان الوفد العراقي حاضراً ذلك اللقاء . صعد مظفر خشبة المسرح فالقى قصيدة جديدة له سبَّ في مقطع منها وفد المعارضة العراقي مسبة لا لزوم لها أبداً إذْ قال مُشيراً بيده الممدودة حيث كان يجلس أعضاء الوفد [[ كلهم قبضوا ... ]] !!! إلتقيت بعد ذلك ببضعة أيام بطالب كلية الطب الصديق عبد الباقي الحياني فطلبتُ منه أنْ ينقل لمظفر نيابةً عني ما يلي : ما كان من حقك أن تسبَّ وفد المعارضة وبهذا الشكل العلني غير اللائق . نعم ، كنتَ تستطيع أن تسبهم على إنفراد في نهاية الإحتفال وتعاتبهم وأن تناقشهم في مواضيع خلافك معهم عقائدياً أو سياسياً ولكن ليس من حقك أن تتصرف بهذا الشكل وهم في خط النار الأول مع نظام صدام حسين الدموي الفاشي الذي يحكم العراق . ثم طلبت من عبد الباقي أنْ يقول كذلك له : إذا قبضوا مساعدات من الجماهيرية فإنك أنت أيضاً من أوائل هؤلاء القابضين ... إنك تقبض من طرابلس وتقبض من دمشق . (( في لقاء له مع صحيفة ليبية محلية تم َّ بعد ذلك بأقل أو أكثر من عام صرّح مظفر إنه عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي / القيادة المركزية )) ... ولقد قرأتُ هذه المقابلة بنصها في الصحيفة في حينه وقد عجبتُ من جرأته في قول مثل هذا الكلام في الجماهيرية الليبية المحافظة .
أثناء فترة القطيعة هذه حدث أمر لا أغفره لمظفر النواب أبداً . طبع ديوانَ شعر جديد في بلد ما مرفقاً بكاسيت بصوته يقرأ مختارات مما في الديوان من أشعار . وزّع مظفر ديوانه والكاسيت المُرفق به لكل من هبَّ ودبَّ من العراقيين والليبيين إلا عدنان الظاهر !! رأيت بخطه الجميل كلمة إهداء على الصفحة الأولى من ديوانه لأحد معارفه ممن لا هم في العير ولا في النفير من حيث الأدب عامة ً والشعر خاصةً ( ما زال إسم هذا الرجل الطيّب الكامل في ذاكرتي ولعله يقرأ كلامي هذا فإنه مقيم في الدنمارك كما تناهى إلى علمي ) . لم أرَ الأخ مظفر النواب بعد ذلك إلا على شاشة التلفزيون حيث ظهر يقص حكاية محاولة إختطافه في أثينا من قبل السفارة العراقية هناك . قال إنَّ السفارة إستدرجته إلى فخ أعدّه له واحد من أصدقائه ممن خانوا وتعاونوا مع السفارة العراقية وأجهزة أمنها ومخابراتها في أثينا . سأله مقدم البرنامج : وكيف إستطعتَ الإفلات من الفخ ؟ قال : دخل شقة الصديق ـ الفخ رجلان عراقيان فشدّا وثاقه إلى الكرسي الذي كان جالساً عليه ثم حقناه بإبرة مخدِّر وخرجا ليجلبا صندوقاً ليضعانه فيه ومن ثم لتشحنه السفارة العراقية إلى بغداد . قال : لم يؤثر المخدِّر فيه لأنه يتناول الكحول !! فإستطاع بعد خروج مختطفيه من الشقة أنْ يفك وثاقه ويهرب عاجلاً ليحجز على أول طائرة تغادر أثينا . وهكذا حرر نفسه من الأسر ومن مصير مجهول كان ينتظره في بغداد !! حين قصصت هذه الرواية على المرحوم الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في لقاء لي معه ذات مساء يوم من شهر آب عام 1982 في إحدى مقاهي مدريد ( مقهى مانيلا ) ... ضحك المرحوم طويلاً غير مصدق القصة ، بل وسفهها جملةً وتفصيلاً . بالفعل ، إنها أقصوصة تصلح لإضحاك الأطفال سواء في تفاصيلها أو في خاتمتها.
كان مظفر النواب حينذاك وحتى قبل حدوث هذه القصة الخرافية شديد التطيّر سريع الهلع وقد تأكد لي ذلك من الحادث التالي :

مع سفير عدن في طرابلس
طلب مظفر مني ذات يوم أنْ أرتبَّ له موعداً مع سفير جمهورية اليمن الجنوبي في طرابلس . قال إنه ( يشتهي ) جرعة ويسكي وإنه يتوفر لابدَّ في سفارة عدن . كلفت أحد طلبة جامعة الفاتح من اليمن الجنوبي ( محمد حبش ) أن يرتب لي ولمظفر موعداً مع السفير وكان هذا الطالب على صلة وثيقة بسفارة بلده ولا أعرف الأسباب ... قد يكون عضواً في الحزب الإشتراكي الحاكم أو غير ذلك والله أعلم . وبالفعل زارني محمد حبش حاملاً موعداً أكيداً من السفير يحدد فيه ساعة ويوم اللقاء . زرت مظفر مساءً في فندقه وإصطحبته معي إلى مقر سفارة عدن ولم تكن بعيدة عن مبنى سفارة العراق . دارت بينه والسفير أحاديث شتى كان محورها الأساس قصة مقتل رئيس سابق لليمن الجنوبي ، لا يحضرني إسمه... لعله قحطان الشعبي . جاءت زجاجة الويسكي ـ كما توقع مظفر ـ وجاء مع الويسكي طبق مما نسميه في العراق ( فستق عبيد ) فقال مظفر بدون حرج : كنت أتوقعه فستقاً ! أجاب السفير إنه لكذلك ، إنه فستق ! أصرَّ مظفر إنه ليس فستقاً وأصرَّ السفير إنه فستق . لم أتدخل لكي لا أحرج أحدهما . هل طلب السفير من مظفر أم أنَّ مظفراً بادر إلى قراءة آخر قصيدة له نظمها خصيصاً للخميني والثورة الإسلامية في إيران ؟! . كان معي جهاز تسجيل فطلب مظفر مني أن لا أسجل ما سيقرأ لكني سجلت الكثير مما قرأ ولم يعترض . للأسف محوتُ ما سجلتُ فيما بعد من باب ( الزعل ) على مظفر . بعد ذلك جاء العشاء وكنت أتوقعه عشاءً دبلوماسياً من الدرجة الأولى ... فإذا به وبكل بساطة ثلاثة { نفرات } كباب لثلاثتنا جاءت في ثلاثة صحون في كل صحن قطعتا كباب ( شيش كباب بالعراقي ) مطروحتان على رغيف من الخبز ولا غير ! مسكينة حكومة عدن ... فقيرة إلى هذا الحد ؟ المهم ، حان زمن مغادرتنا السفارة وبيت السفير فركبنا سيارتي لأحمل الأخ مظفر حيث يقيم في فندق الشاطئ وكان عليَّ أن أمر بسيارتي قريباً من جدران سفارة العراق الخارجية ... إنتبه مظفر ... عدّل من جلسته في مقعد السيارة الأمامي ... فتح عينيه ثم قال والخوف في عينيه : هنا السفارة العراقية !! أجبته فوراً : لا تخفْ ، إنك بصحبتي وأنا مسؤول عنك وعن حياتك . هدأ قليلاً لكنه ظلَّ قلقاً حتى أوصلته مدخل فندقه الضخم . لم يفارق مظفرا ً الخوفُ والحذرُ الشديد حدَّ الهوس وتأكد ذلك لي في مناسبة هي الأخرى لا تخلو من طرافة . زارني فجأةً ذات مساء ( عام 1983 / 1984 ) في شقتنا الجديدة الواقعة في منطقة ( زاوية الدهماني ) من العاصمة الليبية طرابلس برفقة صديق له من لبنان . دخل الشقةَ مظفر لكنَّ صديقه اللبناني إعتذر . فرحنا بزيارته المفاجئة وسارعت لإستبدال ملابسي البيتية بأخرى تليق بإستقبال الضيوف فطلب مني مظفر أن لا أفعل ... قال إنه سوف لن يبقى معنا طويلاً . جاءت إبنتي قرطبة تحييه وقرأت له مقطعاً من قصيدة كان قد قرأها في تلفزيون الجماهيرية مقلدة صوته ونبراته وطريقة إلقائه أذكر منها :

وأزيلوا اللُجمَ ...
فإنَّ المرضَ الأولَ كان لجاماً طوّرهُ النفط فصار من الذهبِ
بالوحدةِ هذا طلبي
...
أسرعْ نصل السَلميةَ قبل َ الليلِ
لعلَّ أنيساً أو عبدَ الناصرِ في النقبِ
...
لم تمضِ إلا بضعة دقائق حتى سمعناً طرقاً متصلاً ملحاحاً على باب الشقة. خرجتُ ففوجئت بصديق مظفر يسألني أين مظفر ؟ دعوته فأبى الدخول وكررتُ دعوتي له فأصرَّ على أن لا يدخل وكرر سؤاله بعصبية وقلق أين مظفر ؟ أجبته ساخراً قائلاً : تفضلْ أدخلْ ... ما زال مظفر حياً يُرزق لم نربطه بالحبال ولم نخدره بالإبر ثم لم يصلْ رجال سفارة صدام بعد لإختطافه . لم يدخل أبداً فناديت على مظفر بصوتٍ عالٍ : أخرج يا مظفر كي يراك صديقك ويطمئن عليك أنك ما زلتَ حياً . وهكذا لم يطقْ مظفر المكوث في بيتي لأكثر من بضعة دقائق وكان سلوك وتصرف صديقه اللبناني مخططاً ومبرمجاً ومدروساً سلفاً بينه وبين مظفر على ما يبدو . لم يطلب من صديقه دخول بيتي بل سارع هو مستجيباً لصوته العالي بالخروج إليه !!
هذه هي تجربتي وبعض ذكرياتي مع مظفر النواب في مدينة طرابلس الليبية . ما كان أكثرها سارّاً ولم أزل أجهل ولا أعرف كيف أفسر سلوك مظفرهناك معي ومعي بالذات .


حزيران 2008


 

free web counter