| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

السبت 26/7/ 2008



حول قانون رعاية أصحاب الكفاءات أو التفرغ العلمي
رقم 154 لسنة 1974

عدنان الظاهر 

لها ... فقط لها ...
آليتُ على نفسي أن لا أكتب إلا لها ... لها وليس لسواها من بين المخلوقات الناطقة والصامتة ... الحية والجامدة ... فإنها هي وحدها التي تستحق كتابتي وخطابي . هل أصارحها بقراري هذا أم أكتمه في صدري حتى يحينَ أوانُ كشفه أو إنكشافه للملأ بالصدفة المحضة أو ربما عن طريق الخطأ ؟ (( دعْ كلَّ شيء للصدف )) كما درج صديقي المرحوم الدكتور جواد البدري أن يقولَ كلما إدلهمّت في وجهه الخطوب وضاقت بالجميع السًبلُ . أتذكر أواسط سبعينيات القرن الماضي وبعد شمول حَمَلة شهادتي الدكتوراه والماجستير غير العراقية المنشأ بقانون أصحاب الكفاءات حيث كنا وقتذاك نمارس التدريس في قسم الكيمياء / كلية العلوم التابعة لجامعة بغداد ... أجبر أعضاء الهيئات التدريسية على الدوام الكامل من الثامنة صباحاً حتى الساعة الخامسة عصراً فكانت ساعات مملة ثقيلة حيث لا من ماء بارد صيفاً ولا مكاتب مريحة للأساتذة مكيفة حرارياً ولا من مطعم لائق فنشط في هذه الأجواء مزاج التنكيت الساخر أو الباعث على السخرية بل وحتى إستخدام بعض الألفاظ السوقية البذيئة تنفسياً عن هم ثقيل ومبزلاً نفسيا ً لتصريف الشعور بالهوان حيث دأب بعض رؤساء الأقسام على ممارسة دور شرطي أمن على زملائه الأساتذة في قسمه يراقبون ساعة وصوله الكلية وساعة دخوله قاعة محاضرته وكيف أشرف أو قاد مختبره وما إلى ذلك من وسائل الرقابة والمتابعة البوليسية خاصة وكان بعض طلبة الإتحاد الوطني البعثيين هم أنفسهم شرطة أمن وعناصر مخابرات يلفقون التهم لمن لا يعجبهم من الأساتذة ويكتبون تقاريرَ زائفة يرفعونها لجهاتهم الأمنية والمخابراتية المختصة يرفعون نسخاً منها لرؤساء الأقسام أو لعميد الكلية مباشرةً أو لأحد معاونيه وخاصة المعاون للشؤون الإدارية أو المعاون لشؤون الطلبة. قلت نشط في هذه الأجواء الشاذة البعيدة كل البعد عن روح وتقاليد البحث والتعليم العالي وما يُسمى بحرمة الجامعات ... نشط مزاج التنكيت الساخر ورواية النكات بل وحتى نظم الشعر تزجية لوقت الفراغ القاتل . كان الصديق الدكتور جواد سلمان البدري هو العنصر الساخر الأكثر نشاطاً تحت هذه الظروف غير الطبيعية وكان جريئاً مندفعاً لا يحذر ولا يخشى أحداً وقد كنا جميعاً على يقين أنَّ [[ للحيطان آذانا ]] تسجل أو تنقل لرؤساء الأقسام ولعناصر أمن ومخابرات البعث كل كلمة ينطق بها هذا الأستاذ أو ذاك من غير البعثيين ولا سيما أؤلئك المحسوبين على اليسار العراقي وخريجي جامعات الأقطار الإشتراكية . كان المرحوم يتنقل ما بين مكاتب أصدقائه وزملائه في قسم الكيمياء يروي لهم آخر ما سمعه أو إبتدعه هو من نكات وسخريات لاذعة حول قانون ومهزلة أصحاب الكفاءات حيث حاول البعثيون شراء أساتذة الجامعات بسيارة ومضاعفة الراتب الشهري وقطعة أرض طال أمد إستلامها إذ ْ مرت ثلاثة أعوام ( 1975 ـ 1978 ) ولم نستلم قطعة الأرض هذه ، وما زال معي رقم القطعة التي خُصصت لي [ 542 / 9 /11 مقاطعة 2 الزعفرانية ] ولا أعرف مصيرها بعد أن صادرها البعثيون خلال فترة غيابي القسري عن العراق . أتذكر جيداً وقد زار كلية العلوم أحمد حسن البكر ليجتمعَ بأساتذة الكلية وفي ذاك الإجتماع سألهم عن أمورهم بعد تطبيق قانون رعاية أصحاب الكفاءات وهل إستلموا قطع أراضيهم ... قام الصديق المرحوم أستاذ الفيزياء الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب معترضاً قائلا ً : عن أية قطعة أرض يتكلم السيد الرئيس ؟ أخرج من جيبه قطعة صغيرة دائرية سوداء من البلاستيك السميك محفوراً عليها رقماً معيناً كتلك التي ما زلتُ أحتفظ معي بها ... أخرجها من جيبه ورفعها بكف يده عالياً قائلاً : لم نستلم سيادة الرئيس إلا هذه ( الفيشة ) فضجت القاعة بالضحك !! من مظاهر السخرية بهذا القانون وبأصل فكرته أتذكر محاضرة ألقاها في قسم الكيمياء أستاذ بريطاني إبتدأ محاضرته بعرض سلايد تظهر فيه سيارة مرسيدس أشار إليها بيده بدون حياء قائلاً : هذه دكتوراه عراقي !!
This is an Iraqi Ph.D.
إستهجن جميع الحضور هذه النكتة البايخة إلا ذلك البعثي الخبيث الذي رتب له هذه الزيارة بدعوة خاصة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي .
أعود لصديقي الدكتور جواد سلمان البدري الرجل الشجاع . إذا أراد الذهاب لقضاء حاجة في بيوت الراحة قال هازئاً ساخراً إني (( ذاهب لأتفرّغ )) إشارةً لقانون الكفاءات الذي سميَّ كذلك بقانون التفرغ العلمي . ثم نظم عدة أبيات شعرية لا يحضرني منها إلا مطلعها حيث يقول :

هل تدري ما فعلت بنا الأبحاثُ
الجيبُ خالٍ والعشا كرّاثُ

الرحمة الواسعة لك يا صديقي جواد أبي مصطفى . لاحقه البعثيون حتى أبعدوه معي عن كلية العلوم في قائمة الإبعاد الكبيرة الأولى ربيع عام 1978 التي ضمت 76 أستاذاً من مختلف الجامعات العراقية . رأيته بعد إبعادنا ذات يوم جالساً أمام طاولة صغيرة جداً في أحد ممرات المديرية العامة للبحث والرقابة الصناعية كثير التدخين أمامه ستكان شاي ثقيل جداً ... سألته عن أحواله وكيف يقضي وقته في وظيفته الجديدة فقال : كما ترى عطّال بطّال صرت عرضحالجي ... في إشارة للطاولة الصغيرة أمامه تماماً مثل طاولات عرضحالجية المحاكم في العراق .
لقد أعدم صدام حسين المدير العام لهذه المديرية المرحوم غازي إبراهيم أيوب في مجزرة تموز 1979 مع باقي القياديين البعثيين محمد عايش ومحمد محجوب وعبد الخالق السامرائي وغيرهم . وكان غازي في عين الوقت رئيساً لنقابة الكيميائيين العراقيين .
أما الصديق الدكتور محمد سعيد إبن السليمانية وعميد كلية الآداب في جامعتها سابقاً فقد إلتقيته في بغداد وسألته ماذا يعمل في بغداد فأجاب ساخرا : ( تيتي ) أي قاطع تذاكر قطارات ... ضحكتُ طويلاً وسألته ولماذا هذه الشغلة ؟ قال لأنهم نقلوه من عميد كلية الأداب في جامعة السليمانية إلى ديوان وزارة النقل والمواصلات في بغداد ...
كان قرار البعثيين أن يحرموا غير البعثيين من التمتع بإمتيازات هذا القانون الأمر الذي يدل على حقدهم وأنانيتهم ونذالتهم في التمييز بين المواطنين العراقيين . وكان هذا شأنهم مع غير هذا القانون إذْ حرموا أساتذة الجامعات من غير البعثيين والموالين لهم من حق التمتع بالمنح الدراسية والتفرغ العلمي والزمالات وغيرها من الحقوق العلمية والأكاديمية .


هامش
وقّع قرار شمولي وبقية أساتذة وغيرأساتذة الجامعات العراقية من حَمَلة شهادتي الماجستير والدكتوراه بقانون رعاية أصحاب الكفاءات سفيرُ العراق الحالي في لندن الدكتور صلاح الدين الشيخلي نيابة ً عن رئيس هيئة رعاية أصحاب الكفاءات ( أظنه الطبيب المغضوب عليه عزت مصطفى ) . تصدرت كتب قرارات الشمول عناوين مثيرة من قبيل :
ـ رئاسة ديوان رئاسة الجمهورية
ـ هيئة رعاية أصحاب الكفاءات
ـ مبنى وزارة التخطيط ( وُضعت هذه الجملة بين أقواس )
وكتب مقابل هذا الكلام من الجهة اليسرى :
العدد / أراضي / 71
التأريخ / 5 / 5 / 976

وتم َّ توجيه هذا الكتاب بالصيغة التالية :
إلى / أمانة العاصمة
الموضوع / تأييد.

هل يستحق موضوع منح شريحة معينة من مواطني العراق قطعاً لغرض بناء مساكن كل هذه الضجة وكل هذه الكتب والسبل المعقدة ؟ هل كان وراء ذلك غباء سياسي ـ إجتماعي أم خبث ودهاء متعمد يستهدف أشاعة أكبر قدر ممكن من الدعاوة السياسية لحزب البعث الحاكم ؟ لقد قسّم البعثيون ، وفق قانون أصحاب الكفاءات هذا ، قسّموا أصحاب الكفاءات إلى فئتين فئة كفاءات داخل وكفاءات خارج ... تماماً كحال كرّادة داخل وكرّادة خارج في بغداد خصّوا كفاءات الخارج بإمتيازات إضافية لم يتمتع بها زملاؤهم من الداخل [ كرادة داخل ] .
غدت كلمة (( كفاءات )) في ذلكم الحين لفظة للسخرية والتندر بعد أن غرقت بغداد خاصة ً بسيارات المرسيدس الألمانية الصنع حيث رأى البغداديون البعضَ ممن يقودون بعضها مَن لم يقد ْ دراجة هوائية في عموم حياته . أعرف بعضاً آخر من هؤلاء إستأجروا سائقا وطافوا الكويت والإمارات العربية المتحدة بحثاً عن مرسيدس ... لأنهم أصلاً ما كانوا يعرفون كيف يقودون سيارة !! وأعرف آخرين ما كان في مقدورهم تدبير ثمن السيارة فتعاقدوا مع بعض المغامرين والطامعين بمرسيدس من التجار والمتمكنين على تنفيذ صفقة يتم بموجبها تنازل صاحبها الأستاذ عنها مقابل سيارة ( لادا ) روسية . رفض أحدهم تنفيذ هذا العقد فهدده مموله بالقتل إنْ لم ينفذ َْولا أتذكر كيف سارت بعد ذلك الأمور . كما خان آخرُ العهدَ مع شقيقه ولم يتنازل له عن السيارة بل دبّر المبلغ الذي إستلفه من الشقيق فحدثت بينهما أزمة خطيرة تقاطعا على إثرها لكأنهما ما كانا شقيقين لأم واحدة وأب واحد . قصص أخرى كثيرة حدثت بسبب قانون رعاية أصحاب الكفاءات هذا . أما فقراء أساتذة الجامعات فلقد إكتفوا بشراء سيارات روسية من نوع فولكا أو لادا . وجماعة أخرى من هذه الفئة الفقيرة إحتفظت بسياراتها القديمة . مأساة .
أختم هذا الموضوع بطريفة حصلت معي . كنتُ في ذلك الوقت ، في شهري تموز وآب عام 1975 أسكن بيتاً في حي المهندسين في المنصور من بغداد . وكنت في هذا الوقت أملك سيارة المانية صغيرة فولكس واكن قبل شراء سيارة الكفاءات . رأتني جارتنا ذات صباح متجهاً لتشغيل سيارتي فسألتني بجد : أين سيارة الكفاءات ؟ سيارتك هذه ليست كفاءات !! إمرأة ربة بيت بسيطة إلتقطت الحدث كما هو وبدقة فصارت تميز بين السيارات أيها كفاءات وأيها ليست كذلك !! البعض منا صار مع سيارات الكفاءات يشد حزام الأمان على صدره ، كما هو متبّع في الغرب ، وكان ذلك بدوره موضوع تنكيت وتعليقات وسخرية لأنَّ هذه الظاهرة ما كانت معروفة أو شائعة في العراق يومذاك . لقد نجح البعثيون أولاً وآخراً في الضحك على أساتذة الجامعات وجعلوا من بعضهم مسخرة المساخر. بل وتجرأ أستاذ بعثي على القول لزميل له في نفس القسم والكلية أبدى بعض التذمر من مسالة التفرغ والدوام من الساعة الثامنة صباحاً حتى الخامسة عصراً ... قال له وبالحرف الواحد : يموت الزمال بكروته ... أي يموت الحمار بأجرته !! وهو تعبير معروف في العراق . أما زمن الحرب مع إيران فكنا خارج العراق نسمع بالأعاجيب منها وزن الأستاذ قبل أن يستلم راتبه الشهري !! حدثني صديق كان أستاذاً في الجامعة المستنصرية أنهم كانوا ساعة إستلام رواتبهم يقفون في طابور طويل مهما كان الموسم صيفاً أو شتاءً منتظرين مجيء دورهم للوزن . قال لي إنَّ أحد الأساتذة ممن طفحت روحه ورئته ونفد صبره من هذه المهزلة صار يصوّت كما الخروف (( ماع ماع )) ... وحين إنتبه المسؤول البعثي أو مسؤول الأمن في الكلية لهذا الصوت الغريب راح يسأل عن صاحبه ولكن الكل نفوا أن يكونوا قد سمعوا صوت خروف !! كانوا متضامنين في وجه المحنة . هذا غيض من فيض مما كان يجري زمن حكم البعث في العراق من مهازل ومآسٍ وكوارث وآخرها سقوط العراق بفضل رعونة وجنون قائدهم الضرورة صدام حسين المجيد .


24.07.2008

free web counter